القراءات المختلفة للدين (5)

لا تعليق
محرم الحرام 1425 هـ
4
0

التفسير الثالث للتعددية الدينية: التعددية الدينية السلوكية:

وتدعو هذه التعددية أتباع الأديان والمذاهب جميعها إلى التعايش السلمي والتآلف والحوار الموضوعي الهادئ والمداراة، وتحمل البعض للبعض الآخر، وتجنب المواقف المتشنجة والإرهاب والتناحر.

فإنه بالرغم من اختلاف الأديان في المعتقدات والأحكام والطقوس، واعتقاد كل دين أو مذهب بأنه الحق دون غيره، لكن الجميع قادر على التعايش السلمي القائم على أساس وجود تعاليم مشتركة، وهذا هو معنى التقارب بين الأديان والمذاهب.

لكن هذا لا يعني الاعتراف بأن جميع الأديان والمبادئ على حق، أو تنازل الإسلام عن بعض تعاليمه والحكم ببطلانها، أو الاعتراف بالتعاليم الباطلة للآخرين لأجل التقارب.

وهنا ينبغي ملاحظة أمر مهم للغاية، وهو: هل أن جون هيك وأمثاله من الدعاة للتعدية الدينية يعنون هذا الأمر أو أنهم يعنون أمراً آخر غير ذلك؟…

الذي يـبدو أن هيك وأمثاله من دعاة التعددية الدينية لا يعنون منها هذا التفسير للتعددية، بل إنهم يعنون بها ما ذكرناه، وأن جميع الأديان على حق، وإن كان هذا المعنى للتعددية، أي التسامح الديني من جملة أهدافهم.

الجواب عن هذا التفسير للتعددية الدينية:

ويمكننا أن نلاحظ على هذا التفسير للتعددية، فنقول:

إن هذا التفسير في نفسه مما يحكم العقل والإسلام ورسول الإنسانية محمد(ص) والأئمة الأطهار(ع) بصحته ومشروعيته، لكن ضمن حدود معينة، فإن الإسلام من دعاة التعددية السلوكية، إن لم يكن أول من دعى إليها، وخاصة مع ما يلاحظ من مواقف سائر الأديان، وخاصة الكنيسة، من سائر الأديان والمبادئ وأتباعها، حيث حاربتها بشدة، بل حاربت العلم والعلماء ولا أظن الذاكرة البشرية تنسى حوادث محاكم التفتيش وأمثالها، وما انطوت عليه من الترويع.

دعوة الإسلام للحوار الموضوعي:

فالإسلام يدعو إلى التعايش القائم على الحوار الموضوعي والحكمة الحسنة، وعدم التناحر بين المسلمين وغيرهم، ويدل على هذه الحقيقة الإسلامية أدلة عديدة نستعرض بعضها:

الأول: دعوة الإسلام للتعايش السلمي مع الكتابيـين غير المعاندين والمحاربين، متى التـزموا بشروط الذمة، لذلك نلاحظ أنهم عاشوا بكل أمان محتفظين بحقوقهم في ظل الدولة الإسلامية، ولكن بشروط معينة الغاية منها الحفاظ على طهارة الفرد والمجتمع، وتطهيره من المفاسد التي تدمر سعادته وموضوعيته.

بل وكذلك مع غير الكتابيـين من الكفار، لكن من غير المحاربـين والمعاندين، حيث يمكن للحاكم الإسلامي الشرعي المعاهدة معهم، ولكن في ظل شروط وظروف معينة، وخاصة مع الشعوب المجاورة للمسلمين، وعدم وجود القوة الكافية للمسلمين، أو لأجل بعض العناوين الثانوية التي تبرر المعاهدة، مع معاهدة الحاكم الشرعي الإسلامي، والالتـزام منهم بعدم مشاركتهم في محاربة المسلمين أو التآمر عليهم، أو التجاهر بالمنكرات والممارسات المنحرفة وأمثالها، ولذلك حدثنا التاريخ عن أن الرسول(ص) عاهد المشركين في صدر الإسلام ضمن شروط وظروف معينة.

هذا ولهذا الموضوع مجموعة من التفصيلات الفقهية يمكن لمن أراد الإطلاع عليها والإحاطة بها المراجعة للكتب الفقهية الموسعة والمقررة لذلك.

