29 مارس,2024

بسط الرزق

اطبع المقالة اطبع المقالة

تختلف أنظار الناس تجاه ما قسمه الله تعالى إليهم من الرزق بين القبول والرفض، ولا يكتفي الرافضون إظهار عدم الرضا، بل قد يتعدوا إلى إبراز وقوع الظلامة عليهم، على أساس أنهم لم يعطوا ما يستحقون.

وتختلف التحليلات عند الناس في توجيه دواعي التفاوت في الأرزاق، والعطاء الإلهي، وبيان الأسباب الموجبة إلى ذلك، حتى أن بعضهم قد يرجع ذلك إلى تدخل مسألة الحظ والصدفة، وأن لهما دخالة في ذلك، فلأن فلاناً يحظى بحظ وافر، فقد أعطي رزقاً وفيراً، ولما كان فلان ليس ذا حظ كان رزقه قليلاً، كما أن الصدفة ساعدت على أن يكون فلان من ذوي الأموال، ولا يكون فلان كذلك، وهكذا.

وهذا ينفي أن تكون عملية التوزيع مرتبطة بنواحي إدارية تنظيمية وسيطرة من الباري سبحانه وتعالى على الكون والتحكم في إدارته.

وتأخذ مسألة قسمة الأرزاق والتفاوت بين الأفراد فيها، بعداً عقدياً، لأن لها ارتباطاً بمسألة العدل الإلهي، فقد يحيل البعض أن عدم المساواة فيها خلاف العدل الإلهي.

ولا يخلو الحديث عن موضوع الرزق عن بعد اقتصادي أيضاً، لأن التأمل في النصوص الشرعية المتحدثة عن الرزق وما يرتبط به قد يجعل البعض يتخذها ذريعة في عدم السعي والعمل، لأنه قد كفل إليه رزقه.

ولا تنحصر الموضوعات المرتبطة بالرزق في خصوص ما ذكرنا، وإنما سوف نقصر الحديث عن هذه العناوين الثلاثة:

1-البعد الإداري التنظيمي في عملية التوزيع.

2-البعد العقدي في عملية الرزق.

3-البعد الاقتصادي فيه.

معنى الرزق:

هذا وقبل التعرض للحديث عن العناوين الثلاثة المشار إليها، نشير إلى تعريف الرزق، وفقاً لما ذكره علماء اللغة، فقد عرف في كلماتهم، بأنه: العطاء المستمر والدائم.

ولا يذهب عليك أن التعريف المذكور يوجب عدم انحصار مفهومه في خصوص البعد المادي، بل يشمل البعد المعنوي أيضاً، فإنه ينطبق عليه عنوان الرزق طبقاً للتعريف السابق، وهذا هو ما ألتزمه أعلام الفن، حيث أنهم قسموا الرزق إلى قسمين، فقالوا بأنه ينقسم إلى رزق مادي، ورزق معنوي، وذكروا للرزق المعنوي أمثلة، فمن ذلك ما ورد في بعض الأدعية، كالدعاء المعروف بدعاء الاهتمامات العامة، قال(عج):اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية. وجاء في دعاء اليوم الخامس عشر من الأدعية المختصة بشهر رمضان المبارك: اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين.

الرزق والملك:

ومن الخطأ تصور وجود المساواة والملازمة بين الرزق والملك، بحيث لا يتصور الانفكاك بينهما، بل إن الانفكاك بينهما حاصل، لأنه قد ينطبق عنوان الرزق على بعض الموارد، ولا ينطبق عليها عنوان الملك، مثل: العقل، والزوجة، والعلم والصحة، فإن مما لا ريب فيه انطباق عنوان الرزق عليها، إلا أنه لا ينطبق عنوان الملك عليها، فإنها لا تصلح للمعاوضة، ولا تقع عليها، فلاحظ.

وينطبق عنوان الملك، ولا يقال لذلك أنه رزق مثل: ملكية الباري سبحانه وتعالى للأشياء، فإنه عز وجل مالك لكل شيء، لكنه لا يقال في حقه سبحانه أنه قد رزق هذه الأِشياء.

وقد يجتمعان في شيء واحد، فيصدق عليه أنه ملك ورزق في نفس الوقت، وهذا مثل: ما يناله الإنسان من الأموال، فإنها رزق وملك في نفس الوقت.

البعد الإداري التنظيمي في عملية التوزيع:

وهو الذي ينفي أن تكون عملية بسط الأرزاق وتوزيعها على الناس ناشئة من مبدأ الحظ، أو الصدفة، وما يتوهمه بعض الأفراد استناداً إلى ملاحظة بعض المصاديق الخارجية، فيظن أن ذلك قد نشأ من وجود عنصر الحظ عندهم، دون الآخرين المفتقدين لهذا العنصر، أو أن ذلك قد حصل بمحظ الصدفة، ولم يكن ذلك وفق تقدير وبعد إداري مخطط له من قبل الباري سبحانه وتعالى.

ولا يحتاج رفض هذا التوهم، بإحالة عملية التوزيع لمبدأ الحظ والصدفة مزيد عناء، ذلك أن الدليل قائم على أن عملية التوزيع للأرزاق تتم من قبل الله سبحانه وتعالى وفق تقدير وإدارة متكاملة، ذلك أن هذا الكون وما فيه يخضع لنظام إداري وسيطرة ربانية فرضت له مجموعة من القوانين والنظم التي يسير على وفقها، وجعلته رهين تلك النظم والقوانين وخاضعاً إليها.

ومن الطبيعي جداً أن تكون بين هذه القوانين وبين الآثار المترتبة عليها تمام الارتباط والعلاقة، بحيث يكون أحدهما متوقفاً على الآخر، فلا يتصور وجود هذا دون وجود ذاك، لأنه بمثابة المقدمة، بل العلة المتحكمة في وجوده، فالصحة التي يسعى الإنسان للحصول عليها، لا يمكن أن ينالها إلا إذا كان متجنباً لجميع أسباب الداء، وملتـزماً بأساسيات الغذاء، كما أن العلم والمعرفة، لا يمكن أن يتوصل الإنسان إليهما إلا إذا عمد إلى التعلم، وأنه من دون ذلك لن يكون بالغاً العلم ولا المعرفة، وهكذا.

ولا ريب أن الرزق واحد من تلك الآثار التي يسعى الإنسان للحصول عليها، ومن المعلوم أنه لن يختلف عن بقية الموضوعات الأخرى، فكما أن العلم متوقف على التعلم، والصحة متوقفة على الحذر من الداء، لابد وأن يكون الرزق متوقفاً على شيء ما، فما لم يتوفر ذلك الشيء، فلن يحصل الإنسان عليه، والشيء الذي جعل سبباً لحصول الإنسان على الرزق هو السعي في مناكب الأرض وطلبه بالبحث عنه في أرجائها.

ومع أن الله سبحانه وتعالى قد جعل السبيل لحصول الإنسان على الرزق هو السعي في مناكب الأرض، إلا أنه لم يترك الأمر مفتوحاً بحيث يمكنه أن يأخذ ما يشاء، ويتناول ما يريد، وبل قسم سبل التحصيل التي يسعى من خلالها للحصول على المال، إلى سبل مشروعة، وسبل غير مشروعة، فمنع من الثاني، وحصر الأمر في خصوص الأول.

ومع أنه تعالى حصر سبل السعي في خصوص ما كان مشروعاً ومباحاً، إلا أنه لم يضيق دائرة ذلك، بل جعل لها مصاديق متعددة، سواء في مجال الزراعة، أم في مجال الصناعة، أم في مجال التجارة، وهكذا.

وقد يغيب عن الكثير دواعي هذا التقنين الإلهي بحصر سبل الرزق في بعض دون البعض الآخر، بل ربما يضيق بهم الأمر حتى يتصور أن ذلك خلاف الحكمة الإلهية، ويغيب عنهم أن هذا التشريع السماوي غايته رعاية مصالح الإنسان وحفظ السعادة إليه، فإن تحريم الغش، والمنع من الربا، إنما هي عوامل تكفل السعادة للمجتمع البشري، وتضمن أن يعيش أطرافه في حب وسلام، ولا يكون بين أحد منهم أي حقد أو ضغينة وكراهية، فإن من يأخذ منه الربا، لن يكون راضياً عن المرابي، لأنه يراه قد أخذ جهده وسلبه حقه، وذلك المغشوش سوف يعيش حالة من الحقد والكراهية لمن غشه، وأهانه، وهكذا.

ولا ينحصر أمر توزيع الأرزاق في عنصر السعي في الأرض، وبذل الجهد من أجل الوصول إليها، بل تتدخل في ذلك أيضاً الإرادة الإلهية، وقد أشير لهذا في العديد من الآيات الشريفة، فلاحظ قوله تعالى:- (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)[1]. وقال سبحانه:- (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)[2]. وقوله عز من قائل:- (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)[3].

نعم يبقى أن الإرادة الإلهية لابد وأن تكون وفق مصلحة ثابتة للإنسان نفسه، لأن الله تعالى وهو الذي خلق الإنسان وأعلم بما يكون طريق صلاحه، فلو أختار له الفقر، لابد وأن يكون في ذلك خيره وصلاحه، كما أنه لو أختار له الغنى، فإن ذلك يعود لخيره وصلاحه، ولا يمكن أن يختار له ما لا يكون خيراً وصلاحاً إليه، نعم عدم علم الإنسان بالمصالح الواقعية تجعله يعتقد أن صلاحه في ما يرغب هو، ويجهل أن صلاحه وسعادته قد تكون في فقره، كما أن شقائه قد يكون في غناه، وقد نقل لنا التأريخ نماذج كثيرة في هذا المضمار، ومن ذلك القصة المشهورة، والتي تذكر في المصادر التاريخية، وبعض المصادر التفسيرية، وهي قصة ثعلبة الذي كان على عصر النبي(ص)، فبعد ما كان هذا الرجل حمامة مسجد النبي(ص) أمتنع عن دفع الزكاة، وقد زادت أمواله، لتكون نقمة عليه، وسبيلاً إلى شقائه.

ومن خلال ما تقدم، يمكن القول، بأن الذي يتحكم في حصول الإنسان على الرزق، وتحصيله، أمران: السعي الحثيث بطلبه من خلال العلم وبذل الجهد للوصول إليه، والإرادة الإلهية، لما تراه من مصلحة لهذا الإنسان. وأنه ليس للحظ ولا للصدفة مدخلية في ذلك، وإنما كل ذلك يعتمد على وجود البعد التنظيمي لهذا الكون، والإدارة الربانية التي تكفلت به، وقامت بذلك على وفق أسس الحكمة التامة.

البعد العقدي في عملية الرزق:

وكما أن جهل الإنسان بالأسباب التي تتدخل في قلة رزقه وكثرته، وأن ذلك يخضع إلى الجنبة التنظيمية والإدارة الإلهية لهذا الكون وفقاً لإدارته سبحانه وتعالى، فإن جهله يسول إليه أن حرمانه من العطاء في بعض الأحيان يتنافى والعدالة الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى عدل لا يجور ولا يظلم، فكيف يمنع الناس الرزق، ويحرمه منه، بينما نجده سبحانه يوسع ذلك على غيرهم.

وقد يأخذ هذا الأمر بعداً دينياً عندما يقال، بأن الله سبحانه وتعالى قد علق الرزق على الإيمان، فقال تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)[4]، وهذا يعني أن الرزق متوقف على الإيمان، بحيث متى تحقق الإيمان كان ذلك موجباً لحصول الرزق، إلا أننا نجد أنه تعالى يرزق الكفار أو الخبثاء، ومن ليسوا أهل إيمان، ولا أصحاب تدين، ويبقى أهل الإيمان والدين يعيشون فقراً وحرماناً، ألا يتنافى هذا والعدالة الإلهية؟!

والظاهر أن أصحاب هذا التصور يعتقدون أن وجود المال عند فرد من الأفراد والتوسعة عليه كاشف عن رضا الله سبحانه وتعالى عليه، ومحبته إياها، ويغيب عنهم أنه لا ربط للرزق بالمحبة والرضا، لأن الباري سبحانه وتعالى قد يفيض الرزق على فرد من الأفراد، سخطاً عليه، وغضباه منه عليه، وليس محبة أو رضا.

ويظهر ما ذكرنا عند الإحاطة بأنحاء قسمة الباري سبحانها وتعالى للأرزاق على العباد، ذلك أن المستفاد من التأمل في الآيات القرآنية، والنصوص المعصومية، كونها على نحوين:

الأول: القسمة العامة: ونقصد منها توفير جميع أسباب وفرص الحصول على الرزق من قبله تعالى لعباده، بأن يجعل في الأرض الوسائل التي يمكن الإنسان أن يستفيد منها لتحصيل رزقه، وسبل عيشه. وهذا من خلال جعل نظام الأسباب والمسببات سبيلاً يستفاد منه للحصول على الرزق من خلاله.

الثاني: القسمة الخاصة: وذلك عن طريق تدخل الإرادة الإلهية في أرزاق بعض العباد ممن تشاء من الخلق، ليكون الرزق لهم وفيراً، أو يكون رزقهم مقتراً عليهم.

ولا ريب أن هذا التدخل، لابد وأن يكون لأسباب ودواع حكيمة، سيتضح شيء منها في مطاوي الحديث إن شاء الله، فأنتظر.

وقد عرفت في ما تقدم، أن هذا يخضع للمصلحة الثابتة للإنسان، والتي يعلمها خالقه، ويجهلها العبد. وقد أبرزت الآيات القرآنية الشريفة، هذا البعد التربوي الذي لا يحيط به العبد، لتظهر مدى عناية الباري سبحانه وتعالى بعبده، وكيف أنه يسعى لما فيه خيره وصلاحه، وأن إفاضته سبحانه وتعالى النعم وتوسعة الرزق على عبد من عباده ليست دليل محبته له، أو رضاه عنه، بل قد يكون ذلك سبيل سخطه عليه، وغضبه منه وانتقامه، ويظهر هذا جلياً من قوله تعالى:- (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)[5]، وكذا من قوله سبحانه:- (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)[6].

كما أوضح سبحانه وتعالى هذا البعد التربوي في آية أخرى من خلال الإشارة إلى بعض الموانع الموجودة عند الإنسان، والتي تجعل صلاحه في التقتير عليه في رزقه، وعدم التوسعة عليه، لأن سعة رزقه وبسطه سبيل لخسارته في الدنيا والآخر، قال تعالى:- (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)[7].

فقد يكون التقتير في الرزق والعطاء، من الامتحان الذي يجعله الباري سبحانه وتعالى على عبده، كي ما يمتحن صبره وتحمله، مضافاً إلى تسليمه برضاه عز وجل وقضائه، ومدى طاعتهم إليه.

كما أن فقدان الرزق قد يكون من الابتلاءات التي يوقعها عز وجل على من يشاء من عباده، حتى يكون ذلك سبيلاً لرفع درجتهم ومكانتهم عنده، من خلال ما يقدمونه من صبر وروضا بما قسم الله تعالى لهم من عطاء.

كما أنه يمكننا أن نضيف أمراً آخر غير ما تقدم من البعد التربوي، فنشير إلى أنه قد يكون المانع من حصول الإنسان على الرزق، هو عدم استفادته من الأسباب التي وفرت إليه، أو عدم استغلاله الفرص المهيأة له، فكم من الأفراد ونتيجة جهلهم يفقدون الكثير من الفرص الحياتية التي وفرت إليهم، والتي كان يمكنهم بواسطتها أن يصلوا إلى أعلى مراتب الغنى، أو أنهم نتيجة الجهل الذي عندهم أوقعوا أنفسهم في مشاكل سببت لهم فقراً مدقعاً، وجعلتهم بعيدين كل البعد عن سبل الغنى. أو أن الجهل كان مانعاً من استغلال الفرص المهيأة لفتح سبل الغنى، وتحصيل الرزق، وهكذا.

كما أن أحد الأسباب المؤدية للحرمان، وقلة العطاء فقدان المقتضي للزيادة، أو وجود المانع منها، وقد يكون الأمران معاً، ونقصد من المقتضي، توفر الأسباب سواء المادية، أم المعنوية التي تتدخل في زيادة الرزق غير ما ذكر، ونقصد بالمانع رفع الأسباب التي تؤدي إلى قلة الرزق، أو تمنع من زيادته، وتفصيل ذلك يطلب من محله.

والحاصل، إن هناك عوامل عديدة تتدخل في مسألة قلة رزق العبد، وعدم زيادته، منها ما هو تربوي، ومنها ما يكون سببه الإنسان نفسه، فلاحظ.

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن قلة الرزق، والحرمان لا تنافي العدالة الإلهية، بل إنها تؤكد مبدأ العدل الإلهي، لأن الله تعالى قد أختار لعبده ما هو صلاحه، ولم يعينه على نفسه، على أنك قد سمعت قبل قليل الإشارة إلى قصة ثعلبة المعاصر للنبي(ص)، كما أن القرآن الكريم قد ذكر قصة قارون، وكيف أن أمواله كانت سبب هلاكه، وخسرانه الدنيا والآخرة.

ويشهد لما ذكرنا، ما جاء في التشريع الإلهي، فإنه ومع توفيره سبحانه وتعالى أسباب تحصيل الرزق للإنسان، وإعلامه بأن وصوله لذلك يكون بسعيه إليه وطلبه، إلا أننا نجد أنه لما لم يتحصل الإنسان على الرزق، ولو كان ذلك بتقصير منه، بحيث أصبح معوزاً، فقد تضمنت التشريعات الإلهية مراعاة له، بحيث قسم الباري سبحانه له رزقاً في أموال الأغنياء، وذلك عبر الموارد المالية التي جعل الباري سبحانه فيها حقوقاً للفقراء من أموال الأغنياء، كما هو مفصل في الفقه.

وأما بالنسبة لتوهم أن الله سبحانه وتعالى قد علق تقسيم الأرزاق على مسألة الإيمان، والاستشهاد لذلك بالآية الشريفة، ففي غير محله، ذلك أن ما جاء فيها من مدخلية للإيمان في الحصول على الرزق وبلوغه، ليس مأخوذاً على نحو العلة التامة، حتى يقال بتوقف الأمر عليه، بحيث متى كان متحققاً، كان ذلك موجباً للحصول عليه، وأما إذا لم يتحقق فلن يكون هناك رزق. وإنما هو مأخوذ على نحو المقتضي، ليكون أحد الأسباب والوسائل التي تساعد على حصول الرزق وبلوغه، فتدبر.

البعد الاقتصادي في بسط الرزق:

هذا وقد تقرأ النصوص الشريفة التي تضمنت تقدير الأرزاق للعباد، سواء تضمنت تقتيراً، أم سعة، قراءة سلبية، فعوضاً عن أن تكون دافعاً لخلق روح العمل، وبعث عوامل الهمة عند الفرد، للوصول لما قدر إليه من الرزق، تسبب حالة من الخمول والكسل، وتدفع إلى الاتكالية والاعتماد على أنه قد كفل إليه رزقه وقدر، فأي موجب أو داعي لأن يقوم بالعمل، ليرهق نفسه ويتعبها، أو أن يعرض نفسه للأذى، أو التعب. فإن معنى تقدير الرزق، كفالته وضمانه، وأنه لابد وأن يتحصل عليه، ولن يكون هناك أي حائل أو مانع من ذلك.

ومن النصوص المستند إليها، قوله تعالى:- (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)[8]، على أساس أن المستفاد منها أن رزق كل أحد من المخلوقات مقدر وثابت له من قبل أن يخلقه الله تعالى، وأنه لا يمكن لأحد أن يتسلط عليه أو يسلبه منه. وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: لكل ذي رمق قوت[9]. وجاء عنه(ع) أيضاً قوله: عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم وقدّر أقواتهم[10].

وتزداد المعضلة، عندما نجد نصوصاً تدعو إلى السعي والعمل، والحركة، وعدم الاتكال، مثل قوله تعالى:- (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)[11]، فإن المستفاد منها أنه تعالى قد جعل الأرض طيعة للإنسان بحيث يمكنه أن يستخرج منها ما يكفل له رزقه، ويهيئ له حاجته، فتكون واضحة الدلالة على لزوم السعي والعمل. ومثل ذلك قوله تعالى:- (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضله)[12]، فإن المقصود من الانتشار، هو الانتشار لطلب الرزق، وهذا يشير إلى لزوم السعي للوصول إليه، وأنه لا يكون تحصيله من دون سعي كما لا يخفى.

وقد تضمنت بعض النصوص أن من الذين لا يستجاب دعاؤهم من جلس في داره وسأل الله تعالى أن يرزقه، فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: إن أصنافاً من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم-إلى أن قال-رجل يقعد في بيته ويقول: رب ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق[13].

وجاء عن صادق آل محمد(ع) أنه قال: أرأيت لو أن رجلاً دخل بيتاً وطيّن عليه بابه، وقال: رزقي ينـزل علي، كان يكون هذا؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة[14].

ولا يذهب عليك أن رفع التنافي المتصور في البين، يعتمد على تحديد المقصود من النصوص التي تضمنت تقدير الأرزاق، وهذا أيضاً سوف يكون كفيلاً بدفع توهم دعوتها لعدم السعي والبحث عن الرزق، وطلبه من مصادره، فلاحظ.

وكيف ما كان، فإن موضوع نصوص تقدير الرزق هو علاج الحالة الموجودة عند الإنسان، والتي تتمثل في حرصه على الدنيا وحبه لها، وسعيه للوصول إلى المال بأي وسيلة كانت، أكان ذلك من طريق مشروع، أم لم يكن، وقد عرفت منع استخدام الطريق غير المشروع، بل منع عدّه رزقا، فهؤلاء الذين لا يتورعون أن تكون أموالهم ولو بواسطة القتل أو النهب، أو السلب، أو التعدي على حقوق الآخرين، فإن نظر النصوص المتضمنة للتقدير، وأن كل مخلوق مكفول له رزقه لهؤلاء، بأنه لا يوجد ما يدعو إلى استخدام هذه الأساليب وانتهاجها، فإنه في نهاية المطاف قد قدّر الله تعالى لكل فرد من البشر رزقاً محدداً، وسوف يتحصل عليه، وإن استخدم وسائل متعددة، أو أساليب مختلفة.

وهذا لا يعني أن يقوم الانسان بالاتكال على شيء من الأمور، اعتماداً على ذلك، بل لابد وأن يسعى لنيل ما له من الرزق المقدر، لأنه لن يصل إليه إلا من خلال سعيه، وقيامه بمحاولة الوصول إليه، وإلا فلا.

ويدل على ما ذكرنا، ملاحظة الفرق بين مفهومي الحرص والسعي من خلال الرجوع إلى كلمات أهل اللغة، كما لا يخفى.

وبالجملة، إن موضوع النوعين من النصوص مختلف تمام عن الآخر، لأن كل واحد منهما يشير إلى موضوع مختلف عن ما يشير إليه النوع الآخر، كما تبين، فلاحظ.

على أنه يمكن أن يذكر توجيه آخر، وهو مستفاد من بعض النصوص، وذلك بتقسيم الرزق إلى رزق تطلبه، ورزق يطلبك.

فأما الرزق الذي يطلبك، فهو: ما يحصل عليه الإنسان دون سعي، ولا بذل جهد، وله أمثلة كثيرة، مثل الهدايا التي يعطاها، ومثل الميراث الذي يحصل عليه. بل يمكن أن يعدّ من ذلك بعض الفرص التي تتهيأ للإنسان، والتي لو استغلها لفتح له من خلالها أبواب عديدة للرزق، إلا أنه جراء عدم استغلالها، تغلق عليه أبواب رزق كانت مفتوحة إليه.

وأما الرزق الذي تطلبه، فهو: الذي يتوقف الحصول عليه بالسعي الصادر من الإنسان، بحيث لو لم يسع فلن يتمكن من الوصول إليه. وإن شئت فقل، إن الوصول إليه متوقف على السعي من الإنسان.

وعليه، فيمكن حمل النصوص التي تضمنت ضمان الرزق لإنسان على الرزق الذي يطلبك، ولو من خلال الفرص المتوفرة للإنسان التي لو استغلها كانت سبيل سعادة ونجاح إليه، وتحمل النصوص التي تضمنت طلب السعي والحث على العمل، على الرزق الذي يطلبه الإنسان، فتدبر.

وبناءً على هذا، لا ينفك الإنسان من السعي، لأنه ليس دائماً يكون من أصحاب الرزق الذي يطلبه، بل يحتاج أن يكون هو طالب الرزق، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] سورة النحل الآية رقم 71.

[2] سورة الرعد الآية رقم 27.

[3] سورة سبأ الآية رقم 36.

[4] سورة الأعراف الآية رقم 96.

[5] سورة المؤمنين الآيتان رقم 55-56.

[6] سورة التوبة الآية رقم 55.

[7] سورة الشورى الآية رقم 27.

[8] سورة هود الآية رقم 6.

[9] أمالي الصدوق ح 9 ص 264.

[10] نهج البلاغة الخطبة 185.

[11] سورة الملك الآية رقم 15.

[12] سورة الجمعة الآية رقم 10.

[13] الكافي كتاب المعيشة باب دخول الصوفية ح 1.

[14] وسائل الشيعة كتاب التجارة ب 5 ح 9.