20 أبريل,2024

الترف, أقسامه وأسبابه

اطبع المقالة اطبع المقالة

يمثل وجود المترفين في المجتمعات عاملاً سلبياً عليها، لما لهم من دور رئيس في عدم نجاح ذلك المجتمع في كافة الأصعدة، سواء الدينية منها، أم الفكرية، والثقافية، والعلمية.

وقد أشار لهذا المعنى القرآن الكريم، قال تعالى:- (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)[1]، فقد مثلوا خط المواجهة لعملية التغيـير التي جاء بها الأنبياء(ع). نعم لم يعرض القرآن الكريم لتحديد نوعية المترفين الذين كانوا يعارضون العملية الإصلاحية في أوساط الأمة، والتغيـير الذي كان يسعى له الأنبياء.

ولا ريب أن للمترفين دوافع تدعوهم للحيلولة دون العملية الإصلاحية والتغيـيرية في أوساط الأمة، لسنا بصدد الحديث عنها، فإن لذلك مجاله، وإنما نود التركيز على بيان أقسام الترف، وعرض أسباب وجوده.

حقيقة الترف:

وقد عُرّف الترف في اللغة، بأنه: التنعم. وأما الترفه، فيقصد منه: التوسع في النعمة، والمتـرف هو: الذي قد أبطرته النعمة، أي أطغته[2].

وطبقاً لما ذكروه، لن يخرج المقصود منه عن أحد معنيـين:

الأول: أن يكون المقصود من المترف، هو مجرد التوسع في التمتع بملاذ وشهوات الدنيا.

الثاني: أن المترف هو من أصابته حالة تجعل صاحبها طاغياً متكبراً صاداً عن الحق والاستقامة.

ويمكن أن يكون المعنى الثاني من لوازم المعنى الأول، فلا يمكن أن يصل المترف للمعنى الثاني، إلا بعد أن يمر بالمعنى الأول، فلاحظ.

وطبقاً للتعريف المذكور، سوف تكون النسبة بين الترف والإسراف العموم من وجه، لأنه قد يكون في البين ترف من دون أن يكون إسراف، كما لو تنعم الإنسان في النعم المادية مثلاً بما لا يكون زائداً على شأنه ووضعه الاقتصادي، ولا يكون خارجاً عن الحد المتعارف، كما لو لبس ثوباً بمائة ريال، وهو يناسب شأنه مع أنه يمكن له أن يلبس ثوباً بخمسين مثلاً، فإنه لا يعدّ إسرافاً، وإن عدّ ترفاً وبذخاً، كما أنه قد يتحقق الإسراف من خلال الإنفاق للأموال في غير محلها، من دون أن يكون في ذلك تنعم للمنفق إليها، فإنه إسراف وليس ترفاً، وقد يجتمعان في جملة من الموارد، فلاحظ.

والحاصل، لا ينبغي الخلط بين المفهومين، فإن كل واحد منهما يشير إلى حقيقة أخرى تغاير الحقيقة الثانية، فلاحظ.

سلبية الترف في نفسه:

وربما يستوحى من تسليط القرآن الكريم على موقف المترفين من العملية الإصلاحية في أوساط الأمة، الإشارة إلى سلبية الترف، وأنه يمثل بنفسه علة تامة للفساد العقائدي والانحراف الأخلاقي.

وهذا ما أشار إليه السيد الطباطبائي(ره) في تفسيره القيم الميزان، عند تفسيره لقوله تعالى:- (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)[3]، قال(قده): وفيه إشعار بأن الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة[4].

ويقصد بالآية اللاحقة، قوله تعالى:- (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)[5].

وعليه، فإن نفس وجود الترف، يؤدي إلى مثل هكذا أمور، ولا ربط لذلك بالعوامل الأخرى الخارجة عن هذا العنوان، من الظروف البيئية، وعوامل التربية، وما شابه ذلك.

ويساعد على هذا، ملاحظة واقع المترفين خارجاً، فإن الملحوظ، أن الفرد منهم قبل أن يبلغ هذا المرتبة، يكون على طريق الاستقامة والصلاح، ومتى أصبح من المترفين، فإنه ينحرف عن الطريق القويم، وتفسد أخلاقه، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قارون، المعاصر لنبي الله موسى(ع)، فإنه بعدما كان من أتباع الكليم(ع)، وكان من المقربين منه، إلا أنه وبمجرد أن أصبح مترفاً بفتح خزائن الأموال إليه، أنحرف عن الطريقة القويمة، وأصبح فاسداً، وهكذا.

