25 أبريل,2024

العلاقة الوطنية

اطبع المقالة اطبع المقالة

من المفاهيم التي يكثر تداولها في المحاورات العرفية بين أفراد المجتمعات، مفهوم المواطنة،، فكثيراً ما يذكر هذا المفهوم بينهم، ويتم الحديث حوله، وكثيراً ما يطرح من قبل الباحثين، لما له من أهمية كبرى، ودور بارز، إلا أن ما يلحظ أن الكثير من الذين يتداولون هذا المفهوم في حواراتهم، لا يملكون إحاطة شاملة بما له من أبعاد وحيثيات، وربما لا يملكون حتى تحديد المقصود منه، وما يكون مرتبطاً به من أمور، ويتضح هذا عندما نجد المزايدات التي تصدر من بعضهم حال حديثه عنه، فضلاً عما يلمسه المتابع من عدم موضوعية في التوصيف بهذا المفهوم، وسلبه عن الآخر.

منشأ مفهوم المواطنة:

اختلف الباحثون في تحديد هوية هذا المفهوم، وأنه من المفاهيم التي استفيدت من الحضارة الغربية، وانتقل إلى المسلمين منهم، أم أن له جذوراً وأصولاً في الفكر العربي، فضلاً عن الرسالة الإسلامية. نعم قد اتفقوا على عدم وجود صياغة بصورة مباشرة إليه، وأنه لم يتم تقنينه بصورة تامة منذ البداية، وإنما عرضت عليه مراحل أوجبت تطوره، وصياغته بصورة تكاملية.

وكيف ما كان، فقد تبنى جماعة أنه من المفاهيم المستفادة من الحضارة الغربية، وأشير إلى أن أصوله تعود إلى الفكر الإغريقي والروماني، والذي تضمن تمتع ساكن المدينة بكامل الحقوق السياسية فيها، نعم لم يثبت ذلك لجميع ساكنيها، وإنما كانت تلك الحقوق ثابتة لغير النساء والعبيد والأجانب، فقد منعوا التمتع بذلك.

وقد تطور هذا المفهوم في زمان الإمبراطورية الرومية، فلم يعد منحصراً في خصوص الموجودين في المدينة، بل أصبح يشمل مجموعة من النخب الذين يعيشون خارجها، نعم قد أختلف هذا المفهوم عما كان عليه في العصر الإغريقي، فبعدما كان في ذلك العصر يأخذ المنحى السياسي، ويفيد ثبوت حقوق المتصفين به في هذا المجال، أصبح في عهد الإمبراطورية الرومانية، منحصراً في خصوص الحقوق المدنية، من الجوانب الاقتصادية، والجوانب الأمنية، والجوانب التعليمية، والعلاج والطباطبة، وما شابه ذلك، وأفرغ عن مضمونه السياسي، فلم يعد بإمكان المواطن المشاركة الكاملة في السلطة كما كان سابقاً.

وقد أخذ هذا المفهوم بالاندثار بحلول العصور الوسطى في أوربا، بعدما اندثرت الحضارتين اليونانية والرومانية، وغابت الديمقراطية فيها، حتى ظهر الفكر السياسي العقلاني التجريبي فيها، فأعاد مفهوم المواطنة من جديد بعد اكتشافه، وقد استمر وجود هذا الفكر السياسي منذ القرن الثالث حتى قيام الثورتين الأمريكية والفرنسية، والتي كان لها أبرز الأثر في تأسيس وتنمية نظام حكم مقيد، من صياغة مبادئ واستنباط مؤسسات وتطوير آليات وتوظيف أدوات حكم جديدة.

وقد وسعت الثورة الفرنسية حقوق المواطنة، وإن كانت قد أخفقت في الوصول إلى إعطاء الحق بصورة كلية عادلة لجميع الأفراد،، بسبب وجود التميـيز فيها بين الجنسين، فإنها لم تمنح المرأة حق المشاركة في الانتخاب وتقرير المصير.

