شمولية الشريعة(2)
صياغة العلامة الطباطبائي:
تقوم صياغة العلامة الطباطبائي(ره) على تقسيم الأحكام الإسلامية إلى قسمين يتمايز كل واحد منهما عن الآخر ومنفصل عنه تماماً، وهذان القسمان هما: الأحكام الثابتة، والأحكام المتغيرة.
الأحكام الثابتة:
وقد حدد(ره) المقصود من الأحكام الثابتة: بأنها الأحكام والقوانين التي وضعت على وفق مقتضى حاجات الطبيعة الواحدة والثابتة للإنسان، وقد عبر الإسلام عن هذه الأحكام التي أقامها على أساس طبيعة الإنسان وخصوصياته بالدين والشريعة، قال تعالى:- (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الين القيم)[1]، ويمكن بيان ذلك من خلال بعض الأمثلة:
1-حاجة الجنسين الذكر والأنثى إلى بعضهما، فإنها قائمة على أساس طبيعة الإنسان الذي ينطوي على الغريزة، فيحتاج الذكر للأنثى، والأنثى للذكر من أجل اشباع هذه الرغبة.
2-عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها قائمة على أساس طبيعة الإنسان والذي ينطوي على هذه العاطفة.
3-علاقة الوالدين بالولد، والولد بالوالدين، وكذا علاقة الأخوة بعضهم ببعض، فإن جميع هذه الأمور ناشئة من طبيعة الإنسان، وهذا يجعل الأحكام المرتبطة بها أحكاماً ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الظروف والأزمنة والأماكن.
ومثل ذلك جميع موارد الحسن والقبح العقليـين، فإنها ثابتة لا تتغير لأنها وفق الطبيعة الانسانية القائمة على الحكم بحسن هذا الفعل وقبح ذلك، وهي عناوين ثابتة.
الأحكام المتغيرة:
أما الأحكام المتغيرة، فحدد المقصود منها بأنها الأحكام المؤقتة أو التي قد لوحظ فيها شيء ما، وهي تختلف وفق أنماط الحياة المختلفة.
ووفقاً للضابطة المذكورة سوف يتماشى هذا القسم مع التقدم التدريجي للمدنية والحضارة، وتغيّر المظاهر الاجتماعية وحصول الأساليب الحديثة واختفاء القديمة منها، وهي تختلف حسب مصالح الزمان والمكان المختلفة.
ولما كانت هذه الأحكام من آثار الولاية العامة، فهي منوطة بنبي الإسلام محمد(ص)، والقائمين مقامه والمنصوبين من قبله، ويكون تشخيصها وتنفيذها في دائرة الثوابت الدينية وطبقاً لمصالح الزمان والمكان، انطلاقاً من قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[2].
وهناك قسم من هذه الأحكام يعبر عنه باختيارات الولي بناءً على ثبوت الولاية العامة لولي أمر المسلمين في دائرة حكومته، وأنه موجه لأفكار المجتمع الاسلامي، ومورد قبول الجميع، ويمكنه التصرف في محيطه العام، كما يتصرف أي شخص في محيطه الخاص.
وقد وضع هذا الأصل في الإسلام حتى يلبي حاجات الناس المتغيرة في كل عصر وزمان، وفي كل منطقة ومكان من دون أن تتعرض أحكام الإسلام الثابتة إلى النسخ والبطلان، وهي تغطي حاجات المجتمع الإنساني.
معيار الأحكام المتغيرة:
وقد جعل(ره) المعيار في الأحكام المتغيرة أحد أمور:
الأول: أن يكون ملحوظاً في جعلها منذ البداية شيء بحيث تكون محدودة به، كما لو كان الحكم المرتبط بها معلقاً على موضوع ما بحيث يثبت متى ثبت ذلك الموضوع، وينتفي متى انتفى، مثل مسألة بيع الدم.
الثاني: الأحكام المجعولة وفق أنماط الحياة المختلفة والتي تختلف مع تغير تلك الأنماط وتبدلها سواء بحسب الزمان أم المكان أم كليهما، وذلك مثل وسيلة النقل المستعملة في الانتقال من مكان إلى آخر، فقد طرأ عليها التحول والتغيّر وفق متغيرات الحياة وظروف الزمان والمكان والتقدم العلمي، فبعدما كانت وسيلة النقل عبارة عن الدواب أصبحت اليوم الطائرات وغير ذلك.
وكذا وسيلة الدفاع عن الإسلام، وبيضته، فإنها تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، فبعدما كانت وسيلة ذلك في تلك الأزمنة والأماكن متمثلة في الخيل والرمح والسيف والسهم، قد تكون الوسيلة المثلى اليوم هي القلم واللسان البارع في عرض الإسلام وبيان مناهجه ومعالمه.
صياغة الإمام الخميني:
الظاهر أن نظرية الإمام الخميني(قده) تعتمد بصورة أساس على مراعاة ظروف الزمان والمكان، وتؤكد على دورهما في عملية الاستنباط، لأن الشريعة الشاملة لابد وأن تراعي الظروف وأشكال التحرك البشري في سلم التطور الحضاري والثقافي، وهذا يعني أن الشارع المقدس قد لاحظ في مجمل تشريعاته تأثيرات الزمان والمكان في الأحكام. وهذا يستدعي الوقوف عند هذا الجانب حتى تتضح النظرية المذكورة.
وينبغي الالتفات إلى عدم اختصاص الإمام الخميني(ره) بهذه النظرية، بل الظاهر وجودها في كلمات القدماء والمتأخرين من علماء الطائفة وإن لم يصرحوا بهذا التعبير، إلا أن متابعة فتاويهم تكشف عن ذلك لاشتمالها على التعليل بذلك.
قال في مجمع الفائدة والبرهان: ولا يمكن القول بكلية شيء، بل تختلف الأحكام باختلاف الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص[3]. فإن ملاحظة أخذه الخصوصيات في الأحكام، وأن ذلك يوجب اختلافها سيما مع ذكره الزمان والمكان، يوحي بالتزامه بجعلهما دخيلين في الحكم الشرعي، فيكون موافقاً لما عليه الإمام الخميني(ره). بل قد يستظهر هذا المعنى من كلام الصدوق(ره) في كتابه الفقيه عند حديثه عن العمائم، فقد نقل ما جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) من أنه قال: الفرق بين المسلمين والمشركين التحلي بالعمائم. قال الصدوق(ره): وذلك في أول الإسلام وابتدائه، وقد نقل عنه(ص) أهل الخلاف أيضاً أنه أمر بالتحلي ونهى عن الاقتعاط[4]. فإن قوله(ره) وذلك في أول الإسلام، يوحي باختصاص الحكم بتلك الفترة الزمنية، وعدم جريانها مطلقاً، لأنه(ص) كان بصدد إعطاء هوية تميز المسلمين عن غيرهم.
نعم قد نص على ذلك الشهيد الأول(ره) في كتابه القواعد والفوائد، قال: يجوز تغير الأحكام بتغير العادات كما في النقود المتعاورة والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه[5].
نعم قد صرح بذلك جملة من العلماء القريبين من عصرنا كالفقيه الكبير السيد البروجردي، والسيد العلامة الطباطبائي في الميزان، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(ره).
قال الشيخ كاشف الغطاء (ره) في كتابه تحرير المجلة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان[6]. وقال أيضاً: قد عرفت أن من أصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلا بتغيير الموضوعات، إما بالزمان والمكان، أو الأشخاص[7].
وهذا يوحي بوجود نحو اتفاق عند علماء الطائفة على تأثير الزمان والمكان في عملية الاستنباط.
وعلى أي حال، حتى يمكن الوقوف على معالم هذه الصيغة المستفادة من كلمات السيد الخميني(قده)، لابد من الإشارة لمقوماتها والتي كما عرفت أنها مدخلية الزمان والمكان في مجال الاستنباط.
تعريف الزمان والمكان:
يختلف المقصود من مفهومي الزمان والمكان باختلاف العلوم، وحتى يحدد المقصود منهما لابد من تحديد العلم الذي يبحث عنهما فيه، فالزمان في اللغة بمعنى الوقت، والمكان بمعنى الموضع والمحل.
وعلى المستوى العلمي يقصد من الزمان مقدار الحركة الوضعية للأرض حيث يتم قياسه بمنتصف النهار، أما المكان فهو الشكل الذي تملك جميع نقاطه خاصية معينة ويقال عنها المكان الهندسي.
وفي الفلسفة، فإن الزمان وفقاً لرأي أكثر الفلاسفة أمر واقعي وحقيقي، وهو عبارة عن مقدار الحركة، وحتى بالنسبة للمتأخرين من الفلاسفة الإسلاميـين، فإن الزمان في نظرهم هو البعد الرابع للمادة.
وليس المقصود من الزمان والمكان في المقام معناهما العلمي ولا الفلسفي، لأنهما فيهما من الأمور التكوينية الخارجة عن ذات الإنسان، فلا يمكن أن يؤثرا في الحكم الشرعي وعملية الاستنباط. وحتى معناهما العرفي فإنه غير مقصود في المقام، لأنه وإن أمكن تأثيرهما بهذا المعنى في الأحكام والموضوعات والملاكات، وذلك بأن يؤخذ الزمان أحياناً شرطاً للوجوب كحلول شهر رمضان، فإنه شرط لوجوب الصوم، وأحياناً يكون شرطاً للواجب كحلول شهر ذي الحجة، فإنه شرط لوجوب الحج.
وإنما المقصود من هذين المفهومين ملاحظة خصوصيات كل عنصر ومحيط اجتماعي يمكنه أن يؤثر على الموضوعات والأحكام بحيث يشكل قرينة حالية تؤثر في فهم النصوص، وهذا يمكن تصوره على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول: زمان ومكان الصدور:
فحتى يستنبط حكم شرعي من النصوص الدينية لابد من ملاحظة جميع القرائن اللفظية والعقلية المتصلة والمنفصلة، ومن الواضح أن المكان والزمان اللذان نزلت فيه الآية أو صدرت فيه الرواية يعدّ أحد القرائن العقلية المتصلة والتي توجب سعة مدلول الدليل أو ضيقه، مثل: أفضلية زيارة الإمام الرضا(ع) فقد سئل الإمام الجواد(ع): أيهما أفضل زيارة أبيك الرضا، أم زيارة جدك الحسين(ع)، فقال: زيارة أبي الرضا أفضل من زيارة جدي الحسين لأنه لا يزوره إلا الخواص من الشيعة.[8] فإن ملاحظة الظروف الموضوعية التي صدرت فيها الرواية المذكورة تمنع من انعقاد اطلاق لها يفيد دلالة النص على تقديم زيارة الإمام الرضا(ع) على زيارة الإمام الحسين(ع) في غير الأوقات المخصوصة، وتلك الظروف هي حركة الوقف التي اجتاحت المجتمع الشيعي بعد شهادة الإمام الكاظم(ع)، واستمرت لعصر الإمام الجواد(ع)، وحالت دون الإيمان بإمامة الإمام الرضا ومن بعده الإمام الجواد(ع)، وقد كان هذا الأسلوب المذكور في الرواية أحد الأساليب المتبعة للوقوف أمام تلك الحركة.
[1] سورة الروم الآية رقم 30.
[2] سورة النساء الآية رقم 59.
[3] مجمع الفائدة والبرهان ج 3 ص 436.
[4] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 17.
[5]القواعد والفوائد ج 1 ص 151.
[6] تحرير المجلة ج 1 ص 34.
[7] المصدر السابق.
[8] الكافي ج 4 ص 584.