الثاني: لقد دعى الإسلام في مقام التبليغ والإرشاد إلى الحوار الموضوعي والحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالأحسن، كما صرحت به الآية الشريفة:- ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، لأن الإسلام يملك الحجة الأقوى في مقام الحوار(الإسلام يعلو ولا يعلى عليه).

بل إن الرسول(ص) والأئمة المعصومين(ع) اتبعوا أسلوب التدرج في بيان الأحكام والمداراة، وخاصة الأحكام المخالفة بشدة لعادات المجتمع والتزاماتهم، أو لآراء وتعاليم الأديان والمذاهب الأخرى، حيث استخدم التدرج، والمداراة مع أتباع الأديان والمذاهب والتقاليد الأخرى وخاصة غير المعاندين، إذا لم تـترتب عليه بعض الآثار الخطيرة، وذلك من أجل إقامة الحجة وإتمامها عليهم.

وتدل على ذلك سيرة النبي الأكرم محمد(ص) والأئمة الطاهرين(ع)، بل كانوا يوصون أتباعهم بالتـزام السلوك الحسن والمداراة والعلاقات الطيـبة مع سائر المذاهب.

ومن هنا ذكر علمائنا(رض) أن من أقسام التقية، تقية مداراتية، بمعنى الترخيص في المشاركة في جماعتهم ومجالسهم، وذلك استناداً لهذه النصوص الإسلامية.

الثالث: أن الإسلام شريعة سمحة وسهلة، بمعنى أن أحكامه وتعاليمه لا تشتمل على المشقة، لذلك جعلت في الشريعة الإسلامية بعض القواعد الثانوية الحاكمة على الأحكام الأولية، كقاعدة نفي الضرر، ونفي العسر والحرج، واختلال النظام وأمثالها، لذلك ترتفع الأحكام الأولية في حالة الضرر والحرج، أو تبدل لأحكام ليس فيها ذلك كما يـبدل الوضوء الضرري بالتيميم.

لكن ذلك في غير الأحكام التي أخذ فيها الضرر والحرج، كالجهاد والخمس والزكاة ، أو أخذ فيها نوع المشقة كالصوم والحج، نعم لو كان الضرر أو الحرج أكثر من المتعارف فإنه يؤثر في رفع الحكم، وبيان هذا أكثر ما ذكرنا يطلب من محله.

وكذلك فإن القرآن الكريم يصرح:- ( لا إكراه في الدين)، وهو يعبر عن حقيقة وجدانية، وإن الاعتقاد والإيمان الحقيقي وهو الملاك في الفلاح في القيامة لا يقبل الإكراه، وإنما لابد أن يصدر عن قناعة داخلية اختيارية، لذلك لا يمكن لأحد فرض الإيمان الحقيقي، ولكن الإسلام يحاول إزالة عوامل الفتنة والانحراف من وسائل الإرهاب والإغراء من أفراد وممارسات وسائل الإعلام المنحرفة وأمثالها، بحيث تمنع من النظر الموضوعي لمبدأ الحق أو الالتـزام الاختياري الحر به، وربما استعمل القوة في سبيل توفير هذه الظروف الموضوعية النظيفة.

الرابع: إن التعاليم الإسلامية التي ذكرناها إنما هي في مجال التشريع، أو في مجال الاعتقاد القلبي الحقيقي، وبعض المجالات السلوكية، ولكن في مقام التطبيق، والسلوك الخارجي والعلمي، فإنه ربما يستعمل القوة، وخاصة في مواجهة التظاهر والتجاهر بالمنكرات التي تعرض النظام والمجتمع والمبادئ الإسلامية للخطر، حتى من غير المعتقدين بالإسلام، أو من المسلمين المنحرفين.

فإن الإنسان حر في اختيار الدين، ولكن بعد اختياره الإسلام، فيلزم عليه الخضوع لقوانينه وخاصة في المجتمع الإسلامي، إذا كان للنظام الإسلامي القدرة على استعمال القوة لذلك، فإن الإسلام يستعمل القوة مع المتخلفين عن قوانين النظام الإسلامي، كما هو الأمر في كل أمة، حيث يوجد قانون جزائي يتلاءم ومبادئها، وإلا لو لم يوجد الجزاء لدبت الفوضى فيها وخاصة في حالة التخلف عن القوانين الاجتماعية العامة، والتجاوز على حقوق الفرد والمجتمع، نعم ربما يستعمل القوة أيضاً في المتخلف عن بعض القوانين والأحكام الشخصية.

إذن فإن كل أمة تستعمل القوة في مواجهة التصرفات التي تؤدي إلى اختلال النظام، ولذلك وضعت القوانين الجزائية في مواجهة تلك التصرفات التي تـتعرض للنفوس أو الأعراض أو الأموال أو غيرها من حقوق الفرد والمجتمع، أو أنها تـتهدد المبادئ والقيم التي تؤمن بها تلك الأمة، مع التمكن من استعمال القوة، بل أنه تعالى أودع في فطرة الإنسان غريزة الدفاع عن حقوق الفرد أو المجتمع أو كرامته ووجوده، حتى لو استلزم ذلك القوة والحرب حيث لا يـبقى هناك طريق لدفع هذا التجاوز إلا القوة.

إذن فالشريعة سمحة وسهلة في تشريعاتها، ولا إكراه على الإيمان الحقيقي، ولكن لا يعترف بالتسامح في أجزاء الأحكام والتعاليم الرفيعة والعمل بها وخاصة في التظاهر بها أو في مجال تضعيف الأحكام والعقائد الدينية، أو التنازل لإرادة أعداء الإسلام والمعاندين والعمل أو الالتـزام بما يرغبون، أو في مجاله التهديد لحقوق الفرد والمجتمع الإسلامي، أو تهديد بيضة الإسلام والمسلمين وكيانهما، بأن تستهدف إبادة المسلمين، أو الإسلام، أو تحريفه، وكذلك نشر المنكرات والفساد، وأمثالها مما تهدد وجود الإسلام أو المسلمين، فلا مسامحة في هذا المجال، كل ذلك من أجل الحفاظ على توازن المجتمع الإسلامي، وتوفير الجو الموضوعي والتنظيف للتفكير والاعتقاد والالتـزام، وعدم التجاوز على القوانين الإسلامية.

وهكذا نرى أن التسامح له مجالاته، كما أن للقوة مجالاتها، ولا يصح استعمال التسامح في مجالات القوة وبالعكس، وقد بينت الشريعة الإسلامية هذه المجالات وأحكامها، كما تلاحظ في النصوص الشريفة، ومخـتلف الأبواب الفقهية، وكل ذلك من أجل التوصل إلى كمال الإنسان وسعادته الحقيقية في الدنيا والآخرة.

وبعبارة مختصرة، إن الشريعة الإسلامية سمحة سهلة، بمعنى أن الشارع المقدس في مجال التشريع والتقنين جعل أحكامه وشريعته سمحة سهلة على المكلفين، ولم يشرعها بنحو توجب عليهم المشقة والحرج أو الضرر الذي لا يتحملونه، لذلك جعل أحكامه أولية وثانوية، وكذلك رفع كل حكم يوجب الضرر والعسر والحرج بالشروط والحدود التي ذكرها الفقهاء، قال تعالى:- ( وما جعل عليكم في الدين من حرج).

الخامس: إن الملاحظ هو أن القوة تكون في بعض المجالات هي العلاج الأخير الذي يستخدمه الإسلام لمعالجة الجريمة والانحراف المدمر للفرد والمجتمع، لذلك ذكرت في الشريعة الإسلامية مراتب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يـبدأ بالإعراض وإظهار الكراهة والإنكار القلبي، ثم الإظهار بالقول واللسان، والمرحلة الأخيرة استخدام القوة الرادعة، ضمن شروط يذكرها فقهاؤنا، فيلاحظ أن استعمال القوة آخر مرحلة من أجل تطهير الفرد والمجتمع من المنكر، وخلاص الممارس له بل وغيره من واقعه التعيس الذي يعيشه، وربما من دون أن يشعر بذلك.

وفي الجهاد كذلك، فإن العلماء ذكروا أنه لا يجوز البدء بالقتال، بل يلزم الابتداء بوعظ الأعداء ونصيحتهم بالكف عن اعتدائهم، فإن لم ينفع وأصروا على اعتدائهم على الإسلام والمسلمين، فيستخدم القتال من أجل تطهير المجتمع من أعداء النور والهداية.

السادس: هناك الكثير من النصوص الإسلامية تدل على التـزام الإسلام بالتعايش السلمي القائم على الحوار الموضوعي والبحث عن الحق، ورفض التعصب مع أهل الكتاب، بل وغيرهم من الكفار، ويقول تعالى:- ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون)، حيث يدعو للتعايش السلمي معهم ضمن شروط الذمة والمعاهدة بعدم المحاربة والتآمر والتجاهر بالمنكرات وأمثالها.