وقد بلغ مفهوم المواطنة ذروته، وأخذ حيزه الفعلي والعملي بعدما دشن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، فأصبحت ولأول مرة المواطنة عبر الحريات السياسية حقاً ثابتاً لكل أحد من دون تميـيز بسبب العنصر، أو الجنس، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو رأي الآخر، أو اللغة، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو البلاد، وهكذا[1].

وفي مقابل هذا الرأي، يعتقد بعض المراقبين أن لهذا المفهوم نشأة تاريخية في الوسط العربي، وأنها كانت موجودة في حياة القبائل العربية، ويشهد لذلك موارد، نذكر اثنين منها:

الأول: ما تضمنه القرآن الكريم من حديث حول قصة سبأ، فإن الظاهر أن نظام الحكم فيها قائم على التمثيل النيابي، إلى أن تدرج إلى ما يشبه الإقطاع، ويشهد لهذا ما قصه القرآن الكريم من حديث بين ملكة سبأ بلقيس وبين قومها قبل اتخذاها لقرار مهم، فقد ذكر القرآن الكريم أنها قد وقعت في حيرة من أمرها عندما طلب منها النبي سليمان(ع) التوجه لعبادة الله تعالى دون غيره، وعندها عقدت مجلساً برلمانياً نيابياً على ما يبدو، وطلبت من ممثليه مشاركتها في اتخاذ القرار، قال تعالى:- (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)[2].

الثاني: ما تضمنته وثيقة حلف الفضول، وهي التي اتفق عليها أهل مكة وطبقوها على أرض الواقع، وكانت تنص على احترام الانتماءات ونصرة المظلوم، لأن بعض القرشيـين كان يظلم الغريب، ومن لا عشيرة له في مكة، وقد كان سبب عقد هذا الحلف، أن رجلاً قرشياً ظلم رجل من غير أهل مكة، فاستجار غير المكي بقريش فقاموا وتحالفوا على أن لا يظلم غريب ولا غيره، وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم، وحلفوا على ذلك.

وقد عدّ بعض المؤرخين حلف الفضول أول تجربة ديمقراطية لحماية الأفراد أياً كان دينهم،، أو عرقهم، و مذهبهم، من أي اضطهاد أو قمع.

وقد أولت الشريعة السمحاء حق المواطنة أهمية خاصة في تعاليمها، وتشريعاتها، فحفظت للمواطن حقوقه ورعتها، من دون تميـيز بين الأفراد مهما كانت انتماءاتهم، ويظهر هذا في العديد من المواقف:

منها: المنهج الذي اتبعه الرسول(ص) بعد وصوله إلى المدينة المنورة مع اليهود الذين كانوا يعيشون فيها، فإنه(ص) لم يعمد إلى تغيـير شيء مما كانوا عليه، وإنما حفظ لهم حق الوطنية الذي كانوا عليه، فكانوا يتمتعون بحق المساواة مع المسلمين، وقد كانوا يمارسون حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والدينية، من دون تحفظ أو خوف.

وقد علق النبي(ص) ذلك على شرطين:

أحدهما: الالتـزام بالانتماء الصادق للوطن.

ثانيهما: عدم اضعاف السلطة السياسية القائمة بمساعدة الخصوم عليها.

ويتضح ما ذكرناه من خلال الوثيقة التي عقدها النبي(ص) مع اليهود وبقية أطراف المجتمع المدني حال وصوله إلى الدينة، وهي تمثل المنهاج والدستور الأساس في حق المواطنة الذي كان يلزم على جميع الموجودين في المجتمع المدني الالتـزام به، وقد تضمنت أموراً،:

الأول: التعايش السلمي والأمن الاجتماعي لجميع الأفراد على حد سواء.

الثاني: إعطاء حرية المعتقد والتعبد بما يشاء الفرد، فلم يلزم اليهود(ص) الدخول في الإسلام كما لم يعمد للتضييق عليهم في عقيدتهم.

الثالث: المساواة بين جميع المواطنين المنتمين للدولة.

الرابع: ترسيخ المسؤولية بين الأفراد[3].

ومنها: منهجه الحياتي الذي كان يتعامل به مع المسلمين في الشؤون ذات المصير المشترك، كالحروب، والأمور الاقتصادية، وبعض الجوانب الإدارية، فإن المعروف من سيرته(ص) أنه كان يتخذ منهج الشورى أسلوباً وقانونا للحكم، وهذا يشير إلى حق المشاركة في القرار، وعدم انفراد جهة محددة به[4].

ومنها: صلح الحديبية، فقد ذكر بعض المستشرقين أن الصحيفة التي كتبت في ذلك الصلح أكثر قرباً لمفهوم المواطنة بمعناه الحديث، حيث اتفق الرسول(ص)، ومشركو مكة كشركاء في الوطن. ويساعد على ذلك أمران:

أحدهما: أن الصبغة التي تضمنتها الاتفاقية المذكورة، كانت صبغة دنيوية، ولم تكن صبغة دينية، وقد تضمنت هذه الوثيقة بصبغتها الدنيوية، ثبوت حق المساواة بين كافة الأطياف المتعايشة في مجتمع واحد مهما كانت الاختلافات بينها.

ثانيهما: توقيع النبي(ص) عليها بصفته الشخصية، وليس بصفته الدينية، فقد امتنع سفير قريش أن تكون الوثيقة معنونة بعنوان: رسول الله.

ولم يختلف المنهج الذي سار عليه أمير المؤمنين(ع) عما كانت عليه سيرة النبي(ص) عندما تسنم قيادة الامة من خلال الخلافة الظاهرية، وهو نوعاً ما، الذي كان عليه السابقون عليه في منصب الخلافة، ومن جاء بعده منهم ولو في الجملة، لأن الكثير منهم قد أخفق في تطبيق حق المواطنة الذي كان عليه النبي(ص)، كما يلحظ ذلك كل من يقرأ التاريخ، فقد كان الرجل الثاني يمايز بين المسلمين في العطاء، فيولي العرب شيئاً اضافياً عما يعطيه للعجم، وقد كان لقريش حظ وافر عنده، وأما الثالث، فقد أقطع أرحامه الدولة دون غيرهم حتى من بني قبيلتهم، وأما شأن معاوية فهو أوضح من أن يتحدث فيه، وهكذا من جاء بعده.

وقد استمر ذلك حتى وصل الحكم للدولة العثمانية، والتي فرضت إشكالية المواطنة بمعناها الحديث على الفكر الاسلامي نتيجة وقوع التجزئة والتحديات الخارجية[5].

معنى المواطنة:

ثم إنه بعدما تبين لنا أن مفهوم المواطنة ليس من المفاهيم المستفادة من الثقافة الغربية، بل إن له جذوراً عربياً، وأصولاً إسلامية، قد أسسها رسول الله(ص)، ورعى أمرها واعتنى به أمير المؤمنين(ع) في مواقف متعددة، حتى وهو بعد لم يستلم السلطة الظاهرية، وعندما كان خليفة الأمة خلافة ظاهرية انجلت تلك الأمور واضحة لكل أحد. يلزم تحديد المقصود منها، والمقومات الأساسية التي تحدد تحققها، لما عرفت من ترتب جملة من الحقوق الثابتة للمواطن، على صدق عنوان المواطنة عليه.

ولا يذهب عليك أنه يلزم في تحديد هذا المفهوم من ملاحظة الجذر الذي قد انطلق منه، وهو الوطن، وبيان المقصود منه.

إن الرجوع لكلمات أهل اللغة يفيد أن المقصود من الوطن هو المنـزل الذي يقيم فيه الإنسان، ويعبر عنه بموطنه، ومحله[6].

وقد ابتلي هذا المفهوم كغيره من المفاهيم بشيء من الخلط والتشويش في دلالته، أوجبت اختلاطه بمفاهيم أخرى، وتداخله معها، فاختلط بمصطلح النظام، وتماهى مع الدولة، وارتبط مع الأمة، ما جعل حدوده عرضة للعبور والتآكل.

ولم تخرج تحديدات مفهوم الوطن في كلمات الباحثين عما جاء في اللغة، وأن المقصود منه الدار والمسكن والمحل ومسقط الرأس وما شابه ذلك. نعم قيد السياسيون صدقه مضافاً للحيز الجغرافي، بثبوت حقوق له فيه، وواجبات عليه. ومن حقوقه أن يأمن على نفسه فيه، وعلى أمواله[7].

وعليه، يمكن القول في تحديده بأنه الحيز الجغرافي الذي تعيش عليه مجموعة من الناس، يتفاعلون مع بعضهم البعض، ومع الأرض التي يقطنون عليها.

ومن خلال ما تقدم يتضح أن هناك فرقاً بين مفهوم الوطن ومفهوم الدولة، لارتباط مفهوم الوطن في أذهان العرب بخصوص الحيز الجغرافي الذي يعيش فيه مجموعة من الناس، ويتفاعلون مع بعضهم البعض، ومع الأرض التي يعيشون عليها، بينما المقصود من مفهوم الدولة، هو البعد السياسي المرتبط بالناحية السلطوية، والبعد الإداري التنظيمي بين الأفراد.

ولم يختلف التحديد الفقهي للوطن عند علماء الطائفة، عما تضمنته المعاجم اللغوية، وأنه عبارة عن الحيز الجغرافي، نعم قد أخذ الأعلام(رض) أمراً يمكن جعله عنواناً طارئاً، أو حكماً ثانوياً أن هناك مفهوماً كلياً لا تحده الحدود الجغرافي بحيث تنتفي عند النيل منه، أو الاساءة إليه، وهو الإسلام، فإنه متى ما تعدي عليه، لم يكن الحيز الجغرافي مانعاً من الانطواء في أي جهة دفاعاً عنه، فلاحظ.

وأما المواطنة، فقد ذكرت المصادر اللغوية في حقيقتها أنها صفة تدل على المشاركة والمطاوعة.

وهذا يعني أنها متقومة بعنصرين، وهما: الاشتراك، والانقياد.

وقد تضمنت الموسوعات العلمية تحديداً لها، فقد جاء دائرة المعارف الأمريكية أنها: عبارة عن علاقة بين فرد ودولة تتضمن عضوية الفرد السياسية الكاملة في الدولة وولائه الدائم لها.

ويظهر من هذا التعريف أن ثبوت هذه العلاقة بين الفرد والدولة تكفل للفرد حقوقاً أبرزها التعريف في الحق السياسي، لأن معنى العضوية السياسية هو المشاركة في القرار، وعدم استقلالية جهة معينة به دون غيرها، فليس لأحد إقصاء شخص ممن يملك حق المواطنة كما لا يخفى.

وقد اعتبرتها موسوعة السياسة صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق، ويلتزم بالواجبات التي يفرضها انتماؤه إلى وطن.

ويعتبر هذا التعريف لحقيقتها أوضح من التعريف الذي تضمنته دائرة المعارف الأمريكية، وإن كان التعريفان يلتقيان بعضهما مع بعض، إلا أن الوضوح في التعريف الثاني، فلاحظ.

والظاهر أنه لا يوجد اختلاف بين التعريف اللغوي للمواطنة، وما تضمنته الموسوعات العلمية في بيان حقيقتها.

عناصر المواطنة:

وعلى أي حال، فإنه يمكن الخلوص من خلال ما تقدم، إلى أن المواطنة التي يستحق من اتصف بها كافة الحقوق، وتكون عليه الواجبات تتقوم بعنصرين أساسين، وهما:

الأول: الانتماء إلى مكان محدد بحيث يحمل الفرد هوية ذلك المكان من دون أي اعتبار للانتماء إلى هوية أخرى. وهذا يستوجب الاعتراف بالعضو الآخر من دون تميـيز، وأن له حق المشاركة في بناء الوطن، والدفاع عنه، والحفاظ عليه، والسعي للرقي والتقدم به.

الثاني: وجود التفاعل بين الفرد ومحيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه، بوجود مجموعة من الحقوق الثابتة له، كما أن هناك جملة من الواجبات يلزم منه أدائها والقيام بها[8].

خصائص المواطنة:

يخطئ من يعتقد أن المواطنة تعني مجرد صفة وضعية تعطى لكل من حمل صفة قانونية لدولة ما، بحيث أن القوانين الدولية تنسبه إليها، وتطلق لفظ المواطن على كل من حمل جنسيتها.

بل الصحيح أن المواطنة تعني الانتماء للحيز الجغرافي والتفاعل مع أرضه، والأفراد الذين يعيش معهم فيه، وهذا يعني أن تكون له مجموعة من الحقوق الثابتة، فيكون شريكاً في صياغة القرار، وفي تدبير وتسيـير الشؤون المحلية والعامة، ولا يكتفى بمجرد وجود النسبة القانونية له إلى ذلك البلد، من دون أن يكون له دخالة في صناعة أي قرار من قريب أو بعيد.

حقوق المواطن:

ثم إنه بعد الفراغ من تحديد حقيقة المواطنة، وأنها تستدعي ثبوت مجموعة من الحقوق لكل من اتصف بها، وهو المواطن، يلزم التحديد لتلك الحقوق الثابتة له، خصوصاً وأن هذه الحقوق هي أكثر ما ركز عليه رواد المواطنة، والباحثون عنها، وقد ذكرت تلك الحقوق على مستويات متعددة:

الأول: على المستوى الاقتصادي.

الثاني: على المستوى القانوني.

الثالث: على المستوى الأمني.

الرابع: على المستوى المعنوي.

الخامس: على المستوى السياسي.

المستوى الاقتصادي:

إن حق المواطنة يكفل للمواطن حقوقاً في المجال الاقتصادي تلزم الدولة التي انتمى إليها تحقيقها إليه، فإن له حق التجارة والعمل، كما أن له حق الملكية مطلقاً وبدون قيود، ولا يوجد حد لأمواله التي جناها بطريقة شرعية. كما أن على الدولة أن توجد فرص عمل للمواطنين، وعليها السعي من أجل إلغاء حالات الفقر في المجتمع.

المستوى القانوني:

ونقصد بالقانون في البين قانون الأحوال المدنية، والأحوال الشخصية، ويتمثل حق المواطن في المقام في المساواة بين جميع أفراد الوطن الواحد دون أن يكون هناك ما يوجب تفريقاً وتمييزاً لأحد على الآخر، في كافة المجالات والسبل، فلا يكون هناك تميـيز بسبب الانتماء الديني، ولا بسبب الانتماء المذهبي، أو الانتماء الفكري، ولا يكون هناك تفريق بحسب الأصل، ولا بحسب الجنس، فالجميع يجمعهم سقف وطن واحد، ويحملهم تراب وطن واحد، ما يجعل الجميع سواسية دون وجود ما يميز أحد على الآخر.

المستوى الأمني:

لا يخفى أن الحديث عن المستوى الأمني، له بعدان، لأنه تارة يكون الحديث عن أمن المواطن كفرد، وأخرى يكون الحديث عن أمنه بنحو المجتمع، وهو الذي يعرف بالأمن الاجتماعي، ويقصد منه سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي تتحداها، وما يتعرضون له من قتل، أو اختطاف، أو الاعتداء على الممتلكات، سواء بالتخريب، أم بالسرقة. فمسؤولية الدولة، وحق المواطن يكمن في الحد من الجرائم، وبث الأمن بين أفراد الوطن، وحماية كل واحد منهم. وليس للدولة التقصير في ذلك، والتقاعس في تحقيق ذلك.

المستوى المعنوي:

ونقصد منه حفظ كرامة المواطن، والقيام باحترامه، والتعامل معه على أساس أنه شريك في الوطن، وأحد أفراده، فلا يسوغ لأحد الاستهانة به، فضلاً عن استصغاره، أو تحقيره، أو الاساءة إليه، وهكذا. خصوصاً وأن القوانين الحقوقية ركزت على حفظ حيثيات الأفراد وكرامتهم، واعتبرت الاعتداء على حيثية الآخرين وكرامتهم جريمة يستحق فاعلها السجن، وقد شرّع الإسلام، لذلك حدوداً في هذا المجال، كما يجد ذلك من يراجع المصادر الفقهية[9].

المستوى السياسي:

إن مقتضى التعريف الذي تقدم لبيان حقيقة المواطنة يستوجب أن يكون المواطن عنصراً فاعلاً في الحياة السياسية، ومعنى فاعليته أن يكون له دور في العملية الانتخابية، والترشيح والاعتراض، والتظاهر.

ومن الطبيعي أن ثبوت هذه الحقوق تمنع أن يكون المواطن عرضة للمعاقبة والسجن لممارسته شيئاً منها، لما عرفت من أنها حقوق ثابتة له، فكيف يعاقب أو يسجن عليها؟! مضافاً إلى أن شرعية السلطة تدور مدار وجود المواطن، فإن شرعيتها مستمدة منه، فإذا لم يكن للموطن الحق في التعبير عن رأيه، فإن ذلك موجب لفقد السلطة شرعيتها، لأن شرعيتها منه، وهو لا رأي له، فكيف تكون لها شرعية[10].

التشكيك في المواطنة والانتماء للوطن:

ولنختم الحديث حول تهمة تعد من أبشع التهم التي يعاقب عليها القانون الحقوقي والقانون الإسلامي، وهي التشكيك في وطنية المواطن والانتماء إلى الوطن، فإن مقتضى ما عرفت من بيان لحقيقة المواطنة، يقضي أن ليس لأي أحد التشكيك في وطنية فرد من الأفراد، فضلاً عن أن يسلبها منه.

ولا ريب أن مثل هذه الأمور من الاتهام بالفساد، ولا يبعد دخوله تحت عنوان القذف، وبالتالي يكون المدعي به داخلاً تحت عنوان القذف، ويكون مستحقاً للعقوبة، لأنه قد تعدى عليه، وأسقط حيثيته، كما لا يخفى.

على أنه ليست عملية نفي الوطنية رهينة أهواء، أو رغبات، بحيث متى شاء شخص أن يثبتها لفرد أثبتها، ومتى أراد أن ينفيها عنه نفاها، ما يجعل القضية خاضعة فقط للمزايدات، فإن الذي خول لك المزايدة على وطنية الآخرين، يخول لهم أيضاً المزاودة على وطنيتك، وهكذا.

ومما يؤسف له، ما وصل له واقع أبناء الوطن الواحد، حيث تدخلت مجموعة من العناصر في تحديد الهوية الوطنية، ومن أبرزها البعد المذهبي، فاستغل الاستعمار الغربي اللعب على وتر الطائفية، رغبة منه في تفكيك لحمة أبناء الوطن الواحد، من خلال إثارة النعرات الطائفية بينهم، مع أنك قد عرفت أن عنوان الوطنية ينفي كل هذه الأمور، ويلغيها، فتدبر.

[1] مجلة المنهاج العدد 54 ص 111-115(بتصرف)

[2] سورة النمل الآية رقم 33.

[3] يستفاد ما ذكرناه من وثيقة المدينة المضمون والدلالة أحمد قائد الشعبي، كتاب الأمة العدد 110 ص 62.

[4] لا يذهب عليك أنه ليس من موارد الشورى مسؤولية قيادة الأمة الإسلامية، لأننا نعتقد أنها قضية سماوية، تعتبر امتداداً للنبوة، وعليه يكون تعيـين الخليفة بعد النبي(ص) من قبل الله تعالى، وليس من قبل الناس، فلا تغفل.

[5] مجلة المنهاج العدد 54 ص 116-117(بتصرف).

[6] لسان العرب مادة وطن.

[7] المعجم الفلسفي ج 2 ص 580.

[8] مجلة المنهاج العدد 54 ص 108-111(بتصرف).

[9] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 227.

[10] مجلة المنهاج العدد 54 ص 123-124(بتصرف).