الحق الإلهي

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
302
0

قال الإمام زين العابدين(ع): فأما حق الله الأكبر عليك، فأن تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل الله لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منهما[1].
تضمنت الآيات الشريفة، والنصوص المعصومية الحديث عن الحقوق الإلهية، ويستفاد منها التعدد، وعدم الانحصار في حق واحد، فورد في بعضها الإشارة إلى حق الطاعة، وجاء في بعض آخر الحديث عن حق الشكر، وفي قسم ثالث الحديث عن حق التوكل، وكذلك تضمنت الحديث عن حق العبادة أيضاً.

والظاهر أن الحقوق المذكورة ليست بمستوى واحد، بل يوجد بينها تفاوتاً، فليست كلها في مرتبة واحدة، فبعضها أكبر وأعظم من البعض الآخر، كما يظهر ذلك من تعبير الإمام زين العابدين(ع)، عن العبادة بأنها حق الله الأكبر.
هذا وسوف ينصب حديثنا فعلاً حول هذا الحق الأكبر الذي تحدث الإمام زين العابدين(ع) عنه، وكيفية أدائه.

لقد تضمن حديثه(ع) أن أداء هذا الحق يكون من خلال عبادته سبحانه وتعالى، وقد قيّد تلك العبادة بقيد ألا وهو الإخلاص، ورتب على ذلك نتائج وآثار، وهذا يعني أن في المقام محاور ثلاثة جديرة بالدراسة والمتابعة.
الأول: كيفية أداء هذا الحق، وبيان المحقق له خارجاً، وهو العبادة.
الثاني: استعراض شرائط أداء هذا الحق، وإيجاده في الخارج.
الثالث: الآثار والنتائج المترتبة على ذلك.

حقيقة العبادة:
إن أول ما ينبغي أن يصب الحديث حوله هو استعراض حقيقة العبادة، ذلك لأنها السبيل لأداء هذا الحق، ومن الطبيعي جداً أن أدائه يتوقف على معرفتها، بحيث أنه متى عرفت كان ذلك موجباً لتأدية الحق.
ولا تختلف العبادة عن بقية المفاهيم الأخرى، فلها معنيان، معنى في كلمات أهل اللغة، ومعنى عند أهل الاصطلاح.

العبادة في اللغة:

والمستفاد من تعاريف أهل اللغة للعبادة، وتحديد حقيقتها، أحد أمور ثلاثة:
الأول: أن العبادة عبارة عن الطاعة.
الثاني: أنها الخضوع والتذلل.
الثالث: أن يكون المقصود منها التأله.

وقد استعمل القرآن الكريم المعاني الثلاثة في آياته، فذكر العبادة، وهو يقصد منها الطاعة، كما في قوله تعالى:- (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين)، وذكر العبادة، وهو يقصد منها الخضوع والتذلل، كما في قوله تعالى:- (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وجاءت العبادة في آياته الشريفة تفيد معنى التأله، كما في قوله سبحانه:- (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به).
والظاهر أنه متى ما ذكر اللفظ من دون قرينة كان الانصراف إلى المعنى الأخير من المعاني المذكورة.

العبادة عند أهل الاصطلاح:

وقد تعددت أقوال أهل الاصطلاح في بيان حقيقة العبادة، وقد كان أحد أسباب التعدد عدم وجود تعريف جامع مانع في بيان حقيقتها، ولا ريب أن التعريفات المذكورة ليست بمستوى واحد من حيث الدقة، كما لا يخفى.
فتعريفها بأنها الخضوع والتذلل، أو تعريفها بأنها منتهى الخضوع والتذلل في غاية الضعف كما لا يخفى، ضرورة أنه لا ينطبق عنوانها وتصدق حقيقتها على مجرد إبراز الخضوع لفرد في الخارج، فلا يتصور أن يقال لمن خضع لوالديه أنه عبدهما، بل لو كان في منتهى الخضوع والتذلل بين يديهما لا يصدق عليه أنه عابد لهما كما لا يخفى.
وعلى أي حال، إن أفضل وأدق ما ذكر فيها من تعريف، لو لم يكونا هما التعريفان الصحيحان وهما:
الأول: ما يستفاد من كلمات غير واحد من أهل التفسير، وكذا الفقهاء من أنها الخضوع والتذلل مقيداً بقيد الاعتقاد بألوهية المخضوع له، وهذا يعني أن التعريف المذكور يتقوم بأمرين لابد من توفرهما لينطبق عنوانها ويتحقق خارجاً، وهما:
1-الخضوع والتذلل.                        2-الاعتقاد بألوهية المخضوع له.

