الثاني: إنه كيف يمكن التوفيق بين أخذ الفقهاء شرطية احتمال التأثير في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث يتوقف الوجوب على توفر هذا الاحتمال، وانتفائه مانع من تعلق الوجوب، وبين ما صدر من الإمام الحسين(ع)، ذلك أنه لم يكن متوقعاً من نهضته المباركة أن تؤثر في النظام اليزيدي، وتغير في الحكومة اليزيدية، مع أنه قد صدرت عنه كلمات تؤكد على خروجه من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
منها: ما ضمنه وصيته لأخيه محمد بن الحنفية عندما خرج من أرض المدينة المنورة، فقد جاء فيها: وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب.
ومنها: خطبته التي ألقاها في أصحاب الحر عندما ألتقى به في الطريق، قال(ع): أيها الناس إن رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.
هذا ويعتمد الجواب عن هذا المانع على تحديد ما قام به الإمام الحسين(ع) في نهضته المباركة، من أنه تكليف خاص يختص به(ع)، ولا يجري على غيره، أم أن ما قام به(ع) إنما هو وظيفة شرعية يقوم بها كل مكلف مسلم أداء لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ومن الواضح جداً أنه سوف يختلف الجواب وفقاً للمختار من المحتملين، فلو اختير الاحتمال الأول، لم يحتج إلى عملية التوفيق بين الأمرين، إذ مقتضى كون الأمر من التكاليف الخاصة، لا يعتبر فيه ما يكون معتبراً في بقية التكاليف، ويكون هذا مثل التقية في شأنه كما قيل، وأنها ليست عزيمة، بل هي رخصة، فله أن يعمل بها، وله أن يتركها. أما لو كان المختار هو الاحتمال الثاني، فإن ذلك يستوجب القيام بالتوفيق بين الأمرين، ويكون المانع المذكور متصوراً.
ولا يخفى أنه لا تنحصر الثمرة في خصوص ما ذكرنا، فإنه وفقاً للاحتمال الأول، لن يمكن الاقتداء بالصادر من الإمام(ع)، ولن تكون أقواله وأفعاله خلال نهضته المباركة مصدراً تشريعياً، لأنها تكون من القضايا في واقعة، وهي أمور خاصة، بخلاف ما لو كان الاحتمال الثاني هو المتبع، فلاحظ.
وكيف ما كان، فقد أختلف الأعلام في تحديد قيام الإمام الحسين(ع)، وأنه تكليف خاص، أم لا على قولين:
الأول: ما يظهر من غير واحد من الأعلام، كالشيخ صاحب الجواهر(قده) من البناء على أن الصادر من الإمام الحسين(ع) عمل استثنائي خاص به، فيكون التكليف خاصاً بالإمام(ع)، وليس جارياً في شأن غيره من المكلفين. ومتى كان التكليف خاصاً واستثنائياً، فإنه يمكن رفع اليد عن بعض الشروط المعتبرة في الموارد التي لعامة المكلفين[1].
وأختاره أيضاً الشيخ المامقاني(قده) في موسوعته الرجالية تنقيح المقال، والفقيه الكبير الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء(ره)[2].
ويختلف هذا القول عن تفسير النهضة الحسينية بالبعد الغيبي المحض، ما يعني لزوم التفريق بينهما، وعدم الخلط، فتدبر.
الثاني: الالتـزام بعدم كون الفعل الصادر منه(ع) من التكليف الخاص به(ع)، بل هي وظيفة شرعية عامة موجهة إلى كافة المكلفين، يتعين على كل واحد منهم القيام بها، وقد قام(ع) بأدائها شأنه في ذلك شأن بقية المكلفين الذين يقومون بأداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أختار هذا الرأي المحقق الكركي(قده)، وغيره من الأعلام، كالإمام الخميني(قده).
ولا يخفى أنه إنما يتصور التنافي الموجب لمحاولة العلاج إذا بني على اختيار الرأي الثاني، لا ما أذا كان المختار هو الرأي الأول، فلاحظ.
الجواب عن المنافاة المتصورة:
هذا ويمكن عرض عدة إجابات تعتبر علاجاً للمنافاة المتصورة في المقام:
منها: من المعلوم أن لكل مجتمع وحضارة قاعدة تنطلق منها، وهذه القاعدة في مفهوم الإسلام لا تخلو عن أحد أمرين، لا ثالث لهما: إما أن تكون هي المعروف، وهي قاعدة المجتمع والحضارة الإسلامية. وإما أن تكون هي المنكر، وهي القاعدة المشتركة لكل المجتمعات والحضارات غير الاسلامية. ولذا كان التناقض بين المجتمعين والحضارتين تناقضاً مستقطباً باعتبار استنادهما إلى قاعدتين متناقضتين تناقضاً حاداً.
وعليه، فإذا ظهرت مفردة من مفردات حضارة المنكر داخل حضارة المعروف كان ذلك بمثابة الغزو الخارجي الذي يهدد سيادة حضارة المعروف بالخطر. ولا ريب أن الرد الطبيعي في مثل هذه الحالة هو حصول حالة الاستنفار عند حضارة المعروف فتحشد كل قواها وتجند كل طاقاتها لرد المعتدي وضمان أمنها وسيادتها وانسجام نسيجها الداخلي، فتسترخص في هذا الطريق كل ضرر محتمل ومتيقن، ولا تراعي في هذا الموقف الاستراتيجي احتمال استجابة المعتدي وعدم استجابته. نعم بلا ريب هي تسعى لإلحاق أقسى هزيمة بالمعتدي[3].
ولا ريب ولا إشكال في أن الإمام الحسين(ع) يمثل حضارة الإسلام ويدافع عنها مقابل يزيد الذي يمثل قاعدة المنكر، ويدعمها، وقد عرفت أن حال تعدي قاعدة المنكر على قاعدة المعروف، فإن قاعدة المعروف تستنفر دفاعاً عن حياض حريمها، وتبذل كل ما تملك رغبة في الحفاظ على ذلك الحريم، من دون أن تلحظ العواقب المترتبة على ذلك، لأنها ترى أن وجودها رهين دفع ذلك.
وهذا يعني أنه لا يكون والحال هذه ملاحظة احتمال تحقق التأثير وحصوله، بقدر ما يكون الأمر منصباً في كيفية السيطرة والمنع من امتداد المنكر.
ومنها: إن التأمل في أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفيد تنويع المكلفين بهذه الفريضة إلى نوعين:
1-عامة المكلفين دون تميـيز لبعضهم على بعض بحيث يشتركون في الوجوب جميعاً.
2-فئة خاصة تطالب أن تمارس هذه الفريضة دون بقية المكلفين، بحيث تكون مطالبة بأداء هذه الوظيفة والقيام بها، فلاحظ قوله تعالى:- (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[4]، فإن (من) في الآية تفيد التبعيض، وهذا يعني أن المخاطب ليس عامة المكلفين، بل المخاطب فئة خاصة منهم.
والظاهر أن لهؤلاء الفئة خصوصية استدعت تميزهم على غيرهم، إما لكون المجتمع ينظر إليهم نظرة بارزة، أو لأن كل ما يصدر عنهم يعطي صفة الشرعية للفعل[5].
وهذه الطائفة من الأدلة لم يؤخذ فيها كل قيد وشرط اعتبر في وجوب الأمر بالمعروف، وإنما هو تكليف إضافي خص به هؤلاء، فلا يعتبر في وجوبه احتمال التأثير، كما لا يعتبر فيه الأمن من الضرر، ولا ريب أن الإمام الحسين(ع) هو من أجلى مصاديق هذه الفئة الخاصة، ما يعني عدم اعتبار توفر بعض الشروط المأخوذة في الوجوب بالنسبة إليه، فلاحظ.
ولا يذهب عليك، أن هذا لا يعني الالتـزام بوجود تكليف خاص له(ع)، وإنما هو عين التكليف الواجب على عامة المكلفين، عمدة ما كان، توجد بعض التكليفات تنطوي على بعض الأمور الإضافية والقيود التي لا تكون مأخوذة في تكليف الآخرين، وإنما هذا نظير إعطاء الهداية الخاصة، التي يتميز بها صاحبها عن أصحاب الهداية العامة، فإن الله سبحانه وتعالى قد أعطى كافة العنصر البشري الهداية العامة، ولا ريب أن هناك أفراداً قد أعطوا الهداية الخاصة، فهل يتصور أحد أن يكون تكليف المالكين للهداية الخاصة، هو عين تكليف الذي لا يملكون إلا الهداية العامة، أم أن هناك تفاوتاً بين التكليفين؟
لا ريب في الالتزام بوجود التفاوت، ولا يتصور أحد أن يلتـزم بأن جميع التكاليف الخاصة الثابت لأصحاب الهداية الخاصة من التكليف الخاص، فتأمل[6].
ومنها: الجواب الثالث الذي ذكرناه عند الحديث حول مانعية الآية المباركة لاعتبار شرطية احتمال التأثير، فراجع.
[1]جواهر الكلام ج 21 ص 295-296.
[2]جنة المأوى ص 224-225، 227.
[3]نظرية الثورة والمقاومة في الإسلام ص 438.
[4]سورة آل عمران الآية رقم 104.
[5]فقه الصادق ج 19 ص 361-364.
[6]البناء على كون الجوابين لا يشيران إلى الالتـزام بالتكليف الخاص غير واضح، فإن التبرير الذي ذكرناه لا ينفي ذلك، خصوصاً وأن عدم أخذ بعض القيود، هو ما يسمى بالتكليف الخاص، فتدبر.