بعدما تحدثنا في الأسابيع الماضية حول الولاية التكوينية وأشرنا إلى تعريفها نود الآن الحديث بصورة أوضح في التعرف على حقيقتها واستيضاح مفهومها، خصوصاً وأنه قد وردت في كلام الأعلام عدة احتمالات في بيان ذلك، والمعروف أنها أربعة احتمالات، نحن نشير إليها، ونرى ما يمكن المساعدة على قبوله أو ما يوجب رفع اليد عنه ورفضه.
الدعاء المستجاب:
أول الاحتمالات التي يمكن ذكرها في بيان حقيقة الولاية التكوينية أنها عبارة عن الدعاء المستجاب، وهذا يعني أنه متى ما أراد المعصوم(ع) أن يعمل ولايته التكوينية، فإن عليه أن يقوم بدعاء الله سبحانه وتعالى، وعندها يستجيب الله عز وجل دعائه، فيتحقق الأمر الذي أراده الولي حينئذٍ.
ويمكننا الاستدلال لهذا الاحتمال بجملة وافرة من النصوص الواردة في أن دعائهم(ع) مستجاب، كما ورد في قضية أمير المؤمنين(ع) مع أنس في حديث بيعة الغدير يوم الرحبة، وإصابة أنس بالبرص الذي لا تغطيه العمامة، لما امتنع عن ذلك. إذ يروي زر بن حبيش قال: خرج علي من القصر فاستقبله ركبان متقلدي السيوف، عليهم العمائم حديثي عهد بسفر فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته..السلام عليك يا مولانا.
فقال علي بعد ما رد السلام: من هاهنا من أصحاب رسول الله(ص)، فقام اثنا عشر رجلاً منهم خالد بن زيد(أبو أيوب الأنصاري)وخزيمة بن ثابت(ذو الشهادتين)وقيس بن شماس، وعمار بن يا سر، وأبو الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وحبيب بن بديل بن ورقاء، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله(ص) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه-الحديث-
فقال علي لأنس بن مالك والبراء بن عازب: ما منعكما أن تقوما فتشهدا، فقد سمعتما كما سمع القوم؟…
فقال: اللهم إن كانا كتماها معاندة فأبلهما.
فأما البراء فعمي، فكان يسأل عن منـزله فيقول: كيف يرشد من أدركته الدعوة؟ أما أنس فقد برصت قدماه.
وقيل: لما استشهده علي(ع) قول النبي(ص): من كنت مولاه فعلي مولاه، فاعتذر بالنسيان، فقال(ع): اللهم إن كان كاذباً فاضربه ببياض لا تواريه العمامة، فبرص وجهه، فسدل بعد ذلك برقعاً على وجهه[1].
ومثل ذلك التوقيع الصادر من الناحية المقدسة الذي نقله شيخنا المجلسي(ره) في كتابه بحار الأنوار، فقد روي عن أبي الحسن الدلال، قال: اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة (ع) أن يخلقوا أو يرزقوا، فقال قوم: هذا محال، لا يجوز على الله عز وجل، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل، وقال آخرون: بل الله عز وجل أقدر الأئمة(ع) على ذلك، وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا، وتنازعوا في ذلك تنازعاً شديداً. فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر: محمد بن عثمان العمري(رضوان الله تعالى عليه)، فتسألونه عن ذلك، ليوضح لكم الحق فيه، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر(عجل فرجه)، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله.
فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته: إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام، وقسم الأرزاق، لأنه ليس بجسم، ولا حال في جسم، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فأما الأئمة(ع) فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم، وإعظاماً لخلقهم[2].
فإن مقتضى ما جاء في التوقيع الشريف: فأما الأئمة(ع) فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم، وإعظاماً لخلقهم، يفيد أنه يدعون الله تعالى، ومتى ما دعوا، فإنه سبحانه وتعالى يستجيب دعائهم.
هذا ويمكن أن يتمسك في إثبات هذا المعنى أيضاً بما ورد في قصة آصف بن برخيا، قال تعالى:- (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين* قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين* قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)[3]. لأن أحد الأقوال الواردة في تفسير الآية الشريفة، أن آصف بن برخيا جاء بعرش بلقيس بواسطة الدعاء، أي أنه دعا الباري سبحانه وتعالى أن يأتيه بعرش بلقيس، وقد استجاب الله عز وجل لدعائه.
وكذا أيضاً يمكن التمسك له بقوله تعالى:- (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله)[4]، على أساس أن هذه الأمور حصلت من الباري سبحانه وتعالى استجابة لدعاء النبي عيسى بن مريم(ع)، فهو الذي دعا الله عز وجل، والباري سبحانه وتعالى أجاب دعائه.
هذا وعندما نعمد إلى محاولة الجزم بالمعنى المذكور للولاية التكوينية من خلال هذا الاحتمال، بحيث يقال أن المراد من الولاية التكوينية عبارة عن الدعاء المستجاب، نجد أن هذين المفهومين يلتقيان في جانب، كما أنهما يفترقان في جانب آخر، وهذا يمنع من أن ينطبق الدعاء على الولاية التكوينية.
وبعبارة أخرى، إن الولاية التكوينية تشمل أمراً خارقاً عن العادة، وتصرف في نظام الكون، وهذا المعنى أيضاً يجري في الدعاء أيضاً، فإنه قد يتضمن أمراً خارقاً للعادة، كما أنه ينطوي على التصرف في النظام الكوني.
إلا أن الدعاء يخـتلف عن الولاية التكوينية، في أنه لا يربط التصرف الحاصل بصاحب الولاية التكوينية، وإنما الفاعل المباشر هو الباري سبحانه وتعالى، عمدة ما كان أن الداعي يكون سبباً لهذا الأمر، وهذا بخلافه بالنسبة إلى الولاية التكوينية، لأن المفروض أن التصرف ينسب مباشرة إلى صاحبها نفسه، فلاحظ قوله تعالى:- (أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله)[5].
وهذا ما أفاده السيد الطباطبائي(ره)، عند تفسيره للآية المباركة، إذ ذكر أن هذه الأمور تصدر عن عيسى(ع) صدوراً خارجياً بالمباشرة، لا أنها تصدر عن الله سبحانه وتعالى بواسطة دعاء عيسى المستجاب[6].
نعم لعل من الصعب الجزم بالأمر المذكور، خصوصاً مع وجود احتمال ذكره السيد السبزواري(ره) عند تفسيره للآية الشريفة، وحاصل ما أفاده(ره) لا يتضمن المنع من المباشرة، وإنما جعل المباشرة في شأن عيسى في دعائه لله سبحانه وتعالى أن يؤثر التأثير بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى[7].
ووفقاً لهذا الاحتمال سوف تكون الآية الشريفة متوافقة مع الدعاء المستجاب لا مع الولاية التكوينية، والمباشرة في خصوص الدعاء، فلاحظ.
والحاصل، إن حقيقة الولاية التكوينية أمر مخـتلف عنه بالنسبة إلى الدعاء، ولا يـبعد البناء على أن الآيتين اللتين ذكرتا في مقام إثبات أن الولاية التكوينية عبارة عن الدعاء، ناظرتان إلى المباشرة، إذ يقال بأن عيسى(ع) هو المباشر للإحياء والإبراء، وكذا أيضاً يقال ذلك في حق آصف بن برخيا، فنه هو الذي باشر وتولى الإتيان بعرش بلقيس، لأنه أتى بذلك بواسطة الدعاء المستجاب، وذلك من خلال أنه كان يعلم بالاسم الأعظم، وبواسطته تصرف هذا التصرف الخارق.
المعاجز والكرامات:
والمحتمل الثاني من الاحتمالات المذكورة في بيان حقيقة الولاية التكوينية، أنها المعاجز والكرامات، بحيث يكون للولي قدرة تنفذ في الأشياء حسب المصالح والحكم بواسطة خرق العادات، وهذا هو ما يعبر عنه بالولاية التكوينية، وهذا مثل معاجز الأنبياء وكرامات الأولياء، بل هو أحد الأقوال المذكورة في تفسير جملة من المعاجز والكرامات التي ظهرت على أيدي الأنبياء والأولياء، وهو ما تعرضته الآيات الشريفة، في غير واحد من الآيات المباركة، كمعجزات موسى وعيسى والخضر(ع).
وبالجملة، يؤول هذا الاحتمال إلى الالتـزام بأن الولاية التكوينية نحو من أنحاء الإعجاز الذي يثبت للنبي المرسل من قبل الباري سبحانه وتعالى.
والإنصاف، أن هذا الاحتمال قريب جداً، خصوصاً إذا لا حظنا أن هذين المفهومين يشتركان مع بعضهما البعض في جوانب عديدة، لكن المشكلة تكمن في نقطة الافتراق، ضرورة أن أحد الأمور المقومة للمعجزة أن صدورها يكون في حال التحدي، والادعاء للمنصب الإلهي، ولزوم المطابقة بين الدعوى والمدعى، وهذه الأمور الثلاثة لا يعتبر توفر أي شيء منها في التصرف الناجم من الولاية التكوينية، بمعنى أنه لا يعتبر في الولاية التكوينية أمر التحدي، كما أنها قد تكون منطوية على ادعاء منصب إلهي، وقد لا تكون كذلك، وبالتالي ليس من اللازم وجود المطابقة بين الدعوى والمدعى، خصوصاً وقد ذكرنا أنه لا يعتبر فيها الادعاء أصلاً.
وبالجملة، نصل إلى أنه لا يمكن أن يحكم بانطباق المعجزة على الولاية التكوينية، ولا يمكن أن تجعل مصداقاً من مصاديقها، فلاحظ.
——————————————————————————–
[1] الغدير ج 1 ص 175.
[2] بحار الأنوار ج 25 ص 329.
[3] سورة النمل الآيات رقم 38-40.
[4] سورة آل عمران الآية رقم 49.
[5] سورة آل عمران الآية رقم 49.
[6] الميزان ج 3 ص 200.
[7] مواهب الرحمن ج 5 ص 359.