آثار الترف:

كما يمكن أن يستدل لكونه مأخوذاً بنحو العلة التامة، وليس بنحو الاقتضاء، بما تضمنته الآيات الشريفة من آثار له، فإن المستفاد منها وجود أثرين:

أحدهما: المعصية، وارتكاب الذنوب:

لأن مقومات الخروج على الباري سبحانه وتعالى متوفرة عنده، فإنه يعتقد أن ما يمتلكه من قدرة مالية تجعله مستغنياً عنه تعالى، ويظن أنه قد بلغ من القدرة ما يوفر له الاستقلالية عن الذات المقدسة، فيقع في المعصية وارتكاب الذنوب غفلة منه عن حقيقته وواقعه.

ثانيهما: الانحراف العقائدي:

وفقاً لما عرفت من اعتقاد الاستغناء عن الباري سبحانه، لابد وأن يكون منكراً للمعاد، وأن هناك حياة أخرى وراء هذه الحياة، ومن اللازم أن إنكار المعاد يوجب إنكار وجود الصانع الذي يلزم أن يطاع ويعبد، كما لا يخفى.

وقد أشير لهذين الأثرين المترتبين على الترف، في قوله تعالى:- (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين* وكانوا يصرون على الحنث العظيم* وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون* أو آباؤنا الأولون)[6].

توهم مدفوع:

وقد يتوهم أن الترف من الأمور النسبية، فيكون مأخوذاً على نحو الاقتضاء، وليس بنحو العلة التامة، لأن الغنى لا يختلف عن الفقر، فكما أن الفقر يمكن أن يكون سبباً في الفساد الأخلاقي والانحراف العقائدي، كما يمكن أن يكون سبباً في القرب من الله تعالى، فضلاً عن الانقطاع إليه، فكذلك الغنى، فإنه يمكن أن يكون أحد الأبواب التي يصل العبد من خلالها إلى الله سبحانه وتعالى، متى ما أحسن الإنسان التعامل مع المال الموجود تحت يديه، فأنفقه في ما يرضي الله تعالى، بمساعدة الفقراء والمحتاجين، وصرفه في بناء المساجد وتعمير أماكن الذكر والطاعات، وقضاء حوائج المؤمنين به، وما شابه ذلك.

ويدفعه، أن الموضوع ليس الغنى حتى يكون أمراً نسبياً، فإن الإنسان قد يكون مترفاً مع كونه فقيراً، لأنك قد عرفت في بيان حقيقته عدم أخذ قيدية الغنى في تحققه، وإنما يعتبر فيه وجود التنعم، وهذا ليس مربوطاً بوجود صفة الغنى كما لا يخفى.

نعم لو كان الغنى ووجود المأل مأخوذاً بنحو القيد في بيان حقيقته، كان للتوهم المذكور وجه، ولعل منشأ توهم المتوهم ظنه أن الترف يلازم الغنى، وأنه لا ينفك عنه، مع أن ملاحظة ما ذكره اللغويون، في بيان حقيقته، تكشف عن خلاف ذلك، فتدبر.

أقسام الترف:

إن الغالب عند الحديث عن مفهوم الترف، قصره على خصوص الترف المادي، ما يوحي للقارئ حصره في خصوص هذا القسم، وأنه لا يوجد لهذا المفهوم مصداق آخر غيره، ومع أن القرآن الكريم، كما عرفت أشار في جملة من آياته لهذا المفهوم، إلا أنه لا يفهم منه حصره في خصوص هذا القسم، وأنه لا يوجد له مصداق غيره، بل لا يبعد القول بأن المستفاد من غير واحدة من الآيات الشريفة، أن المقصود من المترفين هم الأعم، فإن الذين يعارضون العملية التغيـيرية والإصلاحية، لا يمكن حصرهم في خصوص أصحاب النعم المادية، بل يشمل ذلك أصحاب الأفكار الخاصة، والثقافات المعينة، وهكذا.

ويساعد على ما ذكرنا، من عدم حصر الترف في خصوص قسم واحد، بل أن له أقساماً متعددة، ما تضمنته الآيات الشريفة ذماً للمقلدين لآبائهم، فإنهم كانوا يملكون صفة الترف، وقد كان الداعي لهم لمعارضة الإصلاح والتغيـير الذي جاء به الأنبياء(ع)، ما كانوا يملكونه من أبعاد فكرية وثقافية تتنافى وما جاء به الأنبياء والمرسلون، وهذا يعني أن القضية نابعة من بعد فكري وثقافي، وليست منشأها قضية مادية، فلاحظ.

وعليه، يمكن البناء على أن للترف أقساماً:

أحدها: الترف المادي:

ويقصد منه: التنعم بالنعم الدنيوية، وسعة العيش في الحياة الدنيا والتمتع فيها من أي جهة.

ولا يخفى أن له مظاهر متعددة، سواء في المسكن، أم في الملبس والمأكل، أم في النفقات والمصارف، أم غير ذلك. ولا مانع أن نركز على خصوص ما ذكرنا من المظاهر.

أما الترف في المسكن، فإن له صوراً:

منها: أن يكون في المقدار، وذلك من خلال قيامه ببناء أكثر مما يكون مطلوباً إليه، مع عدم دخول ذلك في الإسراف، لكونه مما يتناسب وشأنه ووضعه الاجتماعي.

ومنها: أن يكون في الكيفية، فيعمد إلى بنائه بطريقة تكون متضمنة للترف، من خلال ما يضع فيه من التـزيـين، أو ما يضمن البناء من نوعية المواد المجعولة فيه، أو الطريقة التي توضع تلك المواد المستخدمة، وهكذا.

وأما الترف في الملبس والمأكل، فهذا أيضاً له صور:

منها: زيادة الكمية المتخذة من الملابس، وخصوصاً في الوسط النسائي، لأنهن يبتلين بهذا الأمر بصورة كبيرة جداً.

ومنها: نوعية الملابس، لأنه قد يلبس الإنسان نوعية عالية الجودة، مع أن بإمكانه أن يلبس ما هو أقل منها، ولا يكون منافياً لشأنه الاجتماعي، ولا وضعه الطبيعي.

وأما الترف في النفقات والمصارف، فإن من أجلى مصاديقه ما يجري في أفراحنا، وأعراسنا، لأن ما ينفق في تلك الحفلات، وما يصرف فيها من نفقات ومصارف، سواء على الملابس، أم على المأكل، أم على أمور الزينة، أم على غير ذلك مما يعد من توابعها، جلي وواضح في الترف، والبذخ المادي، نسأل الله تعالى أن لا يحل بنا غضبه ونقمته، آمين رب العالمين.

ثانيها: الترف الفكري:

وهو أن ينشغل الإنسان بالبحث عن موضوعات ترتبط بالفكر، إلا أنها لا تدخل في دائرة اهتمامات الآخرين، ولا تصب في صميم شؤونهم.

ومن الطبيعي أن عدم اهتمام الآخرين بتلك الأمور، يعود إلى أسباب عديدة:

منها: انتهاء زمانها وانقضائه، لأن الكثير من الموضوعات والأفكار، قد تكون محددة بفترة زمنية، يخفت بريقها، ويقل الاهتمام بها إلى درجة الأغفال بعد مدة من الزمن.

ومنها: عكس الأمر الأول، أعني أنه بعدُ لم يأتِ وقت الحديث عنها، لأنه قد توجد بعض الأفكار، والرؤى، تكون سابقة على زمانها، فلا تجد من يتفاعل معها، لأنها بمثابة الأمر غير المرغوب فيه.

ومنها: رؤية الآخرين إلى أن هذا الأمر أصبح الحديث فيه عقيماً، لأن الحديث فيه لا يجدي نفعاً بأي صورة من الصور عرض بها، وهذا نتيجة بحوث مطولة، واحاديث متكررة ارتبطت بهذا الأمر غير مرة، فلم تترك أثراً إيجابياً، وإنما كانت تخلف الآثار السلبية.

ومع أن بيان الأسباب الموجبة لإعراض الآخرين عن الترف الفكري، تغني عن استعراض بعض مظاهره، إلا أنه رغبة في زيادة الإيضاح نذكر المثال التالي، فقد ورد في سيرة النبي(ص)، أنه دخل يوماً من الأيام إلى مسجده، فوجد مجموعة من المسلمين، قد تحلقوا وتجمهروا حول رجل، وهو يتحدث إليهم، فقال(ص): ما هذا؟ فقيل له: هذا علامة. فقال(ص): وما علامة؟ فقالوا له: رجل محيط بأنساب العرب، وأحسابها. فقال(ص): علم لا ينفع من علمه، و لا يضر من جهله.

فإن هذا التعبير، يشير إلى أحد مظاهر الترف الفكري، فإن الرجل المذكور، قد انشغل بموضوع لا يدخل في دائرة اهتمام الآخرين، وبالتالي عدّ ترفاً فكرياً، وهكذا.

ثالثها: الترف الثقافي:

وهو أن ينشغل الإنسان بمجموعة من القضايا الثقافية، إلا أنها تفتقد أمرين، تفتقد العلاقة والارتباط الوطيد بالدين من جهة، وتفتقد إلى تأثيرها على حياة الأفراد من جهة أخرى.

وهذا يعني أنها مجرد معلومات لا توجب للمتحصل عليها أية منفعة، كما أن فقدانه لها، أو لشيء منها، لن يفوت عليه شيئاً، وهذا ما يعرف بأنه علم لا ينفع من علمه، ولا يضر من جهله.

نماذج ومصاديق مختلف فيها:

هذا وكثيراً ما تثار الكلمات حول مجموعة من المفاهيم، فيدعى أن الحديث عنها والبحث فيها من الترف الفكري، أو الترف الثقافي، ونجد في المقابل رفضاً شديداً من الآخر بوصفها بهذه الصفات، بل يعتبر ذلك من صميم العقيدة، وربما من أساسيات المذهب. فقد يدعى مثلاً أن الحديث عن ولادة أمير المؤمنين(ع) في الكعبة المعظمة من الترف الفكري، وأنه لا ينبغي الاعتناء به، فضلاً عن التركيز عليه. وكذا قد يذكر ذلك في مسألة الهجوم على بيت مولاتي الزهراء(ع)، وأن هذا لم يعدّ داخلاً في دائرة اهتمامات الآخرين، بل هو حدث قد انقضى زمنه، وتصرم. ومثل ذلك مسألة البحث عن أن أول الخلفاء بعد رسول الله(ص)، هو الإمام علي بن أبي طالب(ع)، فإن هناك من يصر على أنه لا معنى للبحث عن هذه المسألة، والتركيز عليها، لأن هذا من مصاديق الترف الفكري، ذلك أن النقاش فيه صار أمراً عقيماً، بل إن الحديث عنه موجب لحصول الفرقة بين المسلمين، وتفريق وحدتهم.

وتتعدى الأمور، لتشمل مصاديق متعددة، مثل الحديث عن ثبوت الولاية التكوينية للأئمة المعصومين(ع)، ومولاتي الزهراء(ع)، وكذلك البحث عن الوجود النوري لهم(ع)، وكذلك الكلام عن معرفة منـزلة الأئمة الأطهار(ع)، ومقاماتهم، ومعجزاتهم، والبحث عن أفضليتهم على سائر الأنبياء والمرسلين، بما في ذلك أنبياء أولي العزم(ع)، وهكذا.

ومن الواضح أنه لا تنحصر الأمور في خصوص هذه النماذج أو المصاديق التي ذكرناها، بل إن الأمر يتسع ليشمل نماذج كثيرة، يطول المقام بذكرها، وبالتالي يقع النـزاع دائماً بين الأفراد، ويحتدم الأمر، ليصل إلى مورد الخصومة والمنازعة، في مقام إثبات أن مفردة من المفردات التي ذكرنا أو غيرها مصداق للترف الفكري أو لا.

ومن الطبيعي جداً أن يعمد كل واحد من المتحاورين إلى إثبات صحة مقولته، وتمامية دعوته، فمن يقرر كونها ترفاً فكرياً تجده يسعى جاهداً لإثبات ذلك، وكذا الطرف الآخر.

ولا يذهب عليك أن ما يقع يعود في الحقيقة إلى عدم وضوح الرؤية عند الأفراد في ما يدور حوله البحث والنقاش، إذ أن المتحاورين في الأساس يتفقان على نقطة أصل، لكنهما يختلفان في كيفية تطبيقها، فإنهما يقرران أن كل ما يكون من صميم العقيدة وركناً أساسياً فيها لابد من البحث عنه والإحاطة به، وأنه لابد وأن يطلع عليه جميع الأفراد، ويتعرفوه، أما ما لا يكون كذلك، بمعنى أنه لا يلزم الاعتقاد به، أو أن عدم الاعتقاد به لن يكون مؤثراً على صحة الانتماء للمذهب، ولن يكون مؤثراً على تمامية العقيدة، فإن البحث فيه يكون من الترف الفكري.

ومن الطبيعي جداً أن تكون القضية نسبيبة من فرد لآخر، خصوصاً مع عدم وضوح المفاهيم الأساسية التي تبنى عليها عناوين القاعدة المذكورة، أعني كون الشيء من صميم العقيدة، لأن ذلك مدعاة إلى الاختلاط والتداخل، فيقع اللغط، وحتى يكون ما أذكره واضحاً أقرب ذلك بمثال، وهو: هل أن الإمام صاحب الناحية المقدسة(بأبي هو وأمي)، سوف يخرج على الفرس الذي قاتل عليه الإمام الحسين(ع)، وأن اسمه اليحموم، وأن له صفاتاً خاصة، وما شابه ذلك، فإن المصرّ على طرح مثل هذا الأمر، يود أن يربط بين قضية الإمام المنتظر(عج) وبين قضية الإمام الحسين(ع)، وأنهما قضية واحدة، وكما أن الإمام الحسين(ع)، قام بنهضته المباركة من أجل الدفاع عن دين المصطفى(ص)، فإن النهضة المباركة الميمونة للناحية المقدسة، تكون من أجل ذلك، وكما أن الحسين(ع) قدم الغالي والثمين فداء للإسلام، فكذلك يكون من صاحب الزمان(عج)، وعليه يكون ذكر بعض الأمور التي كانت للحسين(ع)، تأكيد على هذا الارتباط والعلاقة الوطيدة بينهما، وأنهما يمثلان خطاً واحداً، وأطروحة واحدة.

وفي المقابل، نجد الآخر، يقرر أنه لسنا بحاجة إلى هذه الأمور، في مقام اثبات الامتداد الطبيعي للأطروحة المحمدية في شخصية الناحية المقدسة، وأنه يمثل الاستمرار للنهضة الحسينية المباركة، خصوصاً وأنه لا نحرز وقت ظهوره كيف سوف يكون الحال، والشأن الذي عليه واقع الحياة في ذلك الزمان، حتى نبني على أنه سيأتي على فرس يسمى اليحموم، وهكذا.

فإن هذه المسألة قد يكون البحث عنها من الترف الفكري، لأن البحث عنها، لا يدخل في دائرة اهتمامات الآخرين، فإن الناس لا يهمهم أن الإمام(عج) جاء على فرس، أم جاء يركب سيارة، أو طيارة، إن الناس يرتقبون الظهور المقدس، وحلول ذلك اليوم المبارك.

ومن الواضح جداً، عدم كون هذه المسألة، والطريقة التي سوف يأتي بها الإمام(عج)، من صميم العقيدة، مضافاً إلى أن عدم الاعتقاد بكونه(بأبي وأمي) سوف يأتي على اليحموم، لا يضر بتمامية الانتماء للمذهب، وصدق المعتقد.

من هنا، جاء قولنا قبل قليل، بأن وصف قضية من القضايا، أو مصداق من المصاديق بالترف الفكري، أو الثقافي من القضايا النسبية التي تختلف من فرد لآخر. وأنه يكون من النـزاع الصغروي، ذلك أن من يصر على نفي صفة الترف يعتقد أن هذا من صميم العقيدة، وهو ينظر إليه برؤية معينة، بينما ذلك ينظر إليه من زاوية أخرى كما عرفت في مثال الطريقة التي سوف يأتي بها الإمام المهدي(روحي له الفداء)، وقد يكون الطرفان محقين، وهكذا.

ومتى أُلتفت إلى نسبية بعض العناوين من حيث الوصف المذكور، فإن ذلك يوجب عدم احتدام النـزاع، والدخول في الصراعات فضلاً عن الخصومات، بسبب مثل هذه الأمور، خصوصاً وأن مثل هكذا قضايا موجبة لإضعاف الطائفة، ومدعاة إلى وهنها، وتمكين الخصم منها، بفرحه وشماتته.

علاج مقترح:

ثم إن الطريقة المثلى للحد من كثير من هذه الأمور، تكون بوضع الأسس العامة والقواعد الرئيسة التي تبنى عليها المفاهيم سواء العقدية، أم الفكرية، وغير ذلك.

وقد عرفت أن المعيار في القضية العقدية، كونها من الأساسيات، وأنها تدخل في الصميم العقدي، بمعنى أن الانتماء يتوقف عليها، وتعدّ من ضروريات المذهب-لو كان الحديث مذهبيا-ومن ضروريات الدين-لو كان الحديث عن الإسلام-وهكذا.

وقد يتصور البعض أن هكذا معيار لا يعالج المشكلة، لأنه يبقى مطاطياً، يمكن أن يلحظ من زاوية بنحو، ومن زاوية أخرى بنحو آخر.

إلا أنه يعالج بالتوجه إلى دخالة أمرين في حقيقة المفهوم، لنطبق عليه الوصف الذي ذكرنا:

الأول: كونه من الأمور المسلمة التي تمثل الهوية، وتبرز الصفة الانتمائية للمذهب.

الثاني: ملاحظة الآثار السلبية المترتبة على عدم الالتـزام، وما خلف نفيه من أضرار على الواقع الإسلامي، ويمكننا الاستعانة بمثال يقرب الفكرة بصورة أوضح، فنقول:

قد سمعت دعوى بعضهم أن البحث عن مسألة خلافة أمير المؤمنين(ع) بعد رسول الله(ص) اليوم تعدّ من مسائل الترف الفكري، التي لا ينبغي أن يسلط الضوء عليها، فضلاً عن أن يصرف جهد في الحديث عنها.

وهذا في غير محله، ضرورة أن الاعتقاد بأحقية أمير المؤمنين(ع)، وأنه الخليفة الأول بعد رسول الله(ص) أصبح اليوم يمثل الهوية الحقيقية لكل من يعتقد أنه شيعي وينتمي للطائفة المحقة، فإنه لا يتصور أن يكون الشخص متصفاً بهذا الوصف، أو حائزاً على شرف الانتماء، لو لم يعتقد بذلك. كما أن ملاحظة البعد العقدي الموجود في مسألة خلافة الإمام(ع) بعد رسول الله(ص)، وما ترتب على سلبه(ع) حقه الذي جعله الله تعالى إليه، من آثار سلبية على المسلمين، وما لحق الأمة من ويلات جراء ذلك، كفيل بالإحاطة بكون البحث عن هذه المسألة من صميم العقيدة، وأنه ليس من الترف الفكري في شيء، بل يدخل في دائرة اهتمام الآخرين، ولا ينفك عنهم أبداً في كل عصر وزمان، فلاحظ.

ومثل هذا الأمر يجري عند الحديث عن موضوع الهجوم على بيت سيدتي ومولاتي الزهراء(ع)، إذ لا مجال لأن يحكم بكون الحديث عن ذلك ترفاً فكرياً أو ثقافياً، لأنه يمثل الفارق الأساس في انطباق الهوية الشيعية على المعتقد بتحقق ذلك، ونيله شرف الانتماء للمذهب، فضلاً عن أن ملاحظات الآثار الوخيمة التي جرها هذا الهجوم الشنيع على بيت السيدة الزهراء(ع)، على الأمة.

ولا يختلف الحال في مسألة الولادة الميمونة للإمام(ع) في الكعبة المشرفة، ذلك أن علياً(ع) هو الكعبة، بل هو أفضل منها، وإذا كانت الكعبة تمثل قبلة المسلمين، وأنها رمز عزتهم، فعلي(ع) كذلك.

وبالجملة، إن ملاحظة الأمرين الذين ذكرنا، سوف يكون موجباً لعلاج الكثير من الصغريات، التي يقع البحث عنها، وبالتالي لن يكون الأمر موجباً لما يجري بيننا، نسأل الله تعالى الهداية والصلاح للجميع إن شاء الله تعالى.

تنبيـه مهم:

وقبل أن نختم الحديث في هذه الجانب، نود التنبيه إلى أن بعض المفردات والمصاديق، قد يختلف حالها من زمان إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، بمعنى أن توفر الأمرين اللذين ذكرنا يكون نسبياً، فيختلف حسب الظروف المحيطة، فضلاً عن ملاحظة الزمان، وربما المكان أيضاً، فمثلاً، لم تكن قضية زواج الإمام صاحب الناحية المقدسة(عج)، ووجود أولاد عنده(ع)، قضية أساسية، وتدخل في صميم العقيدة، بل ربما كان البحث عنها في الفترات الزمنية السابقة، يدخل في دائرة الترف الثقافي، لأنها لا علاقة وطيدة لها بالدين، ولا تأثير لها على حياة الأفراد، لأنها من الموضوعات التي لا تنفع من علمها، كما لا تضر من جهل بها، لأن الأساس هو الإحاطة بقضيته(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وليس بمثل هذه الجزئيات غير الأساسية.

وقد اختلف الحال اليوم كثيراً، فأصبح الحديث عن هذا الموضوع يمثل أمراً رئيساً، وقد نشأ ذلك بملاحظة الآثار المترتبة عليه، حيث وجد اليوم من يدعي البنوة للناحية المقدسة(روحي لتراب جافر جواده الفداء)، ورتب أثراً على تلك الدعوى فقال بالنيابة الخاصة والسفارة، فصار الحديث عن هذا الموضوع من صميم العقيدة، لأنه يرفع شبهة عقدية، ويدفع عن حوزة الإسلام، والمذهب كما لا يخفى.

أسباب الترف:

قد عرفت أن للترف أقساماً، ومن الطبيعي اختلاف الأسباب المؤدية لوجود كل واحد منها، فلن تكون الأسباب الموجبة لحصول الترف المادي، هي الأسباب التي تؤدي إلى وجود الترف الفكري، أو الترف الثقافي، ومع أن القسمين الثاني والثالث يتداخلان كثيراً، إلا أن ذلك لا يعني أن الأسباب التي تؤدي إلى حصول كل منهما واحدة، نعم قد يتفق في جملة من الأسباب، لكن ذلك لا يعني أن الأسباب واحدة.

وكيف ما كان، لن يتسنى لنا عرض جميع الأسباب الموجبة لحصول الأقسام الثلاثة، ولهذا سوف نقصر الأمر على عرض أسباب الترف المادي، والترف الفكري، لمشابهة الترف الثقافي شيئاً ما للترف الفكري في بعض الأسباب، كما أننا لن نعرض جميع الأسباب، بل سوف نقصر الأمر على ذكر بعضها ليس إلا.

أسباب الترف المادي:

يمكن أن تذكر أسباب عديدة لوجود حالة الترف المادي في الأوساط الاجتماعية، وبين الأفراد، ونشير إلى بعضها:

منها: طول الأمل، ونسيان الموت:

إذا توجه الإنسان إلى أن وجوده في هذه الحياة وجود آني، سوف ينتهي بعد مدة وإن طالت، وأن هذه الدار ليست دار قرار، وإنما هي دار سفر، سوف ينتقل منها إلى الدار التي يقرّ فيها، وهي الدار الآخرة. فسوف يكون هذا سبباً لأن يبتعد عن الانشغال بالملذات والنعم الدنيوية، والاهتمام بالترف. أما إذا بقي الإنسان في دائرة الغفلة، فمن الطبيعي جداً أن يركن إلى الدنيا بكل حيثياتها وما يرتبط بها من ملذات وتنعم وترف.

وهذا قد يفسر لنا حث النصوص الشريفة على ذكر الموت، وتأكيدها على زيارة القبور، لما في ذلك من إيقاظ للإنسان الغفلة، وإبعاده عن طول الأمل، وتذكيره بالموت، فلا يركن للترف.

ومنها: التأثر بضغوط الواقع:

وهذا ما يبتلى به الكثيرون، فإنهم غير مقتنعين بما يقدمون عليه، إلا أن الضغوط الاجتماعية، وما يحيط بهم توجب عليهم ذلك، ولعل من أوضح مصاديق هذا ما يجري في حفلات الأعراس فإن الكثيرين غير مقتنعين بما يجري فيها، وما ينفق عليها، إلا أنهم متأثرون بالضغوط الواقعية ومبتلـين بالتقليد والمحاكاة للموجود في المجتمع.

ومنها: كثرة المال ووفرة النعم:

فلا يعرف الإنسان كيف يتصرف فيها، وأين ينفقها، فيقدم على الترف، والبذخ، من دون توجه للآثار السلبية والوخيمة المترتبة على ذلك.

ومنها: ضعف التربية:

فالشاب عندما يفتقد إلى وجود الموجه والمربي الذي يأخذ بيده ليعرف كيفية التصرف، وما ينبغي أن يكون منه، فإن ذلك يكفل له استقراراً، ويضع له منهجية تساعده على حسن التعامل مع كافة الأمور، بما في ذلك منهجه في الحياة المادية، فيستقل طريقاً وسطاً، لا تقتير ولا ترف. وأما إذا فقد مثل هذا، فمن الطبيعي أنه يكون رهين شهواته، فينغمس في الملذات والشهوات، وتعجبه الدنيا، ويسير معها، ويتأثر بكل ما فيها.

أسباب الترف الفكري:

وكما ذكرت، فإن بعضاً منها يتداخل والترف الثقافي، فيمكن الاستغناء به عن استعراضها، فلاحظ.

وعلى أي حال، هناك عدة أسباب نشير إلى بعضها:

منها: قلة الوعي في الأوساط الاجتماعية:

من المعلوم أن المجتمعات الواعية تستطيع أن تحدد احتياجاتها، وبالتالي تقرر أن هذا يدخل في صميم الاهتمام فيلزم أن يكون محط بحث ونقاش، ويبحث عنه، أو أنه لا يكون كذلك، فلا يلزم أن تصرف الجهود والطاقات بالبحث فيه. وهذا بخلافه في المجتمعات التي يفتقد أفرادها الوعي، أو يقلّ الوعي بينهم، فإنهم يخوضون في كل شيء من دون أن يعوا مدى حاجتهم للحديث عنه، بل ربما لا يلتفتون إلى ذلك إلا بعد أن يستفرغوا الكثير من الجهد، ويبذلوا الكثير من الطاقات في ذلك.

وبالجملة، إن أحد أهم الأسباب المؤدية لوجود الترف الفكري، هو قلة الوعي بين افراد المجتمع، ومتى وجد الوعي بينهم، أمكنهم تحديد مصيرهم حتى في ما يتلقونه من المعلومات، لأن الكثير من المعلومات قد تمرر على المجتمع، وهي من الترف الفكري، ويشغل المجتمع بها حقبة من الزمن، من دون فائدة، وما ذلك إلا لأنه يفتقد الوعي.

ومنها: ضعف الثقافة:

ولا يقل هذا السبب أهمية عن سابقه، في المشكلة، فإن المجتمع المثقف سوف يملك القدرة على تقرير أن هذه المفردة من مصاديق الترف الفكري، أو لا، بينما المجتمع المفتقر لعنصر الثقافة، قد يصرف الكثير من الجهد في النزاع والخصومة، ليصل في نهاية المطاف إلى أنها كذلك أو لا.

وكما أن المجتمع المثقف يملك القدرة على التشخيص، ولو في الجملة، فإنه أيضاً يملك الأسلوب الأمثل والناجع في التعامل مع هذه المشكلة، وكيفية التغلب عليها، والخروج منها بصورة سليمة.

ومنها: التبعية وعدم الاستقلال في الرأي:
فإننا نجد في كثير من الأحيان الوقوف أمام الحركة الإصلاحية والعملية التغيـيرية، ورفض كل ما ليس مألوفاً على أساس أن هذا من الموروث الفكري أو الثقافي، والحجة التي يعتمد عليها هؤلاء، هي التبعية والتقليد إما لآبائهم، أو لبعض من يعتقدون الأهلية فيهم للاتباع.

[1] سورة سبأ الآية رقم 34.

[2] لسان العرب مادة ترف، القاموس المحيط.

[3] سورة سبأ الآية رقم 34.

[4] الميزان في تفسير القرآن ج 16 ص 383.

[5] سورة سبأ الآية رقم 35.

[6] سورة الواقعة الآيات رقم