وقع الخلاف بين الأصحاب “رض” في مفطرية الإرتماس فأختلفوا على أقوال:
الأول: أنه يبطل الصوم فيوجب القضاء والكفارة قاله الشيخان والمرتضى وابن البراج[1].
الثاني: أن الصوم صحيح لا يبطل به لكن الإرتماس محرم وهو مختار الشيخ في الاستبصار والمحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في المختلف والمنتهى والمحقق الثاني في حاشية الإرشاد والشهيد الثاني وصاحب المدارك[2].
الثالث: البناء على عدم المفطرية وكراهة الإرتماس، كما يظهر من السيد فيما حكاه في التذكرة وهو ظاهر ابن إدريس ايضاً وكذا حكاه في المختلف عن العماني[3].
الرابع: أنه يبطل الصوم لكنه يوجب القضاء فقط دون الكفارة.
فتحصل أن الأقوال أربعة ترجع في مضمونها إلى قولين المفطرية وعدمها ثم يختلف كل قول في بعض الخصوصيات.
وكيف كان مقتضى الأصل هو عدم المانعية عن صحة الصوم كما أن مفاد الكتاب الشريف هو عدم المفطرية فلا بد في رفع اليد عن هذين من ملاحظة النصوص الخاصة.
فنقول: استدل للقول بالمفطرية بمجموعة من النصوص:
منها: صحيح حريز عن أبي عبدالله “ع” قال: لا يرتمس الصائم ولا المحرم رأسه في الماء[4].
أقول: ذكر يونس بن عبدالرحمن أن حريز لم يروِ عن أبي عبدالله “ع” إلا روايات أربع مباشرة وإلا فهو يروِ عنه بواسطة وهذا مدعاة للتأمل في الخبر فتأمل.
ومنها: صحيح الحلبي عن أبي عبدالله “ع” قال: الصائم يستنقع في الماء ولا يرمس رأسه[5].
ودلالتها واضحة لأن النهي في المركبات إرشاد للمانعية والفساد.
ومنها: صحيح محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر “ع” يقول: لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والإرتماس[6].
لأن المتفاهم من الإضرار في المقام هو إخلاله وإفساده للصوم. ويؤيد هذه النصوص خبر الخصال عن أبي عبدالله “ع”: قال: خمسة أشياء تفطر الصائم الأكل والشرب والجماع والإرتماس في الماء والكذب على الله وعلى رسوله والأئمة[7]. ولكن للرفع في سنده جعلناه مؤيداً.
وكذا خبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله “ع” قال: يكره للصائم أن يرتمس في الماء[8].لأن الكراهة في النصوص أعم من الكراهة المصطلحة والحرمة.
إلا أن مقابل هذه النصوص ما يصلح للمنع عن المفطرية لكن وقع الخلاف في أن مفاده الحرمة التكليفية أو الكراهة وهو موثق إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله “ع”: رجل صائم ارتمس في الماء متعمداً عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: ليس عليه قضاءه[9].
أقول: لا يخفى أن هذا الخبر مما تفرد الشيخ “ره” بنقله وقد عرفت منا أن القاعدة الأولية عندنا في متفرداته عدم الحجية حيث نجعل ذلك شاهداً سلبياً إلا مع وجود شواهد إيجابية وفي المقام لما كان الخبر موافقاً لمقتضى الكتاب في عدم المفطرية وكون فتوى كثير من الأصحاب قدماء ومتأخرين عليه كفى ذلك للوثوق بصدوره.
ومن الواضح حصول المعارضة بين الدليلين، وقد يجمع بينهما جمعاً دلالياً بأحد نحوين:
الأول: أن تحمل موثقة إسحاق على عدم المانعية وتحمل النصوص الدالة عليها على الحرمة التكليفية، ويشهد لهذا الجمع تعبيره “ع” في ذيل الموثق بقوله: ولا يعودن. حيث أن النهي ظاهر في الحرمة.
وهذا الوجه ممنوع لأن لازمه حرمة الإرتماس في الصوم المندوب لإطلاق الأدلة مع أنه لا يلتزم به أحد. على أن المتعارف بينهم في مثل المقام الذي يتضمن النهي والرخصة هو الجمع بينهما بالحمل على الكراهة الوضعية وعلى هذا يكون قوله: ولا يعودن. إشارة لذلك.
فتحصل أن الأقوى هو القول الرابع أعني عدم مانعية الإرتماس لكنه مكروه كراهة شديدة.
لا يقال: إن هذا الجمع لا يتم في صحيح محمد بن مسلم لظهوره في المانعية.
فإنه يقال: لما ورد من الخارج قرينة مانعة من إنعقاد الظهور في معناه الأولي لزم رفع اليد عن ذلك مثله مثل بقية الموارد.
ومما ذكرنا تعرف ضعف ما أفاده بعض الأعاظم “ره” في منع الجمع بحمل النصوص المانعة على الكراهة[10].
هذا وقد تصدى بعض الأعاظم “ره” للجواب عن الموثقة بجوابين طوليين:
الأول: إن نصوص المانعية مستفيضة مشهورة بحيث يعلم أو يطمأن بصدورها عنه “ع” ولو إجمالاً، بينما هذه رواية شاذة لا يعول عليها فلا تصلح لمقاومة تلك النصوص فتسقط عن الإعتبار.
الثاني: مع التنـزل عما ذكر والقول بإعتبار الموثقة فإن التعارض مستقر فلا محيص عن الترجيح وهو مع أدلة المانعية لأن الموثقة موافقة للعامة لقول الحنابلة بالكراهة فتحمل على التقية وتطرح لأن الرشد في خلافهم[11].
ويلاحظ عليه في جوابه الأول: أن طرح الشاذ وترجيح المشهور مستنده مقبولة عمر بن حنظلة وهو “قده” لا يرى حجيتها فكيف يركن إليها خصوصاً مع أنه لم يرد مضمونها في شيء من النصوص هذا أولاً.
ثانياً: قد عرفت في عرض الأقوال أن العمل بمضمونها كان معروفاً بين الأصحاب ولم يكن مهجوراً ليقال بشذوذها فتأمل.
نعم المحقق في محله كما هو مختاره أيضاً أن الشهرة الروائية من مميزات الحجة فلعل نظره إلى ذلك والظاهر أن أخبار المنع أشهر، لكن المقام ليس من صغريات التمييز لما عرفت من الجمع العرفي المتقدم.
ويلاحظ على جوابه الثاني أولاً: إن الموثقة موافقة للكتاب وهو أول المرجحات كما أفاد فتقدم على أخبار المنع.
ودعواه “قده” أن الكتاب لا شاهد فيه لإحدى الطائفتين عهد تها عليه حيث أن الموثق يوافق الكتاب في عدم مفطرية الإرتماس.
ثانياً: بعد التسليم بدعواه المزبورة و وصول المقام للترجيح بمخالفة العامة فإن هذا الترجيح مناط بكون الموثقة موافقة لجميع مذاهب العامة بحيث لا توجد مندوحة للتخلص عن الحمل عليها. أما مع موافقتها لبعضهم دون البعض فلا مقتضي لحملها على التقية ترجيحاً بمخالفتهم.
ثالثاً: إن من الغريب جداً دعواه إتقاء الإمام الصادق “ع” ممن لم يولد وهو أحمد بن حنبل.
نعم لو كان مختاره موافق لمختار صاحب الحدائق “ره” من أن الموافقة للعامة أمر تعبدي وليس أمراً عقلائياً كان ما أفاده له وجه مع أنه لا يلتزم بذلك.
——————————————————————————–
[1] المقنعة ص 344.الإنتصار ص 62.النهاية ص 154. المهذب ج 1 ص 192.
[2] الإستبصار ج 2 ص 85 ح 263.المعتبر ج 2 ص 656.المختلف ج 3 ص 401.المنتهى ج 2 ص 565.مدارك الأحكام ج 6 ص 480.
[3] التذكرة ج 6 ص 33.السرائر ج 1 ص 375.مختاف الشيعة ج 3 ص 400.
[4] الوسائل ب 3 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 8.
[5] المصدر السابق ح 7.
[6] المصدر السابق ب 1 ح 1.
[7] المصدر السابق ب 2 ح 6.
[8] المصدر السابق ب 3 ح 9.
[9] المصدر السابق ب 6 ح 1.
[10] مستند العروة ج 1 ص 155.
[11] المصدر السابق ص 156.