وأما إذا لم يخضع الآخر للحوار الموضوعي والمعاهدة والشروط بحيث أصرّ على مخالفتها، فإن الإسلام يستخدم أسلوباً مشدداً معه، ولكن من أجل تطهير الفرد والمجتمع من عوامل الفتنة، وهذا دليل آخر على أن القوة هي العلاج الأخير الذي يستخدمه الإسلام.

الحرية في الإسلام:

هذا ولأن هذا التعريف الثالث للتعددية الدينية، أعني التسامح الديني، بل سائر التفسيرات المذكورة لها تعتمد كثيراً على مبدأ الحرية، ومنحها للإفراد والشعوب، لذلك يجدر بنا التعرف على نظرة الإسلام ورأيه فيها.

ولأجل أن تـتضح الرؤية الإسلامية للحرية، وأنها تخـتلف عن الأطروحة الغربية، ورأيه فيها، نشير إلى بعض الملاحظات، من خلال بعض النقاط:

الأولى: إن الإسلام يسعى جاهداً ودائماً في تطهير الفرد والمجتمع من عوامل الفتنة، والانحراف، والسقوط والانحطاط، وموانع التفكير الموضوعي، والالتـزام الاختياري الحر، لذلك يمنع من بعض الممارسات، سواء المسلمين أم غيرهم، لو مارسوا المنكرات أو الأعمال المنحرفة، فيواجهها في الغالب بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن لم يمكن فبالقوة.

وقد تقدمت الإشارة إلى أن عنصر القوة يعدّ هو العلاج الأخير في بعض المجالات.

ولأجل ذلك يمنع من التآمر والمحاربة للإسلام والمسلمين، وخرق النظام، وممارسة المنكرات الهدامة للفرد والمجتمع، والفساد الأخلاقي، والإباحية، والتحريف والتشويه، وخداع المسلمين وإغفالهم، والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال وغيرها من المجالات المنحرفة، ولذلك من أجل توفير الجو الموضوعي النظيف للفرد والمجتمع، وتطهيره من عوامل الفتنة والانحراف من معتقدات وطغاة وأفراد وممارسات وأساليب الإرهاب والإغراء، حكم بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه، وأحكام الحدود والديات ومنع من نشر كتب الضلال ومراكز الفحشاء وأمثالها.

لذلك فإن الإسلام يرفض الحرية بمفهومها الغربي، وهو الليبرالية، التي تعني أن الناس أحرار في السلوك والدين والرأي، ولا تفرض حدوداً وقيوداً على السلوك، ولا يحق لأي أحد في رأيها التدخل في الشؤون والحرية والمنافع المادية الشخصية، بل يلزم الحفاظ عليها ما لم يتجاوز على الآخرين.

الثانية: يعترف الإسلام بجميع الغرائز والميول البشرية، إذ لم يخلقها الله سبحانه وتعالى عبثاً في البشر، بل لأجل إرضائها، فيرى ضرورة الاستجابة لها، ولكن ضمن حدود معينة ذكرها الإسلام في أحكامه المقدسة، وبذلك يخـتلف عن الكثير من المبادئ أو الأديان المحرفة التي تدعو للرهبانية، وكبت هذه الغرائز، قال تعالى:- (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)[o1] ، أو أنها تدعو للإباحية المطلقة وإشباع هذه الرغبات بلا حدود حيث إنهم:- (كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)، وما يترتب على ذلك من مفاسد مدمرة للفرد والمجتمع، وإنما يدعو الإسلام للاستجابة لها ضمن حدود معينة بما يحقق كمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، لذلك سميت الأحكام الإسلامية في النصوص الإسلامية بالحدود، قال تعالى:- (تلك حدود الله)[o2] ، وقد ورد التعبير عن الأحكام بالحدود في آيات عديدة.

ففي رواية صحيحة عن أبي عبد الله(ع) عن رسول الله(ص) أنه قال: إن الله جعل لكل شيء حداً، وجعل لمن تعدى ذلك الحد حداً. والمراد من الحد الأول الأحكام الشرعية، ويراد من الحد الثاني الحدود والتعزيرات، وهذه الصحيحة تـثبت أن الأحكام الشرعية حدود لرغبات الإنسان، وكذلك تدل على عدم جواز ارتكاب المعصية أو التجاهر بها في المجتمع الإسلامي، فإنها تستحق الحد.

الثالثة: لابدّ لكل فرد أو مجتمع من أن يلتـزم بمجموعة من القوانين، كضرورة لازمة لحياته الفردية والاجتماعية، لذلك رأينا وجود الكثير من القوانين في جميع الملل والنحل، وفي كل زمان ومكان، لأن الحرية المطلقة غير المحددة بقانون تؤدي للفوضى، كحياة الغابة، وبالمنطق القرآني أن هؤلاء الإباحيـين والمتحللين، كالأنعام، بل أضل سبيلاً، كما أنه يوجد قانون جزائي للمتخلفين عن تلك القوانين في كل أمة.

وفي رأي الإسلام أن القانون الذي يعبر عن الحرية الحقيقية والصحيحة للإنسان، وتـتكفل في تحقيق تكامله وسعادته في الدنيا والآخرة، تـتمثل في عبودية الله والالتـزام بالقانون الإسلامي الإلهي، وأما الحرية غير المحددة، فلا يعترف بها، لما يترتب عليها من مفاسد للفرد والمجتمع.

الرابعة: إذا كانت الحرية غير المحددة، أو التي يعترف بها البعض صحيحة وحقة، ويعترف الإسلام بها، بحيث يسمح للإنسان أن يتصرف ما شاء، وأن يستجيب لغرائزه بمختلف الممارسات غير المشروعة، دون أن يسمح لأحد التدخل بالشؤون الشخصية للفرد، فإذن لماذا وجدت أحكام الحدود والديات والقصاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه في الشريعة الإسلامية؟…

ولماذا لم يسمح بالإباحية والتجاهر بممارسة المنكرات في المجتمع الإسلامي؟…فإن الإسلام لا يسمح بذلك، وخاصة التظاهر به، حتى لأولئك الذين يريدون الالتـزام، أو أنهم يعتقدون بالإباحية حسب تصوراتهم القاصرة، كل ذلك من أجل تطهير المجتمع الإسلامي من عوامل الانحراف والفتنة، ومن أجل توفير المحيط المناسب لسعادته الحقيقية.

الخامسة: قد أتضح من خلال ما تقدم الفرق في مفهوم الحرية بين التصور الإسلامي والغربي، ففي رأي الإسلام أن الحرية تـتحدد بما يحقق المصالح الحقيقية للإنسان، سواء المادية أو المعنوية، ولذلك فإن حدود هذه الحرية إنما تـتمثل بالأحكام والتعاليم الإلهية، التي تـتضمن هذه المصالح الواقعية، دون ملاحظة أهواء البعض أو أطماعهم، بل يلاحظ في ذلك تحقيق المصالح الواقعية للبشر، ولذلك كان المشرّع هو الباري سبحانه وتعالى، وهو الذي يجعل تلك الأحكام والحدود للحرية، لأنه الذي يحيط بتلك المصالح الواقعية، وهذه المصالح كما عرفت لا تـتحدد بنوع معين، بل قد تكون فردية أو اجتماعية، مادية ومعنوية، دنيوية وأخروية، وغيرها.

بينما في التفكير الغربي، تـتحدد الحرية بما لا تزاحم الآخرين أو تضرهم، بما يحقق المصالح والمنافع المادية، وأما غير هذه الحدود، فلإنسان تمام الحرية في جميع التصرفات، ويذهب إلى أن حق التقنين للأكثرية، فإذا صوتوا على قانون، أو على نوع من الحرية كان هو الحق، ويكون قانوناً مفروضاً حتى على الجهة المعارضة وإن كانت أقل من الأكثرية بقليل، وأما لو صوتوا في زمان أو مكان آخر على قانون آخر مخالف له، كان هو المفروض.

لكن الإسلام لا يكتفي في تحديد الحرية في عدم التجاوز أو الإضرار بالآخرين، أو تحقيق المنافع المادية، بل يشمل عدم الإضرار بالنفس، وكذلك ما يؤدي إلى تحقيق السعادة والكمال الحقيقيـين، وجميع المنافع والمصالح المادية الحقيقية والمعنوية والدنيوية والأخروية وغيرها، كل هذه المصالح يلاحظها في تشريع كل حكم من أحكامه، وهذا هو مدلول الحرية الحقيقية الصحيحة في الإسلام.

——————————————————————————–

[o1]سورة الحديد الآية رقم 27.

[o2]سورة البقرة الاية رقم 225.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة