20 أبريل,2024

أهمية الدين في الحياة البشرية (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)[1].

مدخل:

عندم التأمل في الآية الشريفة نجدها تشير إلى أمرين أساسيـين:

أولهما: أن الناس كانوا كلهم أمة واحدة.

ثانيهما: أنه قد حصل الاختلاف بين أفراد المجتمع البشري.

ولا ريب أن هذين الأمرين يوجبان وجود سؤالين وهما:

الأول: ما هو المقصود من وحدة الأمة؟…

الثاني: ما هو السبب الذي أدى إلى حصول الاختلاف بين الناس؟…

عندما يتأمل قوله تعالى:- (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيـين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[2]، فقد يتصور المتأمل أن سبب الاختلاف الحاصل بين الناس هو بعث الأنبياء وإرسال الرسل، ذلك لأنه تعالى يقول:- (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيـين)فيشعر أن الاختلاف وقع نتيجة بعث النبيـين، لكن هذا التصور خاطئ جداً، وينفيه الآية التي افتـتحنا بها المقام، حيث أن مقتضى الجمع بين الآيتين يفيد التالي:

أولاً:أن الناس كانوا في البداية متحدين.

ثانياً: أنه وقع الاختلاف بين الناس.

ثالثاً: بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل ليعالجوا حالة الاختلاف الموجودة بين الناس.

وبناءً على ما ذكرنا يستفاد أمر مهم جداً وهو أن الإنسان لا يمكن له أن يسير حياته ويقوم بإدارة شؤونه دون وجود الدين، كما يوضح لنا أيضاً سبب تشريع الدين للإنسان، إذ أن الآيتين تقرران أن ذلك يعود لحالة الاختلاف التي حصلت عند البشر.

وعلى أي حال، لنعد للإجابة عن السؤالين الذين ذكرناهما في مطلع البحث، فنقول:

الوحدة الفطرية للأمة:

لقد ذكرت عدة تفسيرات من قبل المفسرين في بيان المراد من وحدة الأمة في الآية محل البحث والآية الأخرى، نشير إلى بعضها:

منها: أن الناس كانوا على الهداية، وإنما نشأ الاختلاف بينهم بعد نزول الكتاب وبعث الأنبياء.

ومنها: أن المراد من الوحدة، أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، فبعث الله سبحانه النبيـين، وذلك لأن إرسال الرسل وبعث الأنبياء غايته رفع الضلالة.

وكلا الوجهين لا يصلح لبيان المقصود للآية الشريفة، أما أولهما فواضح لما ذكرناه فيما تقدم، وثانيهما يقوم على أساس الالتـزام بأن بعث الأنبياء لا تكون له من غاية إلا رفع الضلالة، فينحصر الأمر في خصوص ذلك، وهذا غير صحيح، ضرورة أنه قد يكون البعث لإلقاء الحجة، كما قد يكون من أجل بلوغ الإنسان مرحلة الكمال، وهكذا.

هذا وما يهمنا من بين ما جاء في كلمات المفسرين ثلاث نظريات في المقام:

الأولى: نظرية الشيخ محمد عبده في تفسيره المنار.

نظرية صاحب تفسير المنار:

لقد ذكر الشيخ محمد عبده في بيان معنى الوحدة أن الوحدة لها معنيان:

الأول: أن يكون المقصود من الوحدة عبارة عن المجتمع الإنساني للبشر.

الثاني: أن يكون المقصود منها الاشتراك بحسب الطبع والخلقة في أمر واحد يجمعهم ويوحد اتجاههم وفهمهم للأشياء ويجعلهم أمة واحدة.

وهذا الأمر الواحد هو الاتجاه الفطري الموجود في الإنسان بما هو إنسان نحو الاجتماع والترابط والإحساس بحاجة بعضهم إلى بعض، وإلى التعاون بينهم والمشاركة في مختلف الأعمال والنشاطات، فالإنسان بحسب طبعه مدني اجتماعي، وهذه الوحدة هي تعبير عن هذا الاتجاه المدني.

وقد أختار أن المقصود منها في المقام هو المعنى الثاني دون الأول.

هذا وقد أعتمد الشيخ محمد عبده في نظريته في معنى الوحدة الأولى على أساس أن كان الواقعة في قوله تعالى:- (كان الناس أمة واحدة) بمعنى الثبوت والتحقق، وليست فعلاً ناقصاً يدل على الزمان الماضي، مثل قوله تعالى:- (وكان الله عليماً حكيماً)[3]، حيث أن كان هنا بمعنى الثبوت والتحقق، أي ثبت له سبحانه وتعالى وتحقق أنه عليم وحكيم، فكذلك في مقامنا، فيكون المقصود أنه قد ثبت وتحقق أنه تعالى خلق الإنسان وفطره على أمر واحد وهو أنه وبحسب طبعه مدني واجتماعي ينجذب إلى الإنسان الآخر، ويحتاج إليه.

نقد هذه النظرية:

وقد انتقد السيد العلامة الطباطبائي(قده) في كتابه القيم وتفسيره الرائع الميزان هذه النظرية، وأشكل عليها بعدة إشكالات أقتصر على ذكر اثنين منها:

الأول: لابد لحمل الكلمة على خلاف ظاهرها من وجود قرينة موجبة لذلك، وإلا بقيت الكلمة على ظاهرها، ومقامنا من هذا القبيل، حيث أن الظاهر من كلمة كان أنها فعل ناقص تدل على الزمان الماضي، فحملها على أنها بمعنى الثبوت والتحقق يحتاج إلى قرينة موجبة لذلك، وهي غير موجودة في المقام.

وقياس المقام على قوله تعالى:- (وكان الله عليماً حكيماً)، قياس مع الفارق، ذلك أن في آية(وكان الله عليماً) توجد قرينة وهي أنه لا يتصور انسلاخ الذات المقدسة عن هاتين الصفتين لأن صفاته سبحانه وتعالى عين ذاته، فيكون المعنى عندها يقصد به الثبوت والتحقق.

الثاني: إن الآية الشريفة لو لم تكن صريحة فلا أقل من أنها قريـبة من ذلك في أن الوحدة الموجودة كانت في زمان ثم انقضت وتصرمت، وطرأ عليها الاختلاف، كما يشهد بذلك قوله تعالى فيها:- (فبعث الله النبيـين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه)، فإن المستفاد بقرينة وجود الفاء الدالة على الترتب الزمني، أن الاختلاف وجد بعد الوحدة، ومن ثمّ بعث الله تعالى الأنبياء.

ومما ذكر يتضح أن الوحدة والاختلاف هما الوحدة والاختلاف الاجتماعيان، لا أن المراد هو قضية الموهبة والطبع المدني الثابت والدائم في الإنسان، وذلك لأن الطبع المدني لا زال ثابتاً وباقياً فيه.

ومن عدم تمامية هذه النظرية في بيان الوحدة الواردة في الآية الشريفة، لابد من البحث عن نظرية أخرى تقوم بتفسيرها، ولهذا جاء السيد العلامة(قده) بنظرية جديدة في تفسير الآية الشريفة.

نظرية السيد العلامة:

تعتمد نظرية السيد العلامة الطباطبائي(قده) على ثلاثة أمور:

الأول: أن الباري سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان فطره على مجموعة من الأمور:

منها: التجاء الإنسان إلى استخدام الإنسان الآخر، والسر في ذلك يعود إلى أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يتحرك نحو الكمال ويتصرف في المادة، وقد وجد أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال تسخيره للإنسان الآخر، لكونه طاقة تملك القدرة على معاونته على التصرف في المادة وهذا الكون، فهو إذن يسخره لتحقيق أغراضه في التكامل.

ولا ريب في أن هذا سوف يوجد تصادماً بين الإنسان والإنسان الآخر.

الثاني: إن هذا الاصطدام بين الإنسان والإنسان الآخر نشأ من الاتجاه الفطري الموجود لدى كليهما في التحرك من أجل الهيمنة على الآخرين، واستخدامهم والوصول إلى أغراضه، فحصل اصطدام إرادتين إنسانيتين واتجاهين فطريـين.

الثالث: ثم بعدما حصل الاصطدام حصلت مصالحة بين الإرادتين الإنسانيتين الاجتماعيـين في بداية الحركة الاجتماعية، إذ اتفق الناس فيما بينهم على أن يستفيد بعضهم من بعض ويستخدم بعضهم بعضاً.

وربما يسأل: ما هو السبب الذي دعى إلى حصول هذا التصالح بينهما؟…

فنجيب: إن هناك أموراً مشتركة هي التي دعت إلى ذلك، فالهموم والحاجات محدودة، وحاجة المجتمع كانت سبباً في حصول هذا التصالح.

وبناءً على هذا وجد النظام الواحد الذي يحكم المجتمع من خلال تقسيم المصالح والمنافع المشتركة، فهو نظام يحكم بالعدل. نعم العدالة هنا ليست عدالة فطرية، بل هي عدالة تصالحية، وهذا يعني أن الإنسان ليس مفطوراً على العدل والإنصاف، وإنما الإنسان انتهى إلى العدالة بسبب فطرته لتحقيق أغراضه المحدودة من خلال المصالح المشتركة.

الفرق بين النظريتين:

هذا وقد يقال: ما هو الفارق بين النظريتين، نظرية صاحب تفسير المنار، ونظرية صاحب تفسير الميزان(ره)؟…

فنقول: إن الفارق بينهما يتضح من خلال أن الشيخ محمد عبده يتبنى أن الوحدة عنصر ثابت في الإنسان، وهو اتجاهه نحو الاجتماع المدني، في مقابل الحيوانات التي توجهها الغريزة، وبعبارة أخرى الوحدة حالة فطرية عند الإنسان عبر عنها القرآن الكريم بالوحدة.

وهذا يعني أنه يرفض كون الوحدة مرحلة من مراحل الإنسان.

أما السيد العلامة الطباطبائي(قده) فهو وإن كان يفترض أن الوحدة حالة فطرية، لكنه يقرر أن ذلك ليس أمراً ثابتاً في الإنسان، وإنما هي مرحلة في تاريخ المجتمع الإنساني.

——————————————————————————–

[1] سورة يونس الآية رقم 19.

[2] سورة البقرة الآية رقم 213.

[3] سورة الفتح الآية رقم 4.