الخرافة تهمة أم حقيقة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
1
0

ليس مستغرباً أن يصدر من أصحاب الفكر الحداثي، والفكر التجديدي توصيف ما يقوم به المتدينون نتيجة علاقتهم بالدين، وعملهم بالأحكام المرتبطة به، واحترامهم لشعائره، بالخرافات، وإنما يتعجب القارئ عندما يكون هذا التوصيف وإضفاء هذا العنوان صادراً من قبل المنتمين للدين، أو المعتقدين بتلك الأحكام، والمنتمين لتلك الشعائر، فيعجب عندما يسمع واحداً منهم يصف بعض الجوانب الدينية بالخرافة، أو يتهم بعض الممارسات الشعائرية بذلك، أو يضفي هذا العنوان على بعض الأعمال الصادرة منهم.

ولا ريب أن حقانية التعبير المذكور، تقوم على انطباق العنوان، بحيث يصدق فعلاً على تلك الأعمال عنوان الخرافة، حتى يكون التوصيف حقاً، أما لو كان الصادر مجرد تهمة، ولا يمت للحقيقة بصلة، فسوف يكون فرية وأي فرية.

ومن الطبيعي توقف الحقيقة، على وضوح المقصود من هذا المفهوم الذي يطلق وتنسب تلك الأمور إليه، فإنه ما لم يكن المقصود من الحقيقة معنى واضحاً، فلن يتسنى لأحد، القول بأن ما ذكر حقيقة، أو أنه مجرد تهمة.

الخرافة حقيقة وجذوراً ومنشأ:

قد أشير إلى أن التسمية نشأت نسبة إلى رجل من قبيلة عذرة، كان يسمى خرافة[1]، وقد استهوته الجن واختطفته، فكان يحدث قومه بما يرى، إلا أنهم لم يكونوا يصدقونه، وكان كل ما جاءهم بحديث قالوا هذا حديث خرافة، حتى مضت أمراً معروفاً، وأجروه على كل ما يكذبونه من الأحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه[2].

وقد عرفت في اللغة بأنها: الحديث المستملح من الكذب[3]. ومقتضى التعريف المذكور يمكن القول بأن حقيقتها اللغوية تفيد أنها الكلام العبثي والمرتبك، إلا أنه يكون مستحسناً.

وقد أصبحت بعد ذلك تطلق على: العادة، و العقيدة الخارجة عن الأسس العقلية والمتنافرة مع واقع تعاليم الشرع، وحتى العرف.

وهذا التعريف أقرب ما يكون بياناً إلى حقيقتها عند أهل الاصطلاح، ويساعد على ذلك تعريف العلامة الطباطبائي(قده) إياها بقريب من هذا، قال(قده)، بأنها: الاعتقاد بالأشياء التي لم يتوصل العلم إلى حقيقتها وماهيتها، ولم يثبت صحتها، ولم يعرف أخير هي أم شر[4].

ومن الواضح أن المفهوم قد جرت له عملية نقل من حقيقته اللغوية إلى المعنى الاصطلاحي، إذ أنه قد توسع ليكون شاملاً لكل عادة أو معتقد، وإن كان بينهما شيء من المقاربة والالتقاء، فتدبر.

ومن خلال ما قدم، يخلص إلى أن الخرافة عبارة عن: الاعتقادات التي تفتقد إلى أساس علمي، والتي لا تجد لها واقعية، ولا يقبلها العقل، ولا تتوافق والأسس الفكرية المبنية على ركائز منطقية وعلمية، وهي تنطلق من الوهم والخيال.

وهذا يعني أن الحدود المأخوذة فيها هي:

1- افتقادها إلى أساس علمي، ما يستوجب خروج كل ما كان قائماً على ذلك، ومن الطبيعي أن يكون في البين تفاوت بين الأفراد، ما يجعل أن ما يعتقده الفرد أنه قائم على أساس علمي، وإن لم يكن كذلك عند طرف آخر، يمنع من رميه بالخرافة.

2-لا تجد لها واقعية، ومقتضى هذا القيد، أن ما يكون ذا واقعية وإن لم يكن مقبولاً عند الآخر لا يسوغ لهم رميهم إياه بالخرافة. نعم مجرد ادعاء وجود الواقعية للشيء لا يوجب حمايته عن الرمي بالوصف المذكور، بل لابد وأن يكون له واقعية فعلية، فلاحظ.

3-لا يقبلها العقل، وليس المقصود من عدم قبوله إياها عدم قدرته على إدراك كنهها وحقيقتها، ذلك أن الكثير من الأمور التي تكون وراء عالم المادة قد لا يتمكن العقل من إدراكها، مثل ما يرتبط بعالم الجنة والنار، والأمور الغيبية، وإنما يقصد من رفض العقل إياها، عدم جعلها داخلة دائرة الحسن والقبول، وعده إياها من الأمور اللامنطقية.

4-عدم موافقتها للأسس الفكرية المبنية على ركائز منطقية وعلمية، بحيث تكون مفتقدة للبرهان الذي تعتمد عليه في مقام الاثبات، كما لا يوجد لها دليل يشيد أساسها.

5-أنها تنطلق من الوهم والخيال.

منشأ الخرافة وجذور وجودها:

ربما يعتقد أن الخرافة من المفاهيم التي يندرج الحديث عنها في خصوص الأحاديث الاجتماعية، ولا يكون لها وجود في شيء من المحافل العلمية والمعرفية، إلا أن الواقع يكذب ذلك، فإن هذا المفهوم لم يختلف عن غيره من المفاهيم التي خضعت للدراسات المفصلة، والمطولة، وصار محط بحث ونظر عند المفكرين، ما يعني أن الموضوع ليس مختصاً بالعالم الإسلامي، وإنما أصوله موجودة حتى في المجتمعات المدنية والمتقدمة، فقد تعددت النظريات والآراء في الحديث عن منشأها، فأولى علماء النفس هذا الموضوع أهمية خاصة، واختلفت نظرياتهم حولها، وقد كان أيضاً لأصحاب النظريات الاجتماعية، حولها قول ورؤى مختلفة، ونحن نشير إلى شيء من ذلك على نحو الإجمال:

أما نظريات علماء النفس في تحديد مصدرها:

منها: أن مصدرها الأخطاء.

ومنها: أن مصدرها الغفلة واللاوعي.

ومنها: أن مصدرها الإجابة الشرطية.

وأما الدراسات الاجتماعية، فقد ذكرت بعض نظرياتهم أن الخرافة من الظواهر الاجتماعية، وأرجعت وجودها إلى التأخر في اتخاذ القرار المناسب عبر السبل الاعتيادية في الأوقات الحرجة، أو في القضايا الحساسة، ما يقود إلى الخرافة من أجل تحصيل القطع واليقين.

بينما جعلت دراسة أخرى صادرة عنهم منشأها وسبب وجودها إلى نوع من النقص والتخلف الفكري.

والحديث عن كل واحدة من هذه النظريات، والتأمل فيها قبولاً ونقداً يوجب طولاً يخرج البحث عما عقد له، خصوصاً وأن بعضها مورد نقد ونقاش كما لا يخفى.

والذي يمكن أن يتحصل من خلال التأمل في ما قدم، شرحاً لحقيقتها، وبعض ما ذكر عن أصول نشأتها، أنها مما يترعرع في صميم الأفراد، ويتبلور اجتماعياً وينتشر على مساحات أوسع، حتى يؤثر على شاكلة السلوك الاجتماعي، لأنه أحد عناصر الثقافة، فيمتزج بها فكر وروح الإنسان.

وهذا يكشف عن أن أسباب وجودها تعود إلى بعض الممارسات التي تصدر من الأفراد، رغبة منهم في الإصابة، فيتحول الأمر إلى خطأ، فإنهم عندما يصرون على تبسيط الأفكار، وتقديم التفسيرات السطحية للظواهر، وكذلك العمل على افتعال العلة، بدلاً من البحث عنها، في ما يخص الظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعة، ينتج عنه الانجرار إلى مثل هذه الأمور[5].

كما اتضح مما تقدم أن هناك عوامل دخيلة في تكوين الخرافة ووجودها، وإن اتفق الجميع على أقوائية الجهل تأثيراً في وجودها وانتشارها.

ولا يذهب عليك أنه يمكن تصنيف الخرافات إلى أنواع وفق الموضوعات التي تتضمنها، فيلتزم بخرافات دينية، وخرافات تاريخية، وخرافات اجتماعية، وهكذا.

وقد قسمت إلى خرافات ذات طابع فردي، وخرافات ذات طابع اجتماعي، وجُعل المائز بين التقسمين، انحصار المعتقدات والعادات التي تمارس في فرد يسعى لتحديد سعده ونحسه من خلالها، لتكون خرافة ذات طابع فردي، وأداء تلك العادات والمعتقدات من قبل جماعة، يضفي عليها طابع عنوان الخرافة ذات الطابع الجماعي.

والتقسيم المذكور، لا يعدّ تقسيماً، ذلك أنه يعتمد على المعتقدين بالخرافة، والممارسين لها، وهذا لا يجعلهما قسمين، فتأمل جيدا[6].

عوامل شيوعها:

وقد أشير إلى أن الذي يساعد على شيوعها أمران:

الأول: العوامل الفردية:

ويقصد بها العوامل التي تكون مؤثرة في الفرد بما هو هو، دون علاقة للمجتمع فيه، وهذا يعني أن الأمر يرتبط به منفرداً من دون أن يكون ملاحظاً وجود أفراد أخر أو لا. ويمكن حصر العوامل الفردية في أمرين:

أحدهما: الجهل وفقدان المعرفة:

فإن تحكيم الناس لعواطفهم، وانقيادهم لها، وتبعيتهم لمشاعرهم، دون الاتباع للبرهان والحقيقة، ما يوجب غياب العلم، وسيادة للجهل، يساعد كثيراً على انتشارها في الأوساط الاجتماعية.

ثانيها: الإفراط في الارتباط العاطفي بالأفراد:

فالحب الزائد عن الحدود المألوفة، والمفتقد إلى المسوغات العقلية والشرعية، يخلف انقياداً للمحبوب دون وعي، فإن التعلق المفرط بشخص ما، أو بعقيدة معينة، يجعل المحب أسيراً لمحبوبه، وتابعاً له دون تأمل في حقانية ما يصدر منه، أو عدمه، ومثل ذلك يجري حال وجود ارتباط له بعقيدة ما. وقديماً قالوا: إن الحب يعمي ويصم.

الثاني: العوامل الاجتماعية:

ويقصد منها الظروف الموضوعية المحيطة بالفرد حال وجوده في المحيط الاجتماعي، والتي تتدخل في وجود الخرافات عنده، وقد عدوا أموراً:

منها: البيئة:

فقد أكد بعض العلماء على أن عنصر البيئة يمثل المحور الأساس في تعاملات الفرد وسلوكياته، وهو المفصل الذي يتأثر به، ويؤثر فيه، ويكون لها دور أساس في تكوين شخصيته. ويبدأ ارتباط الإنسان بالبيئة الأسرية، حتى يتوصل إلى البيئة العامة.

وكيف ما كان، فلا ريب في وجود دور أساسي للبيئة، سواء كانت الصغيرة منها، أم الكبيرة في وجود الخرافات في حياة الإنسان، من خلال ما يلقن به من عادات وتقاليد، وربما بعض المعتقدات، وغير ذلك.

ومنها: العامل الثقافي:

فإن فقدان المعرفة اللازمة سواء في المجال العقدي، أم في المجال الفكري، بل وحتى في القضايا التاريخية، تساعد على توفر الأرضية المناسبة لانتشار الخرافة بين الأفراد.

ومنها: هزالة الضبط الاجتماعي:

ويقصد من الضبط الاجتماعي، مجموعة السبل والأساليب التي يوظفها المجتمع أو جماعة ما من أجل تحقيق الأهداف وإرشاد الأفراد إلى الالتزام بالأعراف والتقاليد والشعائر، وجمع الضوابط المتفق عليها.

ويتم الضبط الاجتماعي عن أحد طريقين: إما عن طريق الضغط، أو عن طريق الإقناع والتوغل إلى أعماق الإنسان.

وقد تقرر أنه متى قلت الرقابة الاجتماعية، وحصل انحسار لضبط البيئة الاجتماعية، كان ذلك موجباً لازدياد وجود الخرافة بين أفراد المجتمع[7].

موقف الاسلام من الخرافة:

ثم إنه بعد وضوح حقيقة الخرافة، والإحاطة بمنشأها، ومعرفة جذورها، مضافاً للتعرف على العوامل المساعدة في انتشارها، يلزم عرض موقف الإسلام منها، فإن لذلك أبرز الأثر في تحديد مدى صدق التهمة المقدمة من عدمها، فإنه لو ثبت وجود موقف للإسلام من الخرافة كان ذلك مانعاً من القبول بالتهمة المدعاة في الكلمات المتناثرة دائماً تجاه الدين ومتعلقاتها، وعلى فرض وجود شيء من مصاديقها في الوسط الديني، لا يعني توجيه تهمة للدين، بخلاف ما لو لم يكن للإسلام موقف منها، فإن ذلك أدعى للبناء على ثبوت التهمة وصدق التصاقها.

وعلى أي حال، إن الرجوع للمصدرين الأساسيين المتفق عليهما للتشريع الإسلامي، الكتاب والسنة المباركة، يفيد محاربة الإسلام للخرافة، ووقوفه موقفا متشدداً جداً منها، فقد أتخذ الثقلان أسلوبين حيالها:

الأول: المنهج التنظيمي:

فقد تضمنت الأطروحة الإسلامية تنظيماً عملياً لمعتقدات الناس، بدأ من مبدأ التوحيد، مروراً بالصفات المتعلقة بالذات الإلهية، ومسألة العدل الرباني، إلى أصل النبوة، وما يرتبط به، من أهداف وغايات بعثة الأنبياء، إلى ما يعتبر في النبي المرسل، والوسائل التي يكون مزوداً بها من معجزة، ووسائل أخرى، انتهاء إلى قانون الخلافة والإمامة بعد الأنبياء بجعل الأوصياء، وإقامة الخلفاء، ووصولاً إلى المعاد وما يرتبط به.

ولم ينحصر ذلك في خصوص هذه الجوانب، بل تعداها حتى شمل بعض المفردات التي لا تعتبر أصولاً أصيلة في المعتقد، وإنما تمثل أموراً فرعية فيه.

وقد تم عرض هذا البعد التنظيمي وفق براهين وأدلة ثابتة يعتمد عليها، ويتم من خلالها إثبات كل ما ذكر، وليس الاعتقاد بها مبنياً على توهمات، أو تخرصات غير رصينة.

ولم تنحصر العملية التنظيمية في البعد العقدي، بل تعدتها لتشمل ما يرتبط بالمسائل الاجتماعية التي تحدد علاقة الأفراد بعضهم مع بعض، والأمور العبادية التي تحدد علاقة العبد بربه، وهكذا.

والحاصل، إن المستفاد من القرآن الكريم والسنة الشريفة أن المدار في القبول بشيء والالتزام به، هو قيام الدليل والبرهان عليه، بحيث يكون ذلك مانعاً من حصول الزيادة أو النقيصة في كل ما له ارتباط بالدين.

الثاني: منهج النقد والرفض الصريح:

فقد اتخذ الثقلان منهجاً صارماً حيال الخرافات التي كانت موجودة في المجتمع العربي عند بعثة النبي(ص)، واستمر النبي(ص) على ذلك المنهج بعد وصوله إلى المدينة المنورة، وقد سار الأئمة الهداة على هذا المنهج المتبع في الموقف الصارم تجاه كل خرافة كانت توجد في الوسط الاسلامي، أو يسعى إلى إيجاد وجود لها بين أفراده.

وقد تمثل ذلك المنهج في الرفض الصريح لتلك الخرافات من جهة، والنقد اللاذع لها من جهة أخرى، ولمزيد وضوح في هذا الجانب، نشير إلى بعض المفردات التي كانت منتشرة في وسط المجتمع العربي عند بعثة النبي الأكرم (ص)، وكذا بعد هجرته إلى المدينة المنورة، أو وجدت بعد رحلته إلى عالم الملكوت، في عصر الأئمة المعصومين(ع) من بعده:

منها: الموقف من التطير والتفاؤل:

وهي إحدى الخرافات التي كانت منتشرة في العصر الجاهلي، وقد كانوا يرتبون آثاراً عملية على ذلك، فلو وقع نظر الرجل أثناء خروجه من بيته على طائر البوم، كان ذلك موجباً لتطيره وتشاؤمه من ذلك اليوم، وعده يوماً منحوساً، بعكس ما لو وقع نظره عند الخروج على كلب، فإن سعادة اليوم ونحوسته تعتمد على الهيئة التي كان عليها الكلب عندما وقع نظره عليه، قاعداً، أو ماشياً، يأكل، أو واقف، وهكذا.

وقد أوجب وجود مبدأ التطير والتفاؤل بينهم حجباً لأنظارهم عن الحقيقة، وجعلهم يعيشون حالة من القلق النفسي جراء تلك الخرافات التي كانوا يعتقدون بها.

وقد اتخذ الإسلام متمثلاً في الثقلين الكتاب والسنة موقفاً حازماً من هذه العملية، حتى عدّ المعتقد بذلك بمثابة من لا دين له، فقد ورد: ليس منا من تطير، ولا من تطير له. وفي بعضها عد التفاؤل بالشر شركاً، وكفارته التوكل على الله سبحانه وتعالى. بل تضمنت الآيات القرآنية التأكيد على أن الذي له علاقة بنجاح الإنسان وفشله هو ذات الإنسان، وأن الطالع الشر، أو الخير وربط النجاح والفشل في الحياة بهما، ناشئ عن أوهام وتخيلات مزيفة، فمتى أصبح الإنسان واقعياً متعقلاً قبل الاقدام على أي قرار واتخاذه، ومتوكلاً على الله سبحانه وتعالى، فلن يكون للتطير والتفاؤل دخالة في نجاحه ولا فشله.

ورغبة في تقديم صورة مشرقة، وإعطاء باعث الأمل عند الأفراد، حثت الشريعة المقدسة على التفاؤل الحسن، وأن يأمل الإنسان في الله سبحانه وتعالى، وفضله خيراً، فقد ورد: تفاءلوا بالخير تجدوه. وقد طبق(ص) ذلك عملياً فقد حكى المجلسي(ره) أنه لما مزق كسرى فارس رسالته التي بعث إليه بها، وأعادها مع حفنة من التراب، تفاءل بها النبي(ص)، خيراً وقال في القريب سيحكم المسلمون أرضه.

ومنها: الموقف من العين والحظ:

من الظواهر الاجتماعية التي تنتشر في الوسط الاجتماعي بمختلف مكوناته مسألة العين، ولسنا بصدد إنكار وجودها، فإن ذلك حقاً قام عليه الدليل، كما أننا لسنا بصدد نفي التأثير لها، فإنه مما برهن عليه في محله، ما يعني أن الاعتقاد بها ليس خرافة، لأنها أمر واقع وحقيقة.

وقد أوجبت نظرة الإسلام للعين بالتأكيد على حقيقتها، وصدق تأثيرها منضماً لما كان عليه المجتمع الجاهلي إلى تحويل موضوع العين إلى قضية تمثل مشكلة أساسية في حياة الأفراد، فأصبح الكثير من الناس يعتقد أن جميع ما يقع عليه إنما هو ناشئ مما أصابه من عين، حتى أصبح البعض يعيش هذا الهاجس، ويحيل كل ما يقع فيه من فشل إلى ذلك، سواء في حياته الاجتماعية، أم في حياته العلمية، أم في حياته العملية، حتى أنك تجد بعض الأفراد يجعل السبب في عدم توفر الانسجام بين الزوجين مرجعه إلى الإصابة بالعين، وهكذا.

وهذا ما رفضه الإسلام، ومنعت عنه السنة المباركة، فإن الشريعة كما عرفت وإن أقرت بحقانية هذا الأمر، إلا أنها لم تبق الأمر على مصراعيه يتخبط فيه الإنسان، ويعيش حياة قلقة، بل عمدت إلى وضع أسس وسبل علاجية لهذه الحالة، سعياً للوقوف أمام انتشار هذا المعتقد، وتحوله إلى شيء أساسي في حياة الأفراد، من خلال حصر المؤثر في الكون في الباري عز وجل، ولزوم التوكل عليه تعالى، لأنه المسبب الحقيقي، ولا مسبب فوق سببيته، وأن إرادته هي الإرادة الفعلية، والاستفادة من مدرسة الدعاء، لأنه يغلق كل أبواب السوء، ومداومة الذكر.

وبالجملة، فإن الحالة التي تنتشر في أوساطنا اليوم، إنما هي امتداد لتلك الحالة التي كانت موجودة في الجاهلية، من إحالة كل ما يقع فيه الأفراد إلى مسألة الإصابة بالعين، والعيش ضمن هذا الإطار، وحصر الإنسان نفسه فيه، حتى أصبح يمثل له هاجساً وخطراً، وعلاجه كما عرفت، بالرجوع لما دعت الشريعة السمحاء إلى تطبيقه.

ومنها: الموقف من الأحلام والرؤى:

ولست بصدد الحديث عن صدقها وكذبها، فقد تعرضنا لذلك بصورة مفصلة في بحوث ماضية، يمكن الرجوع إليها، وحاصل ما ذكرناه وجود واقعية لبعض الأحلام في الجملة، وأن ذلك أمر لا ينكر. نعم ينبغي أن يكون التعامل مع هذه الرؤى والأحلام ضمن ضوابط وشروط معينة.

وإنما يبقى التركيز على الحالة التي كانت موجودة في الوسط العربي، والتي أصبحت موجودة اليوم في وسطنا الاجتماعي، من الاعتقاد بالرؤى والأحلام، والتعلق بها كثيراً وترتيب آثار عليها، حتى أصبح الواحد ينتظر تحقق ذلك الحلم الذي رآه، ولهذا نجد الشريعة اتخذت موقفاً حازماً من هذا الجانب، من خلال حصرها في الرؤى التي تعتمد البشرى دون غيرها، ما يعني لزوم إهمال الأحلام التي تكون منذرة بالشر، وعدم الاهتمام بها، وأن لا توقف الحياة بسببها، وهذا يشير إلى نقطة مهمة وهي أنه ليس كل حلم ورؤيا تستحق من الإنسان العناء في البحث عن تأويلها وتعبيرها، والوصول إلى ما هو المقصود منها، خصوصاً وأن ما يقوم به المعبرون-لو كانوا من أهل الفن- مجرد حدس وتخمينات فقط.

ومنها: الموقف من سعودة الأيام ونحوستها:

يرجع الاعتقاد بسعودة الأيام ونحوستها إلى التاريخ القديم، وقد كان الاعتقاد بوجود نحوسة بعض الأيام داعياً إلى البحث عن سبب رفعها، ولسنا هنا بصدد الحديث عن وجود نحوسة في الأيام أو عدمه، فإن لذلك محله الذي يطلب منه، ومدى ما توفرت عليه النصوص في هذا المجال، وإنما أود الإشارة إلى ما كان معتقداً به من خرافة في العصر العربي عند بزوغ فجر الإسلام، وما آل أليه أمرنا اليوم، من التعلق بهذا الموضوع وبصورة شديدة جداً، حتى أصبحت الكثير من الأمور تعطل وفقاً لهذا المعتقد، فاليوم، لا يقدم الكثير من الشباب على البناء بزوجته، إلا بعد أن يحدد اليوم الصالح لذلك، وكأن الأمر يتوقف عليه، ولا يقدم الشاب على تعمير داره إلا بعد أن ينتخب اليوم الحسن لذلك، بل ربما لا يقدم على شراء سيارة، أو إيقاع معاملة إلا بعد أن يحدد اليوم الصالح لذلك. والرجوع للشريعة السمحاء يكشف عن عدم مقبولية شيء مما ذكر، ذلك أن الوارد في الحديث عن السعودة والنحوسة إنما هو في شيء جزئي، وليس بهذه السعة التي أصبحت اليوم تمثل هاجساً عملياً في حياة الأفراد، وأعادوا بذلك ما كان موجوداً في العصر الجاهلي من الاعتقاد بالسعودة والنحوسة المطلقة للأيام، حتى أنهم كانوا يلتزمون عدم السفر في أيام معينة، وعدم البيع والشراء في أيام محددة، وهكذا، وقد ورد أن أمير المؤمنين(ع) عندما عزم الخروج لقتال أهل النهروان، أتاه منجم، وطلب إليه عدم الخروج لأن القمر في العقرب، وأن خروجه سوف يجعله يخسر المعركة، وعوضاً عن أن يرتب أمير المؤمنين(ع) أثراً على كلامه، خالفه(ع) وخرج وأظفره الله تعالى بأعدائه.

والحاصل، إن هذه أيضاً واحدة من الخرافات التي كانت موجودة في الوسط العربي، وأصبح لها اليوم وجود واسع، ومما يؤسف له تغذيتها من قبل بعض المعنيـين، ممن يحسن منهم الوقوف أمامها، فلاحظ[8].

تهم الحداثيين نحو الدين والشعائر:

وبعد وضوح موقف الإسلام تجاه الخرافة، وموقفه الصارم متمثلاً في أسلوبيه الذين عرضنا، لا يبقى مجال لأن يتهم الدين وأتباعه، بأنهم أهل خرافة، وأن ينسب إليهم ذلك، إذ أن جميع ما يقوم به المتدينون سوف يكون منطلقاً من تعاليم الإسلام، ومتوافقاً مع أطروحته التي تقوم على أساس البرهان والحجة والدليل. وأوضح من ذلك ما تؤدى من شعائره، وتطبق من أحكامه.

إلا إننا نجد كثرة السهام الموجهة ممن ذكرنا في هذا الجانب، ولعمري أن هذه فرية وأي فرية، وتهمة ما أعظمها من تهمة.

هذا ويمكن تصنيف تهمهم إلى صنفين:

الأول: ما يكون مرتبطاً بالدين، ومن أمثلته ما يتعلق بالقضايا الغيبية، وما يرد في شأن الملائكة، ومسألة الجنة والنار، وما شابه ذلك، خصوصاً ما يكون مربوطاً بعالم ما وراء المادة، والقضايا الغيبية.

الثاني: ما يكون مرتبطاً بالمذهب الشيعي، وهذا له بعدان:

أحدهما: البعد العقدي المتمثل في بعض الممارسات الشعائرية، مثل التوسل، وزيارة القبور، وما شابه ذلك.

ثانيهما: ما يرتبط بالقضية الحسينية بالذات.

ولا يذهب عليك أن الحديث عن ما ورد في كلمات هؤلاء من تهم في هذا الجانب يستوجب سعة في الحديث وبسطاً في المقال، لا يفي به هذا المختصر، لذا سوف نقصر الأمر على خصوص الجنبة الواردة في كلماتهم، والمتعلقة بشأن الشعائر الدينية، وبالتحديد ما يرد منهم في شأن الشعائر الحسينية، وما يرتبط بذلك.

ولعل أبرز ما يمكن ذكره في البين، هو إصرار الكثيرين على إنكار العديد من القضايا التي تذكر على المنابر الحسينية، ووسم بعضها بالخرافة، مدعين أنها لم ترد في شيء من المصادر المعتبرة، أو أنها وردت بطرق ضعيفة، بل ربما تجرأ البعض، مدعياً أنها لا تعدو كونها بعض المختلقات الواردة على ألسنة الخطباء، أو أنها من الموروثات القديمة والبالية التي لا يعرف لها مصدر، وربما كان منشأها الأقاصيص والأحجيات.

ولا يذهب عليك أن هذا ناجم غالباً عن فقدان هؤلاء للمنهجية المتبعة في التعاطي مع القضية التاريخية، ذلك أنهم يخلطون بين الرواية المرتبطة بالبعد العقدي، أو الحكم الفرعي، والناحية التفسيرية، والرواية ذات الارتباط بالمسألة التاريخية، وأنه لا يتم التعامل مع الجميع منها بكيفية واحدة، بل إن ما يعتبر في تلك الأمور ليس بالضرورة معتبراً في الرواية التاريخية.

كما أنه يكتفى في الالتـزام بثبوت بعض الموضوعات التاريخية، كوقوع حدث ما، أو وجود شخصية معينة على قيام الشهرة التاريخية وثبوتها على ذلك، ولا يعتبر أكثر من هذا الأمر.

من هنا يتضح أن هناك تجنياً على القضية الحسينية نشأ من الجهل وفقدان المعرفة بالأسس المتبعة في التعاطي معها، والحق أن الخرافة إنما هي عند الناسبين لما يطرح حول النهضة المباركة للخرافة، لا لما يطرح حولها.

ونحن لا نريد أن نعطي صك غفران لكل من يتعرض للحديث حول النهضة الحسينية ليقرر بأن ما يلقيه كله حق، إلا أننا نأمل ممن يود الحديث حولها أن يكون حذراً من رمي التهم جزافاً، فإن وجود فرد مخطئ مثلاً لا يستوجب توهين حركة متكاملة، لأن البرئ لا يؤخذ بجرم المذنب، خصوصاً لما يتركه هذا التعميم، من أثر سلبي على هذا الكيان، فإننا كما نعلم إنما نعتمد وبصورة مباشرة في تلقي مخزوننا الثقافي على المنبر الحسيني، والذي عوضنا به عن منبر الجمعة، فكثرة الوسم لما يعرض عليه بأنه خرافة، أو محاولة توهينه، يوجب فقدان المتلقي الثقة به، وبالتالي انحسار أحد أبرز الموارد المعرفية للشيعة. كما أننا نود التركيز على أن مجرد إنكار بعض المحققين لبعض الموضوعات ليس بالضرورة حقانية كلامه، لكي يلزم الجميع بالعمل على وفقه، إذ ربما نوقش ما أختاره، وتم التوصل إلى خلاف ما بنى عليه، وهذا بنفسه يكشف عن إمكانية صدق الآخر.

وأخطر من ذلك التوهين لبعض المصادر المتضمنة للقضايا الحسينية، فإن ذلك من الخطورة بمكان، كيف وإذا كان مؤلفها من كبار العلماء الأجلاء، وأصحاب الباع في مجال الحديث والرجال والدراية، كشيخنا الطريحي(ره)، وهكذا.

ويزداد الأمر خطورة عندما يكون الحديث عن بعض الشعائر المنصوصة، كالتوقف في بعض الممارسات للشعائر، بأن يدعى أن فيها تضخيماً، كما يقال في شأن الزيارة، أو يطالب بالتخلي عنها كما في بعض موارد الإطعام وتقديم البركة باسم المولى أبي عبد الله الحسين(ع) على أساس أن فيها إسرافاً وهدراً للأموال دون فائدة، أو يدعى إلى غير ذلك.

ولا يخفى أن هذا من صغريات الاجتهاد مقابل النص، إذ أن النصوص الشريفة لما كانت متعرضة لمثل هذه الموضوعات وكان المعصوم(ع) على دراية بما يرتبط بموضوعها، ومع ذلك فقد أصدر حكمه فيها، فإن ذلك يمنع من أن ترفع اليد عن ما جاء فيها من أحكام، وتعبد، فلاحظ.

[1] مجمع البحرين مادة خرف.

[2] النهاية في غريب الحديث والأثر ج 2 ص 25 مادة(خرف)

[3] لسان العرب ج 4 ص 71 مادة(خرف)

[4] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 422.

[5] مجلة قضايا معاصرة العدد 23 ص 91-92(بتصرف)

[6] الداعي للتأمل أنه يمكن أن يكون هناك إبراز لهذا التقسيم بصورة أفضل مما أطلعنا عليه يعطيه واقعية.

[7] مجلة نصوص معاصرة العدد 23 ص 114-117(بتصرف).

[8] لاحظ مجلة نصوص معاصرة في أعدادها 23، 24، 25، فقد تضمنت الإشارة لهذه الأمور، ولغيرها من المفردات الخرافية التي كانت موجودة في العصر الجاهلي، وحاربها الإسلام.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة