29 مارس,2024

استظهار المعنى الباطن (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدخل:

كنا نعمد فيما سبق إلى ممارسة منهج(إتباع المعنى الظاهر) بمختلف الطرق التي يتكون منها الظهور سواء بشكل مباشر أم من خلال القرائن المتصلة والمنفصلة.

أما هنا فسوف نمارس منهجاً جديداً مضى عليه المفسرون، وهو الذي يمكن تسميته بمنهج(استظهار المعنى الباطن) حيث نمارس لدى العمل بهذا المنهج أسلوباً آخر في التعامل مع النص القرآني يتمثل في الوقوف عنده طويلاً، واستجلاء غوامضه، واكتشاف بواطنه، والغوص في أعماقه، والبحث عن اسراره، بينما كنا في المنهج السابق، وهو منهج إتباع المعنى الظاهر، نمارس عملية تلقّي ما ينطبع في أذهاننا من خلال قراءة النص القرآني.

توضيح المنهج:

هذا ولنبدأ بتوضيح المنهج من خلال تقديم إيضاحات له بضرب بعض الأمثلة القرآنية البسيطة، ثم نصل إلى الحديث عن مدى مشروعية هذا المنهج وسلامة القاعدة التي يقوم عليها، والحدود التي يجب أن يتقيد بها.

المثال الأول:

عندما نقرأ قوله تعالى:- ( قل هاتوا برهانكم) المتكرر في سورة البقرة، والأنبياء، والنمل، والقصص، فإن معناه الظاهر ربما لا يزيد على مطالبة الطرف الآخر الموجه إليه الخطاب بالبرهان على مدعاه، ولكننا إذا دخلنا إلى عمق هذا الخطاب ولا حظنا استخدام القرآن له مراراً ومع أطراف متعددة، نستطيع أن نستلهم وعلى قاعدة استظهار المعنى الباطن، معنى جديداً، وهو اعتماد الإسلام دائماً على منهج البرهان المنطقي، ورفضه لأية قضية لا تـثبت نفسها بالبرهان.

المثال الثاني:

وهكذا حينما نقرأ قوله تعالى:- ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) المتكرر بهذا النص، أو بنص مقارب في سورة البقرة، والنساء، والإنعام، والإسراء، وغيرها، فإن معناه الظاهر لا يزيد على الأمر بالإحسان للوالدين، ولكن التأمل في سرّ هذا التأكيد القرآني المتكرر، وربطه بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، وغير ذلك من القرائن المحيطة بالنص يجعلنا نستلهم وعلى وفق قاعدة استظهار المعنى الباطن، معنى جديداً وهو أن الأديان تؤمن بأن طريق تكامل الإنسان يعتمد على عنصر الإيمان بالله تعالى، وعلى عنصر الحفاظ على الروابط الاجتماعية، ويرفض فلسفة الاعتـزال، والهروب من الواقع الاجتماعي، كما يرفض القول باعتماد التكامل الإنساني على أساس المعرفة النظرية وحدها بعيداً عن ممارسة العمل الصالح، كما يمكن أن نكتشف معنى آخر هو اعتقاد النظرية الدينية ببناء الكيان الاجتماعي السالم على أساس محور الأسرة والتي تـتقوم بالوالدين.

والحاصل، إن التأمل في هذا النص المتكرر يفتح لنا آفاقاً في مجال النظرية الأخلاقية والنظرية الاجتماعية في الإسلام، وهي معاني قد لا تنطبع في ذهننا عند ممارستنا لعملية التلقي البسيط للنص على قاعدة اعتماد المعنى الظاهر.

مشروعية هذا المنهج:

بعد التعرف على حقيقة هذا المنهج، نحتاج إلى معرفة الدليل على مشروعيته، وبخاصة أنه لا يمثل منهجاً مألوفاً لدى المفسرين، فقد جرت معظم كتب التفسير على منهج تفسير الظاهر، وأما تكوين رؤية تفسيرية شاملة على أساس منهج استظهار الباطن فهو ما يندر العثور عليه في كتب المفسرين وبخاصة القدامى.

إذن ما هو الدليل على مشروعية هذا المنهج، وسلامة القاعدة التي يـبتني عليها؟…

وعند الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا أن نذكر عدة أدلة:

أولاً: الدليل القرآني:

يمكن القول بأن القرآن الكريم قد نطق بمشروعية هذا المنهج، وسلامة قاعدته، بل دعى إلى اعتماده، فلاحظ قوله تعالى:- ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) ترى أنه يصرح بكون الحقائق كلها مبينة فيه، وهي ليست موجودة فيه على سبيل الرمز والإشارة العامة، بل هي موجودة فيه على سبيل الكشف التفصيلي، والبيان الواضح وهو ما تعطيه عبارة(تبياناً لكل شيء)، مع أن منهج تفسير الظاهر لا يكاد يحصّل لنا هذه الحقيقة، ولا يطلعنا إلا على بعض المعارف والحقائق والأحكام، فيما تبقى كثير من النظريات الإسلامية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأخلاق لا تـتضح من خلال منهج إتباع ظهور المفردات القرآنية، مما يدلنا على ضرورة إتباع منهج آخر يساعد على اعتبار القرآن:- (تبياناً لكل شيء).

ونجد هذا المعنى مرة أخرى في قوله تعالى:- ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)[aa1] .

فإن هذه الآية تشير إلى وجود القدرة على اكتشاف كل الحقائق والمعاني في القرآن الكريم، ومن المعلوم أن هذا لا يكون من خلال تفسير القرآن بالظاهر.

وهكذا حينما يقول تعالى:- ( بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم)[aa2] ، فهذه الآية كاشفة عن أن القرآن الكريم له في صدور أهل العلم والمعرفة دلالات بينات خاصة غير موجودة عند غيرهم ممن يفهمون ظاهر الكلام وهم عموم الناس.

ثانياً: السنة المباركة:

وقد أكدت السنة المباركة الثابتة عن المعصوم(ع) وجود ظاهر وباطن للقرآن الكريم، ودعت إلى استجلاء بواطنه، واكتشاف أعماقه، وأكدت أن كل الحقائق العلمية موجودة فيه، كما أكدت أن كل المعلومات التي يجملها المعصوم(ع) إنما هي مأخوذة من القرآن لا غير. ثم لاحظنا أن الأئمة الأطهار(ع) مارسوا هذا المنهج في عشرات النصوص الواردة عنهم(ع).

ولنشر لبعض النصوص الواردة في هذا الشأن كنماذج:

منها: ما روي عن علي(ع) أنه قيل له: هل عندكم شيء من الوحي؟… قال: لا، والذي فلق الحبة وبرء النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه[aa3] .

وقد علق على هذا الحديث المفسر الكبير السيد العلامة الطباطبائي(قده):

وهو من غرر الأحاديث، وأقل ما يدل عليه: إن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذة من القرآن الكريم.

ومنها: ما ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص): فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الفقه، فليجل جال بصره، وليـبلغ الضفة نظره، ينج من عطب، ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلص، وقلة التربص….

ولا يخفى أن هذه الرواية كافية في الدلالة على المعاني العظيمة التي يحتويها القرآن الكريم، والتي يحتاج اكتشافها إلى إمعان نظر، وإجالة بصر، وحسن تخلص، وقلة تربص.

ومنها: ما جاء عنه(ص): إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن[aa4] .

ثم إن هذا الذي ذكرناه من النماذج الروائية، يمثل السنة القولية، أما على مستوى السنة العملية، ونعني بها ما ثبت عن المعصومين(ع) من ممارسات تفسيرية، فإننا نلاحظ أنهم قد اتبعوا هذا المنهج عملياً ومشوا عليه فيما ورد عنهم من استنـتاج أو تفسير للعشرات، بل المئات من الآيات القرآنية.

ولنذكر تـتميماً للفائدة بعض الأمثلة:

منها: ما رواه أبو الجارود قال: قال أبو جعفر الباقر(ع) إذا حدثتكم بشيء فسألوني من كتاب الله، ثم قال-في بعض حديثه-إن النبي(ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يابن رسول الله، أين هذا من كتاب الله عز وجل؟

قال: قوله تعالى:- ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس). وقال:- ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) وقال:- ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)[aa5] .

حيث نلاحظ أنه(ع) قد استنـتج هنا أحكاماً ونظريات هي أكبر من مدلول الآية اللفظي.

ومنها: ما جاء من أن المتوكل العباسي نذر لله إن رزقه العافية أن يتصدق بمال كثير، فلما عوفي سأل الفقهاء عن حدّ(المال الكثير) كم يكون؟ فاختلفوا فقال بعضهم ألف درهم، وقال بعضهم عشرة آلاف درهم، وقال بعضهم مائة ألف، فاشتبه عليه هذا. ولما وصل السؤال إلى الإمام الهادي(ع) قال: يتصدق بثمانين درهماً، فلما سألوه عن ذلك، قال: إن الله عز وجل قال لنبيه(ص):- ( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة)، فعددنا مواطن رسول الله(ص) فبلغت ثمانين موطناً)[aa6] .

فإن الاستدلال بهذه الآية على أن عدد ثمانين هو كثرة، إنما هو عملية تحليل واستنـتاج قام بها الإمام.

——————————————————————————–

[aa1]سورة الزمر الآية رقم 27.

[aa2]سورة العنكبوت الآية رقم 29.

[aa3]الميـزان ج 3 ص 71.

[aa4]المصدر السابق.

[aa5]الاحتجاج ج 2 ص 56.

[aa6]المصدر السابق ص 258.