ويمكن الاستشهاد لهذا المعنى بمراجعة الآيات الشريفة التي كانت تتحدث عن الوثنيـين المعاصرين للنبي(ص)، لأنهم لم يكون مجرد خاضعين لتلك التماثيل التي يعبدونها، وإنما كان يعتقدون ألوهيتها، ولذا كانت نقطة الخلاف بينهم وبين النبي(ص) في مسألة التوحيد، ورفضهم أن تكون الآلهة إلهاً واحداً، لأنهم كانوا يعتقدون أن تلك الآلهة تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
والحاصل، إن وصف العبادة متقومة باعتقاد ألوهية المعبود، وإلا فمجرد الخضوع والتذلل لا يكون محققاً لصدق عنوانها، لأن الحكم معلق على الموضوع وهو الوصف، فلاحظ.
الثاني: ما يظهر من غير واحد من المفسرين، كالسيد العلامة(ره) في الميـزان، من أن العبادة تعني المملوكية، وليس التذلل والخضوع إلا أثران مترتبان عليها، فيكون تفسيرها بهما من باب تفسير السبب أعني المملوكية، بالمسبب، وهو التذلل والخضوع، لكونهما لازمين لها، ومسببين عنها.

ولا يخفى أن المقصود من المملوكية الملكية الحقيقة المطلقة، والتي يقصد منها ما يقوم على أساس الخلق والتكوين، والتسلط على كل شؤون التكوين.
هذا ويمكن إرجاع كلا التعريفين لبعضهما البعض، فيمكن إرجاع تعريف الاعتقاد بالألوهية إلى المملوكية،  ذلك لأن المالك الحقيقي لابد وأن يكون مدبراً، لأنه هو الخالق لكل شيء، فيثبت أنه رب لما يدبر أمره، فيكون العابد له معتقداً بألوهيته وربوبيته بحصره العبادة فيه وحده[2].
كما يمكن إرجاع المملوكية إلى الاعتقاد بالألوهية، على أساس أن التعبير بها يتضمن إشارة إلى منتهى درجات الخضوع والتقديس بالألوهية[3].
ثم إن الذي يدعوه التأمل كون المعنى الأوضح في حقيقة العبادة ويأنس به الفهم العرفي هو التذلل والخضوع مع قيدية الألوهية، ولعل هذا المعنى يمكن استظهاره من بعض الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:- (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)[4]

انحصار العبودية لله تعالى:

هذا وقد يتساءل عن الموجب لحصر العبودية في الله سبحانه وتعالى، ولا تكون العبادة لأحد غيره.
ويظهر الجواب عن ذلك بملاحظة ما يلزم توفره في المعبود، وفقاً لما تقدم من تعريف للعبادة، وما يعتبر فيها من قيد، إذ قد ظهر مما مضى أنه لابد وأن يكون المعبود متصفاً بوصفين حتى يكون مؤهلاً للعبادة، وهما:

1-ثبوت الملكية الحقيقة له، لأن المالك الحقيقي هو الذي يكون خالقاً لكل شيء، فيتولى تدبير أمره وإدارة شأنه، لافتقاره في وجوده إليه، فيخضع أمامه لأنه سيكون ربه.
2-شمولية ربوبيته للعالمين جميعاً، فإن ثبوت هذه الصفة توجب انحصار العبودية فيه، وقد يستظهر هذا المعنى من قوله تعالى:- (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)[5]، فقد علق ثبوت ما ذكره من طقوس عبادية لله سبحانه وتعالى، على اتصافه بصفة الربوبية للعالمين جميعاً، مما يعني أن استحقاقه لذلك منشأه امتلاكه الصفة المذكورة، فلاحظ[6].
ثم إنه بعد الفراغ عن معرفة حقيقة العبادة، ينبغي التنبيه إلى ما يذكر عادة مصاحباً لها، إذ يغلب أن يذكر معها لفظا الطاعة والخضوع، فيكونان بمثابة القرينين لها، فلا تذكر عادة إلا ويذكرا، ومنشأ ذلك يعود لما تتضمنه المفاهيم الثلاثة من تداخل ولو في الجملة، فإن تحقيق الطاعة خارجاً عنوان من عناوين العبادة ومظهر لها متى كانت لله تعالى، إنما لو كانت العبادة لغير الله سبحانه، فكيف يتم التعامل معها. وكذا يجري الكلام بالنسبة للخضوع، فإنه لو كان منطوياً على التقديس والاعتقاد بالألوهية والمملوكية كان محققاً لعنوان العبادة، كما لو كان ذلك لله تعالى، أما لو كان لغيره سبحانه، فهل يمكن أن ينطبق عليه عنوان العبادة أم لا.
وهذا يدعونا للبحث في ناحيتين، ناحية الطاعة لغير الله تعالى، وناحية الخضوع لغيره عز وجل.

الطاعة لغير الله:

أما الناحية الأولى، وهي الطاعة لغير الله تعالى، فيمكن أن تصنف إلى ثلاثة أصناف:
الأول: أن تكون الطاعة لغير الله تعالى، بأمر منه سبحانه وتعالى، كما في طاعة الرسول الأكرم(ص)، قال تعالى:- (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله)[7]، وكذا طاعة أولي الأمر، قال عز من قائل:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[8] وكل من فرض الله سبحانه طاعته، ولا ريب في لزوم هذه الطاعة ووجوبها، مما يعنيا تصافها بصفة العبادة، لأنها في الحقيقة تعود إلى طاعة الله تعالى.

الثاني: أن تكون الطاعة لغير الله تعالى طاعة قد ورد النهي عنها من قبل الله سبحانه وتعالى، كما لو كانت الطاعة طاعة للشيطان مثلاً، أو إطاعة المنافقين، أو إطاعة الكفار والمشركين، أو طاعة كل من يأمر بمعصية الله سبحانه، أو الإشراك به والكفر، كالوالدين والأصدقاء وما شابه ذلك.
ولا ريب في عدم انطباق عنوان العبادة على مثل هذا العمل، بل مقتضى كونه منهياً عنه يفيد حرمته، وأن الإتيان به يتنافى والعبودية لله تعالى.
الثالث: عدم اتصاف الطاعة التي لغير الله تعالى لا بأمر ولا بنهي، فلم يرد أمر بها، كما لم يرد نهي بالمنع عنها، والظاهر أنها سوف تأخذ عنوان الجواز، ولن تتصف لا بالوجوب ولا بالحرمة.

الخضوع لغير الله:

وأما الناحية الثانية، وهي الخضوع لغير الله سبحانه وتعالى، فيمكن تقسيمه أيضاً إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون الخضوع للمخلوق دون أن يضاف ذلك المخلوق إلى الله تعالى بإضافة خاصة، كخضوع الولد لأبيه، أو التلميذ لأستاذه، ولا ريب في جواز مثل هذا الخضوع، بل قد ندب إليه الشرع الشريف، فقد قال تعالى:- (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)[9]. نعم إذا ورد نهي عن مثل هذا الخضوع، فعندها سوف يكون محرماً، ولو في بعض المصاديق التي ورد النهي عنها، كما في النهي عن السجود لأي أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
الثاني: أن يكون الخضوع للمخلوق على أساس أن للمخلوق اضافة خاصة إلى الله سبحانه استحق من خلالها هذا الخضوع، فهو يخضع له لا لشيء إلا بملاحظة تلك الخصوصية الثابتة له التي تضيفه إلى الله تعالى، كما لو اعتقد أنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.

ولا يختلف أثنان من أهل التوحيد في فساد مثل هذا الخضوع، وحرمته، وأنه إدخال ما ليس من الدين في الدين، وصاحبه مبتدع، كذاب مفتر على الله تعالى، نعوذ بالله من ذلك.
الثالث: أن يكون الخضوع للمخلوق بأمر صادر من الله تعالى، وإرشاده، كالخضوع للنبي الكريم(ص)، وللأئمة الطاهرين(ع)، بل الخضوع لكل مؤمن، أو الخضوع للقرآن الكريم، أو الخضوع للحجر الأسود، أو الخضوع للكعبة المشرفة، وما شابه ذلك من الشعائر الإلهية.
ولا ريب في محبوبية هذا القسم لله تعالى، لأنه يؤول للخضوع له تعالى، وإظهار العبودية له سبحانه[10].

اتهام وافتراء:

ووفقاً لما تقدم في بيان حقيقة العبادة، والتعقيب المرتبط بها وبمفهومي الطاعة والخضوع، تظهر الفرية الباطلة والتهمة الزائفة التي يرمى بها أتباع المذهب الحق، أتباع مذهب أهل البيت(ع)، ويتشدق بها دائماً المخالفون لهم برميهم بعبادتهم للقبور وللحجارة، وأنها مشركون، ويفتقدون للتوحيد في العبادة. مع أن ما يصدر منهم إنما هو خضوع وطاعة لله سبحانه وتعالى، وليست عبادة لبشر، فقد عرفت بما لا مزيد عليه هنا وفي غير موضع أن الوصول إلى تلك الأماكن المقدسة، إنما هو بأمر منه سبحانه، وبندب إليه، وأن في ذلك رضى له، وطاعة، وخضوع، وعبادة.

دواعي العبادة:

هذا ومن المعلوم أن العبادة من الأمور النفسية، والأفعال الاختيارية، فتحتاج إلى باعث نفساني يبعث نحوها، وقد ذكرت لها دواعي:
الأول: أن يكون الداعي عند الإنسان لعبادته لله سبحانه وتعالى، هو طمعه في إنعامه، وبما يجزيه على تلك العبادة من الأجر والثواب، قال تعالى:- (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)[11]، وقال عز من قائل:- (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)[12].

الثاني: أن يكون للإنسان في عبادته لله سبحانه وتعالى، خوفه من عقابه الذي توعد به كل من خالفه، قال تعالى:- (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)[13].
وقد تضمنت بعض الآيات الحديث عن الداعيـين السابقين، قال تعالى:- (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)[14]. وقال سبحانه:- (وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين)[15]، وقال عز من قائل:- (يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه)[16].
الثالث: أن لا يكون داعيه لعبادة الله سبحانه الطمع في الأجر والثواب، وليس الخوف من العقاب، وإنما يعود داعيه للعبادة إلى أنه وجد الله سبحانه أهلاً للعبادة، فعبده، إذ أنه تعالى هو الكامل بالذات والجامع لجميع صفات الجمال والجلال.

ومن المعلوم أن هذا الداعي لا يكون حاصلاً لكل أحد، وإنما يكون لخصوص من بلغ من الطهارة والقدسية، والتجرد عن الذات وحب الأنا، وعرج في عالم الملكوت. والحاصل، لا يتصور حصول مثل هذا الداعي إلا لخصوص المعصومين، أو من كان قريباً منهم ممن بلغ أعلى مدارج الكمال[17]. وهذا ما يشير إليه أمير المؤمنين(ع) في مقولته الشهيرة: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك[18].
وقريب منه ما جاء عن الإمام زين العابدين(ع): إني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلا ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع، إن طمع عمل وإلا لم يعمل، وأكره فلم تعبده؟قال: لما هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه[19].

وكذا ما قاله الإمام الصادق(ع): العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حباً فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة[20].
وكيف كان، لا يذهب عليك أن هناك فرقاً بين الأصناف الثلاثة المستفادة من خلال دواعي العبادة، مما يعني أن هناك فرقاً بينها، وبالتالي يتفاوت الثواب الثابت لكل واحد منها، كما أن هناك أسباباً دعت إلى وصف أصحاب الداعي الثالث بأنهم أحرار، ليس هذا محل الحديث عنها، فلتلاحظ.

شرط أداء الحق الإلهي خارجاً:

هذا وبعدما تعرفنا على كيفية تحقيق الحق الإلهي في الخارج، وأن ذلك يتم بواسطة العبادة، وأحطنا بحقيقتها، ينبغي ملاحظة القيد الذي اعتبره الإمام(ع) فيها، ذلك أنه لم يكتفِ بكون الحق الإلهي مطلق العبادة، بحيث يلتـزم بتحققه في الخارج بمجرد إيجادها خارجاً وبأي  كيفية، وإنما اعتبر أن يكون ذلك مقيداً بقيدية الإخلاص، فقال(ع): فإذا فعلت ذلك بإخلاص، وهذا يدفع لسؤال حاصله: لماذا قيد(ع) الأداء للحق الإلهي بالإخلاص، بحيث جعله شرطاً في تحققه، فلو لم يحققه المكلف لم يكن مؤدياً لحق الله تعالى؟

وإن شئت فقل: لماذا هذا الاهتمام والاعتناء بالإخلاص، والتركيز عليه بهذه الكيفية؟
إن الجواب عن ذلك يتوقف على الإحاطة بما هو معيار العمل وقيمته عند المعصوم(ع)، وفي الشرع الشريف، إذ أن هناك رؤية مادية لقيمة العمل الصادر من الأفراد خارجاً، فهل يا ترى تتوافق الرؤية الدينية أيضاً مع الرؤية المادية، فتكون الرؤية واحدة بينهما، أم أنهما تختلفان.

إن الرؤية المادية لقيمة كل عمل من الأعمال تدور على بعده الكمي، فبمقدار ما يكون النتاج أكثر كمية يكون أفضل وأحسن عندهم، ولهذا يقيّمون الأفراد على وفق ذلك.
أما الرؤية الدينية، فإنها تختلف تماماً عن هذه الصورة، فهي لا تجعل الميزان في قيمة كل عمل على مقداره، بل إنها تجعل الميزان على مقدار الإخلاص الثابت فيه، وروح الإخلاص المندس في جوانبه، ولهذا لو كان العمل كثيراً لكنه كان مفتقراً إلى بعد الإخلاص لم يكن له أدنى قيمة من الناحية الدينية، وعلى العكس لو كان العمل قليلاً لكنه كان مفعماً بالإخلاص فقد ساوى عندهم الكثير الكثير، وإلى هذا تشير النصوص التي تؤكد على أن المطلوب ليس كثرة الصلاة، ولا كثرة الصيام، بل المطلوب الإخلاص لله تعالى. يقول أبو عبد الله الصادق(ع): ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنما الصلاة إخلاصك وأن تريد يها الله وحده.
ومن خلال ما قدمنا يتضح السبب الداعي لجعله(ع) الإخلاص قيداً معتبراً في أداء هذا الحق الإلهي، ضرورة أنه لا يكون ذا قيمة وأثر ما لم يكن متضمناً لهذا القيد، وإلا فلا.

وحقيقة الإخلاص:
تنقية النية من الشرك والرياء، فهو قريب من تهذيب النفس الذي هو عبارة عن تنقيتها وتهذيبها من الشوائب المعنوية، ومثل ذلك تنظيف البدن وتنقيته من النجاسات الظاهرية.
هذا وقد تضمنت النصوص الشريفة بيان علامات للإخلاص، فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكف شره.
وعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: ومن لم يختلف سره وعلانيته وفعله ومقالته، فقد أدى الأمانة وأخلص العبادة. وجاء عنه(ع) أنه قال: تمام الإخلاص تجنب المعاصي.
وجاء عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: لا يكون العابد عابداً لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كله إليه، فحينئذٍ يقول هذا خالص لي فيتقبله بكرمه.
ولا يتصور أن بين النصوص اختلافاً في تحديد العلامات، بل الظاهر حملها على تفاوت المراتب واختلاف الفضل، على أنه يمكن جعل المورد من صغريات الحصر الإضافي، فيكون المعتبر هو الجميع في ما ذكر، فلاحظ.
ثم إن النصوص قد أشارت إلى أن سبب الإخلاص هو اليقين، بل قوته، وجاء في بعضها أن سببه العلم، والظاهر أنهما بمعنى واحد، فتدبر.

ثمرة الإخلاص:
ثم إن الإمام(ع) لما أشار إلى أهمية الإخلاص، وأنه القيمة الفعلية لكل عمل، لم يكتف بذلك، بل أشار إلى الآثار المترتبة عليه، وقد أوجز ولم يتعرض لتفصيل ذلك، فقال: جعل الله لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب منهما.
ولا يخفى أن هذا التعبير على إيجازه واقتضابه، قد تضمن بيان كل ما يتصور من آثار مهمة، وما يرتجيه الإنسان في الدارين، نتيجة مراعاة عنصر الإخلاص.

وقد تضمنت النصوص الشريفة عرضاً للآثار المترتبة على الإخلاص، يمكن تصنيفها وفقاً لما جاء في كلمة الإمام(ع) المباركة، إذ لو دققنا فيها لوجدناه(ع) يشير إلى أن آثار الإخلاص ليست منحصرة في عالم الآخرة، كما قد يتصور الكثير، بل إن للإخلاص آثاراً مرتبطة بعالم الدنيا، وكأنه يشير إلى كونها آثاراً مادية، وهذا هو الذي يتلمسه القارئ عند الرجوع للنصوص الشريفة، فإنه يرى أنها تنص على أن هناك آثاراً مرتبطة بعالم الدنيا تترتب على الإخلاص، بل إن المستفاد من جملة منها إعطاء العبد المخلص ولاية تكوينية تخوله التصرف في الكثير من الأمور، ولعل هذا هو السبب في اللجوء عادة للأولياء والصالحين والعلماء، وسؤالهم الدعاء، وما شابه، وما ذلك إلا لأنهم يمثلون صورة رائعة من صور الإخلاص، وقيمية عالية في الطاعة، والعبادة.

وعلى أي حال، فلنشر لبعض تلك الآثار المستفاد من النصوص الشريفة لإخلاص:

فمنها: السعادة، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع)، قوله: أخلصوا أعمالكم تسعدوا.
ومنها: كفاية أمره واستقامة أموره. قال الله عز وجل: لا أطّلع على قلب عبد مؤمن فأعلم منه حب الاخلاص لطاعتي ولوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته.
ومنها: قبول الأعمال، فعن الرسول الأعظم(ص): أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له.
ومنها: خشوع كل شيء للمؤمن المخلص، فقد ورد: إن المؤمن ليخشع له كل شيء ويهابه…إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كل شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء.
ومنها: كمال العبادة، فقد جاء عن الإمام أبي حعفر الجواد(ع)، أنه قال: أفضل العبادة الإخلاص.
ومنها: الحصول على الحكمة والمعرفة، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
ومنها: حصول البصيرة عنده، وامتلاكه لنورانية القلب، ويشير إلى هذا المعنى الحديث النبوي المتضمن لجريان ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وواضح أن ذلك يعود إلى النورانية القلبية، وإلى امتلاكه للبصيرة كما لا يخفى.

[1] رسالة الحقوق
[2] اللباب في تفسير الكتاب ج 1 ص 310-بتصرف-
[3] تفسير سورة الحمد ص 213.
[4] سورة آل عمران الآية رقم 191.
[5] سورة الأنعام الآية رقم 162.
[6] اللباب في تفسير الكتاب ج 1 ص 314-بتصرف-
[7] سورة النساء الآية رقم 80
[8] سورة النساء الآية رقم 59.
[9] سورة الإسراء الآية رقم 24.
[10] البيان في تفسير القرآن ص 470-474.
[11] سورة النساء الآية رقم 13.
[12] سورة المائدة الآية رقم 9.
[13] سورة يونس الآية رقم 15.
[14] سورة السجدة الآية رقم 16.
[15] سورة الأعراف الآية رقم 56.
[16] سورة الإٍسراء الآية رقم 57.
[17] البيان في تفسير القرآن ص 480-بتصرف-
[18] مرآة العقول ج 2 ص 101 باب النية.
[19] بحار الأنوار باب النية وشرائطها ح 33.
[20] أصول الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب العبادة ص 84.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة