اختلفت النظرية المادية عن النظرية الإسلامية في رؤيتها للإنسان، إذ أن النظرية المادية تعتقد أن الإنسان موجود مادي من اللحظة التي انعقدت فيها نطفته في رحم أمه، إلى حين خروجه من هذه الحياة، نعم هو يتكامل في حياته من خلال مروه بمراحل، فإنه يمرّ بمرحلة الصبا، ثم يصل إلى مرحلة البلوغ، ويبلغ بعد ذلك مرحلة الهرم، حتى ينتهي به الأمر إلى مرحلة الشيخوخة ثم يموت.
ووفقاً لهذه النظرية، يعيش الإنسان مجموعة من الأسئلة المرتبطة به، إلا أنه لا يجد إليها جواباً، ، فإنه لا يعلم المصدر الذي قد جاء منه، كما أنه يفتقد إلى الإحاطة بالهدف والغاية التي جاء من أجلها، ولا يعرف إلى أين ينتهي، وأين سيذهب؟
بينما تقوم النظرية الإسلامية تجاه الإنسان على أنه مخلوق مركب من عنصرين: من جسم وروح، أو بدن ونفس. وهذان العنصران ليسا من حيث الإدارة والسيطرة على الآخر في مستوى واحد، بل إن النفس هي التي تتولى عملية الإدارة والسيطرة على الجسم واستخدامه لقضاء حاجاتها، فعندما تتحقق الرؤية بواسطة العين، فإن الرائي في الحقيقة ليست العين، التي تمثل أحد عناصر الجسم، وإنما الرائي في الحقيقة هي الروح، والعين مجرد آلة قد استخدمتها لتحقيق عملية الرؤية، وكذا عند الاستماع لحديث ما بواسطة الإذن، فإن السامع حقيقة هي الروح وليست الإذن، وإنما استخدمت الأذن التي تمثل أحد عناصر الجسم آلة للوصول إلى ذلك، ومثل ذلك يجري أيضاً بالنسبة للرجل، فإن الماشي للمسجد ليست القدم، وإنما هي مجرد آلة مستخدمة للروح للوصول إلى المسجد، وهكذا.
وبالجملة، إن الفاعل الحقيقي للوصول للرؤية مثلاً، أو الاستماع، أو الوصول إلى المسجد، هي الروح فتستخدم هذه الأعضاء من أجل إدراك الواقع.
وعند العود إلى المصادر المعرفية، يجد القارئ تعدداً في الألفاظ مرة، وتعدداً في المعاني أخرى، ما قد يجعله يعتقد تغايراً في المفهوم، فهو يقرأ تارة التعبير بالروح، وأخرى يكون التعبير بالنفس، ما قد يوحي إليه بأنهما مفهومان متغايران، وأنهما ليسا مفهوماً واحداً. وقد يرد التعبير أيضاً بلفظة القلب، وهكذا.
النفس والروح في العلوم:
قد عرفت أن هناك مفاهيم متعددة، وهي النفس والروح والقلب، وهذا يشعر بتعدد المعاني وفقاً لتعدد المفاهيم، ما يوجب ملاحظة موارد الاستعمال لكل واحد منها في العلوم، وعلى رأسها القرآن الكريم.
النفس في القرآن:
لقد أشار السيد العلامة الطباطبائي(قده)[1] إلى استعمال القرآن الكريم النفس في ثلاثة معاني:
الأول: استعمالها بمعنى نفس الشيء وعينه، فلا يلحظ تركبه وإنما يراد أنه هو هو، كما يقال: رأيت الحجر نفسه، أو رأيت زيداً نفسه، وهكذا، وقد استعمل هذا المعنى في حديث القرآن الكريم، عن الذات المقدسة، قال تعالى:- (ويحذركم الله نفسه)[2]، وقال سبحانه:- (كتب على نفسه الرحمة)[3]، ولا ريب أنه ليس المراد من هذا التعبير كونه سبحانه مركباً من نفس وبدن، أو ورح وجسم، لأنه سبحانه وتعالى منـزه عن التركيب.
الثاني: استعمالها بمعنى الإنسان، وهو المركب من بعدين، الروح والجسد، أو النفس والجسم، وهذا في مثل قوله تعالى:- (من قتل نفساً بغير نفس)[4]، فإنه لا ريب أن المقصود به من قتل إنساناً بدون إنسان، ولا يخفى أن الإنسان هنا هو المخلوق المركب من هذين البعدين، البعد المادي المتمثل في القالب والمعبر عنه بالجسم، والبعد المعنوي، وهو عبارة عن النفس والروح.
وهذا المعنى، مختار الفلاسفة والمتكلمين، والمحدثين، كالشيخ الصدوق، والعلامة المجلسي(ره). نعم اختلفوا في شيء من حيثيات النفس، ذلك أن المتكلمين والمحدثين، اعتبروا النفس أمراً مادياً، لكنه لطيف كالجن، لأنه من المخلوقات اللطيفة غير الكثيفة.
هذا وقد اجتمع المعنيان السابقان في قوله تعالى:- (كل نفس تجادل عن نفسها)[5]، لأن النفس الأولى تغاير النفس الثانية، وعليه قالوا بأن الأولى منهما تشير إلى الإنسان ببعديه المادي والمعنوي، بينما المقصود من الثانية ذاتها، وحقيقتها، فلاحظ.
الثالث: أن يكون المقصود منها خصوص الروح التي تكون مقابل البدن، ما يعني انحصار الاستعمال في خصوص البعد المعنوي دون البعد المادي، قال تعالى:- (الله يتوفى الأنفس حين موتها)[6]، فإن المقصود من النفس في هذه الآية الروح كما هو واضح. وقوله تعالى:- (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي)[7].
وقد انحصر استعمال الروح في القرآن الكريم في خصوص معنى واحد، وهو ما يكون مقابلاً للقالب المادي الإنساني.
النفس في الأخلاق:
وقد تضمنت البحوث الأخلاقية ذكر علماء الأخلاق لمفاهيم ثلاثة، فتارة يعبرون بكلمة النفس، وأخرى يكون تعبيرهم بكلمة الروح، وثالثة يعبرون بكلمة القلب، إلا أن ذلك لا يعني تعدد المعاني عندهم، بل إن المستفاد من كلماتهم عود الجميع إلى معنى واحد، وكون الاستعمال للجميع في حقيقة واحدة، وهي الإشارة إلى العنصر المعنوي الذي يرتبط بالبعد المادي في الإنسان.
وبكلمة أخرى، إن علماء الأخلاق يقرون بأن الإنسان مركب من عنصرين، نفس وبدن، ويعبرون عن تلك النفس إما بالنفس، أو بالروح، أو بالقلب، فلاحظ.
النفس في الاصطلاح العرفاني:
وعلى العكس تماماً كان علماء العرفان، فإن المستفاد من كلماتهم أن كل واحد من التعبيرات المذكورة يشير إلى شيء يختلف عن الشيء الآخر، فإنهم وإن اتفقوا وعلماء الأخلاق في أن التعبيرات المذكورة كلها تشير إلى النفس الإنسانية، إلا أنهم لم يجعلوا الجميع من حيث الدلالة على نسق واحد، بل التزموا بأن كل واحد من هذه المفاهيم يشير إلى مرتبة من مراتب النفس، لأن النفس البشرية من المفاهيم المشككة، فجعلوا: النفس تشير إلى عالم الخيال، والقلب يشير إلى مقام التفضيل، والروح تشير إلى مقام الإجمال والبساطة.
مراتب النفس في القرآن:
وما ألتـزم به علماء العرفان من وجود مراتب متفاوتة للنفس، وعدم جعلها مرتبة واحدة، أشير إليه في القرآن الكريم، فقد تضمن أن لها حالات ومراتب ثلاث:
الأولى: النفس الأمارة بالسوء، ويقصد منها النفس التي تمشي على وجهها تابعة لهواها. قال تعالى:- (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)[8].
الثانية: النفس اللوامة، وهي نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على صدور المعصية منه، أو على التثاقل في أداء الطاعة، وهي تنفع الإنسان في عالم الآخرة، وقد تكون سبيلاً لدخوله الجنة، ويعبر عنها اليوم في العلوم الحديثة بالضمير، قال تعالى:- (لا أقسم بيوم القيامة* ولا أقسم بالنفس اللوامة)[9].
الثالثة: النفس المطمئنة، وهي التي تسكن إلى ربها، وترضى بما رضي إليها، فيشعر صاحبها أنه عبد لله سبحانه، لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر، أو نفع أو ضر.
تجرد النفس الإنسانية:
قد عرفت أن النظرية الإسلامية تنظر للإنسان على أنه مخلوق مركب من عنصرين، هما النفس والجسد، وقد نصت الآيات القرآنية على أن الإنسان مخلوق غير خالد، ما يعني أنه لابد وأن يخرج من عالم الحياة هذا وينتقل إلى عالم آخر، وسوف يكون له حياة في ذلك العالم الآخر ، وسوف تكون فيه مجازاة ومحاسبة على كل ما صدر منه.
ولا يخفى أن خروجه من هذا العالم سوف يكون بموته، وانتهاء حياته، إلا أن الذي ينبغي الالتفات إليه هو أن الذي يقع عليه الموت هل هو كلا العنصرين الذين يتركب منهما الإنسان، النفس والجسم، أو أن الذي يصيبه الموت أحدهما دون الآخر؟
إن الإجابة على هذا الأمر تعتمد على معرفة حقيقة النفس، وأنها من سنخ البدن المرتبط بنشأة المادة والطبيعة، أم أنها حقيقة أخرى من شيء آخر ما وراء المادة والطبيعية؟
وينبغي قبل الإجابة عن ذلك الإشارة إلى الفرق بين مصطلحين يذكران غالباً في مثل هكذا موارد، وهما المادي والمجرد، فنقول: هناك مجموعة من الفروق بين هذين المصطلحين:
منها: أن المادي هو الذي يقبل الانقسام والتجزئة، فالورقة مثلاً تقبل أن تنقسم إلى شيئين، وكذا الماء يمكن أن يقسم بوضعه في إناءين، وهكذا. أما المجرد فهو الذي لا يقبل القسمة.
ومنها: إن المادي يقع في دائرة الزمان والمكان، أي أن له زماناً وله مكاناً، فإن وجود شخص في المسجد في الساعة الثانية ظهراً في مكان محدد، يمنع أن يتمكن شخص آخر ليدخل المسجد في نفس الوقت، ويجلس في نفس المكان الذي قد جلس فيه الشخص الأول، وهكذا.
ومنها: إن الأمور المادية تقبل التكامل والخروج من نقص إلى كمال، فالإنسان يولد طفلاً صغيراً، ثم يكبر، ثم يبلغ، ثم يهرم، ثم يشيب ويشيخ، وهكذا، قال تعالى:- (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً)[10]، أما الأمور المجردة فإنها لا تقبل التكامل، بل هي من مبدأها إلى حشرها على شيء واحد.
ثم إنه بعد معرفة الفرق بين المفهومين، يحين وقت الإجابة عن السؤال السابق، وهو المرتبط بحقيقة النفس الإنسانية، وأنها مرتبطة بنشأة المادة، أم أن ارتباطها بنشأة ما وراء المادة؟
لقد قامت الأدلة على أن النفس البشرية مجردة، وليست مرتبطة بعالم الطبيعية والمادة. وقد ذكرت أدلة عديدة في هذا المضمار[11]، نشير لبعضها:
منها: قوله تعالى:- (وقالوا أءذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون)[12]، وهي ناظرة لبيان الشبهة التي منعت الكفار من الإيمان بالمعاد، فإنهم كانوا يعتقدون أن الجسم الإنساني سوف يعرضه البلاء ليكون تراباً، فتضيع أجزائه، فكيف يمكن أن تعاد هذه الذرات التي انتشرت في كل مكان، لتعود إلى خلق جديد. خصوصاً وأن بعض هذه الخلايا قد تفرقت لتكون في جسم إنسان آخر، أو جسم حيوان، فكيف يعقل إعادتها؟
وقد كانت الإجابة الإلهية عن هذه الشبهة، بقوله تعالى:- (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون)[13]، فإن التوفي وفقاً لما جاء في اللغة أخذ الشيء كاملاً، وعليه يكون مقصود القرآن الكريم، أيها الكفار لن يضل شيء منكم، لأن ملك الموت سوف يتوفاكم ويأخذكم بالكامل، دون نقصان، وحقيقتكم هي شيء وراء البدن الذي تفرق وضاع في هذه الأرض، لأن الذي تفرق في الأرض هي أبدانكم وليست نفوسكم، المدلول عليها بلفظ(كم) فإنه يتوفاكم[14].
ومن النصوص الشريفة، ما جاء على لسان النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل[15]. فإن المعية التي بينه(ص) وبين الله تعالى لابد وأن تكون معية خاصة، وليست المعية العامة التي تكون لله عز وجل مع كل شيء سواء كان مادياً، أم كان مجرداً، وهي القيومية، ولابد وأن تكون هذه المعية الخاصة من المسانخة بين الَمَعيْن، والله تعالى مجرد، فيكون من معه مجرداً تجرداً يتناسب مع هذا المقام الخاص.
وكذلك قوله(ص): أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني[16]. فإنه لا ريب في عدم كون العندية المذكورة في الحديث عندية مادية، بل هي عندية خاصة، يكون فيها(ص) بحسب حاله، فلاحظ.
ومثل ذلك ما جاء أنه(ص) قال: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن. ومن الواضح جداً أننا نعتقد عدم مادية أصابعه تعالى، لنفي التجسيم عنه، ما يعني أن قلب المؤمن موافقاً لأصابع الرحمن التي ليست مادية، وهكذا[17].
وقد تحصل مما تقدم، أن الدليل قائم على أن النفس الإنسانية مجردة، وليست مادية، فلاحظ.
منشأ النفس الإنسانية:
من المعلوم أن الحديث عن النفس تارة يكون عن مبدأها، وأخرى يكون من حيث المنتهى، أما بالنسبة للحديث عن النفس من حيث المنتهى، فقد حكي تعدد الأقوال في هذه المسألة، وقد بلغت عند بعضهم ستة وثلاثين قولاً، وعند آخر بلغ عددها أربعين قولاً، وربما كانت هناك عند آخرين أقوالاً أخرى.
نعم عمدة الأقوال في المسألة أربعة:
الأول: أن النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء.
الثاني: أن النفس جسمانية الحدوث والبقاء.
الثالث: أن النفس روحانية الحدوث والبقاء.
الرابع: أن النفس روحانية الحدوث جسمانية البقاء.
ولا يذهب عليك أن المقصود من كونها جسمانية أي أنها مادية، حكمها حكم الطبائع المنطبعة في المادة. وأما المقصود من كونها روحانية، فهي مجردة، وعليه لو قلنا بالنظرية الأولى، فإن ذلك يعني أنها في أول ابتداء أمرها مادية، وروحانية البقاء أي أنها تتكامل إلى أن تنتهي إلى التجرد والروحانية[18].
والصحيح أن النفس مجردة عن عالم المادة وقوانينها، كما أنها في مسيرتها الدنيوية سوف تنتهي إلى عالم التجرد.
وأما الكلام في مبدأها، ونقصد بذلك الحديث عن وجودها قبل حصول عملية الاتصال والارتباط بينها وبين الجسم المادي والقالب الطيني، فهل كانت موجودة قبل وجوده، أم أنها لم تكن موجودة أساساً. هناك نظريتان:
الأولى: وهي النظرية التي تفيد أن الروح مخلوق موجود بعد وجود البدن، وليس موجوداً قبله، وهذا يعني أنه سبحانه وتعالى لا يخلق هذه الروح إلا بعد أن يكون قد أتم خلقة القابل الذي سوف تتصل به، وأنه متى أتم خلقة هذا الموجود المادي من الطين، نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
وقد أختار هذه النظرية الفلاسفة، فتبناه قبل الإسلام، أرسطو، وبعد الإسلام كانت نظرية الفلاسفة المشائين، كابن سينا، وأختاره أيضاً صدر المتألهين الشيرازي، والملا هادي السبزواري(ره).
وخلاصة هذه النظرية أن الأروح لم تكن موجودة قبل وجود الأبدان، وإنما كان وجودها متأخراً رتبة عن وجود الأبدان، كما لا يخفى.
نعم أختلف القائلون بهذه النظرية على رأيـين:
أحدهما: أن الروح لم تكن في بدأ خلقها وإيجادها مادية، بل هي في أصل وجودها مجردة عن المادة وقوانينها، وعليه ألتـزموا بتجردها حدوثاً، أو بتجردها حدوثاً وبقاء. وقد تبنى هذا القول الفلاسفة المشائين، كأرسطو وابن سينا.
ثانيهما: أن وجود الروح في أول أمرها يكون وجوداً مادياً، ثم تترقى حتى تبلغ مرحلة التجرد وتكون مجردة عن المادة وقوانينها، ولهذا ألتـزم القائلون بهذا أن الروح جسمانية الحدوث، روحانية البقاء، فهي تبدأ من نشأة المادة، إلا أنها تتكامل حتى تصل إلى نشأة التجرد. وقد أختار هذا القول صدر المتألهين الشيرازي[19]، والملا هادي السبزواري(قده).
وبالجملة، يتضح من خلال ما تقدم أتفاق القائلين بهذه النظرية على أن الوجود للروح متأخر عن وجود البدن، وأنه لا يكون وجودها إلا بعد أن يتم الباري سبحانه وتعالى خلقة البدن المادي والقالب الطيني، ثم يفيض عليه الروح، إلا أنهما يختلفان في أن الروح هل هي مادية في مبتدأ أمرها، وحصولها، كما أختاره أصحاب القول الثاني، أم أنها مجردة كما أختاره أصحاب القول الأول.
الثانية: إن الأروح مخلوقة وموجودة قبل وجود الأبدان والقوالب الطينية، أي أن الباري سبحانه وتعالى قد خلق الأروح أولاً وقبل أن يخلق الأجسام، ثم بعدما أتم خلقة الأرواح قام بخلق الأبدان. وقد أختار هذه النظرية أفلاطون قبل الإسلام[20]، وتبناه من المسلمين مجموعة من الفلاسفة، وهي الرأي المشهور بين متكلمي الشيعة، وقد أختارها مجموعة من المحدثين. ووفقاً لهذه النظرية سوف تكون النفس الإنسانية روحانية الحدوث، بمعنى أن لها وجوداً روحانياً قبل وجود الجسم، كما أن مقتضى ما ذكر أن وجودها ليس بوجود الجسم، بل وجودها قبل وجوده كما عرفت.
وعليه، ألتـزم القائلون بها بقدم الروح، إلا أن قدمها ليس كقدم الذات المقدسة، ذلك أن قدم الذات المقدسة بالذات، وقدم الروح بالغير، فلاحظ.
وقد تستفاد هذه النظرية من عدة نصوص، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فأسكنها الهواء، فما تعارف هناك ائتلف هنا، وما تناكر هناك اختلف هنا[21]. ودلالتها على المدعى واضحة جداً، ذلك أن مدلولها أن هناك وجوداً سابقاً للأرواح يحصل بينها التعارف فيه في ذلك العالم الذي توجد فيه قبل وجودها في هذا العالم المادي، وما هذا إلا لأنها موجوداً روحانياً قبل وجودها المادي، فلاحظ.
ومثل ذلك ما ورد في قصة أمير المؤمنين(ع) مع رجل أصرّ على أنه يحبه، إلا أنه(ع) أنكر عليه ذلك، وقال له: إن الله خلق الأرواح قبل خلق الأبدان بألفي عام، وعرضها علينا، فما وجدنا روحك في من يحبنا[22].
الدليل القرآني على النظريتين:
ولا يذهب عليك أنه يصعب أن يجزم بمقبولية إحدى النظريتين على الأخرى، فضلاً عن أن يستدل على أي منهما من خلال القرآن الكريم بنحو اليقين والجزم، ومثل ذلك يجري أيضاً بالنسبة إلى النصوص أيضاً. ويستثنى من ذلك لو كان الاستدلال مصدره الإمام المعصوم(ع)، لأنه العالم حقيقة بظاهر القرآن وباطنه، وتأويله وتفسيره، بل بكل معارفه.
هذا وقد يدعى تمامية الرأي الثاني من النظرية الأولى، استناداً إلى قوله تعالى:- (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحماً)[23]. ولا كلام في أن المعنى الذي تتعرضه هذه الآيات هو الحديث عن خلقة البدن والجسم المادي للإنسان. ثم يقول بعد ذلك سبحانه وتعالى:- (ثم أنشأناه خلقاً آخر)[24]. فإن الضمير في قوله(أنشأناه) يعود على الجسم الذي قد عرفت مروره بعدة مراحل، ثم تحول إلى نشأة أخرى، فما هي تلك النشأة الأخرى التي تتحدث عنها هذه الآية؟
إن المستفاد من الآيات الشريفة أن الإنسان قد بدأ من مرحلة مادية، ثم تحول هذا الموجود المادي إلى خلق آخر، وفقاً للآية الشريفة، وهذا ينفي أن تكون حقيقة الإنسان هي المادة، بل مقتضاه أن تكون حقيقته شيئاً آخر وراء المادة، وهي الروح بحيث تتحول المادة إليها.
وبالجملة، إذن يكون الشيء في بداية أمره موجوداً مادياً ثم يتحول إلى موجود مجرد، وهذا التحول من الموجود المادي إلى الموجود المجرد هو القانون المعروف عند صدر المتألهين(قده) بنظرية الحركة الجوهرية.
ومن الواضح جداً أن هذا التحول من حقيقة من حقائق هذا العالم، لابد وأن يكون ضمن قوانين معينة تتحول من شيء إلى شيء آخر، وهذا التحول ليس في أمور خارجة عن ذاتها، وعن حقيقتها، وإنما هو تحول في باطن ذاتها. فقطعة الفحم ضمن قوانين موجودة في عالم المادة يمكنها أن تتحول إلى شيء آخر، وتختلف أحكامها عما كانت عليه قبل ذلك، لأنها قبل وضعها قرب النار كانت سوداء باردة لا نور فيها ولا ضياء ثم صارت حمراء حارة.
والنفس الانسانية بما لها من خصوصيات، لها القدرة على أن تتحول من شيء إلى شيء آخر، ولا ينحصر التحول والتغير في خصوص أعراضها ومظاهرها وظواهرها وأحكامها، بل إن التصميم الإلهي لها جعل فيه القابلية لأن تتحول ذاتها من شيء إلى آخر[25].
كيفية تحول النفس المادية إلى مجردة:
ولعل أبرز ما يسبق إلى الأذهان بعد سماع ما قدم من وجود عملية التحول من شيء إلى شيء آخر، هو كيف يمكن أن تتحول الروح والنفس الانسانية التي بدأت مادية لتكون بعد ذلك مجردة وراء المادة؟
إن الذي يوجب حصول عملية التحول والانتقال من عالم المادة إلى علم التجرد بالنسبة للنفس الإنسانية، هو مقدار ما تتحصل عليه من العلم والمعرفة والعمل الصالح، وهذا يعني أن الموجب لرقيها وتحولها من عالم المادة إلى ذلك العالم هو علمها، ومن الطبيعي جداً أنه لابد وأن يكون ذلك العلم علماً حقاً، وعقائد تامة، لا أن تكون عقائد فاسدة، ولا علماً باطلاً، كما أنه لابد وأن يصاحب العلم العمل الصالح، قال تعالى:- (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)[26].
[1] الميزان في تفسير القرآن ج 14 ص 285-286.
[2] سورة آل عمران الآية رقم 28.
[3] سورة الأنعام الآية رقم 12.
[4] سورة المائدة الآية رقم 32.
[5] سورة النحل الآية رقم 111.
[6] سورة الزمر الآية رقم 42.
[7] سورة الحجر الآية رقم 29.
[8] سورة يوسف الآية رقم 53.
[9] سورة القيامة الآيتان 1-2.
[10] سورة النحل الآية رقم 78.
[11] بحوث في علم النفس الفلسفي، فقد ذكر عشرة أدلة عقلية على تجردها، ثم تعرض لجملة من الشواهد النقلية، فلاحظ ص 97 فما بعد.
[12] سورة السجدة الآية رقم 10.
[13] سورة السجدة الآية رقم 11.
[14] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 351، المعاد رؤية قرآنية ج 1 ص 162-164.
[15] بحار الأنوار ج 18 ح 66 ص 360.
[16] عوالي اللائي ج 2 ص 233.
[17] المعاد رؤية قرآنية ج 1 ص 170-171.
[18] بحوث في علم النفس ص 75.
[19] الأسفار الأربعة ج 8 ص 302.
[20] حكاه عنه في الأسفار الأربعة ج 8 ص 289.
[21] بحار الأنوار ج 58 ص 31.
[22] المصدر السابق ص 131.
[23] سورة المؤمنون الآيات رقم 12-14.
[24] سورة المؤمنون الآية رقم 14.
[25] المعاد رؤية قرآنية ج 1 ص 155-158(بتصرف)
[26] سورة فاطر الآية رقم 10.