طاعة الوالدين (2)

لا تعليق
الزاوية الفقهية - أبواب متفرقة
79
0

الآية الثالثة:

ومنها: قوله تعالى:- (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تـنهرهما وقل لهما قولاً كريماً)[1].
هذا ويبتني تقريب الاستدلال بها على المدعى على أساس أن كلمة قضى تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه، ومن هنا ذكر أن لها مدلولاً أمرياً أكثر من كلمة أمر، وهذا يوجب تمامية الاستدلال بها على الوجوب.

وبعبارة أخرى، إن كلمة قضى لما كانت مفيدة للقرار، فيكون معنى الآية الشريفة، لقد قرر الله تعالى أمرين:

1-عبادته سبحانه وتعالى وحده.
2-الإحسان إلى الوالدين، ولما كان الإحسان إليهما يشتمل على طاعتهما، فيكون مقتضى القضاء الوارد في الآية الشريفة، هو لزوم طاعة الوالدين، وهو المطلوب.

والحاصل، إن تمامية الاستدلال بالآية الشريفة على المدعى مرجعه إلى كلمتين وردتا فيها، وهما كلمة القضاء، وكلمة الإحسان، كما لا يخفى.
وهذا يستوجب الإحاطة بالمقصود من كلمة القضاء التي وردت في الآية، وأما بالنسبة إلى كلمة الإحسان فقد سبق منا الحديث عن بيان المقصود منها، فلا نحتاج الإعادة.
والمذكور في أصل كلمة قضاء أنها بمعنى الفصل في شيء ما، والمحقق له أمران، إما العمل، وإما الكلام. وقيل في معناها وضع النهاية لشيء ما.

ولا يخفى تقارب المعنيـين، ذلك أن الفصل يعني وضع النهاية للشيء، مما يعني أنهما يؤديان إلى معنى واحد، فلا تغفل.

وقد ذكر القرطبي في تفسيره ستة معان لكلمة(قضى):

الأول: أنها بمعنى أمر، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:- (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، فإن المقصود من القضاء في الآية الشريفة هو الأمر، فيكون معناها وأمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه.
الثاني: أن تكون قضى بمعنى خلق، كما في قوله تعالى:- (فقضاهن سبع سماوات في يومين)، فإن المقصود من قضاهن في الآية بمعنى خلقهن.
الثالث: أن تكون بمعنى حكم، وهو كما في قوله تعالى:- (فاقض ما أنت قاضٍ)بمعنى أحكم.
الرابع: أن تكون قضى بمعنى الانتهاء، كما في قوله تعالى:- (قضي الأمر الذي فيه تستفيان)، أي قد انتهى الأمر وحسم.
الخامس: أن يكون المقصود منه أراد، وهذا كما في قوله جل من قائل:- (إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)، فإنها هنا بمعنى أراد.
السادس: أن تكون قضى بمعنى عهد، قال تعالى: -(إذ قضينا إلى موسى الأمر)، بمعنى عهدنا إليه.
وقد أضاف الفخر الرازي في تفسيره معاني آخر لهذه المعاني، وهو كونها بمعنى الإخبار والإعلام، كما في قوله تعالى:- (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب)
هذا ولم ينحصر ذكر المعاني في خصوص هذه المعاني السبعة، بل ربما يجد القارئ للكتب التفسيرية، أو المعاجم اللغوية معاني أخرى غير ما ذكرنا.
نعم ما يبنغي البحث عنه، هو أن ما ذكر من تفسير ومعنى، هل يكشف عن تعدد في المعاني، وبالتالي يكون اللفظ من الألفاظ المشتركة الذي يتوقف حمله على معنى منها إلى وجود قرينة موجبة لذلك، أم يقرر بأن المذكور ليس تعدداً في المعنى، وإنما ذكر للمصاديق ليس إلا.

وكيف كان، فإن تنقيح ذلك، وتحديده ليس محله المقام، بل يطلب من محل آخر فلاحظ.
هذا ولا يخفى أن قوله تعالى:- (وبالوالدين إحساناً)يجري فيه ما سبق وذكر بياناً في ما تقدم من الآيات الشريفة، فلا نعيد.

ثم إن الآية الشريفة لما ذكرت الإحسان إلى الوالدين، أخذت بذكر بعض المصاديق المحققة لذلك من خلال قوله تعالى:- (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ) وأصل كلمة أفٍ، كل مستقذر، وقيل أن معناها القلة وهو مأخوذ من الأفيف، وهو الشيء القليل.
وبالجملة، لا تختلف دلالة الآية الشريفة عما تقدمها في عدم إفادتها للزوم طاعة الوالدين، نعم هي تؤكد وتدل على ما دلت عليه سابقتها من الآيات من وجوب الإحسان إليهم، فلاحظ.

الآية الرابعة:

ومنها: قوله تعالى:- (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)[2].

ولا يخفى أن الاستدلال بها على المدعى وهو وجوب طاعة الوالدين تمسكاً بمفهوم الشرط، ويقرب ذلك فيقال: إن قوله تعالى:- (وإن جاهداك على أن تشرك بي-إلى قوله-فلا تطعهما) يفيد عدم وجوب طاعة الوالدين إذا أمرا الولد بالإشراك بالله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أنهما لو لم يأمراه بذلك بل أمراه بطاعة مثلاً، فلا ريب في وجوب طاعتهما عليه، بمقتضى مفهوم الشرط، لأن المستفاد من المفهوم وجوب طاعتهما إذا لم يجاهداه على الإشراك بالله، فنفي وجوب الطاعة ينحصر في ما إذا كانت هناك دعوة إلى الشرط لا مطلقاً، وهو المطلوب.

ولا يخفى أن الاستناد إلى الشرط في الآية الشريفة يصح بناءً على أن له مفهوماً، وإلا فلا. توضيح ذلك:

إن المذكور في علم الأصول أن ذكر الشرط في الكلام لا يخلو عن أحد حالين:

الأول: أن يكون ذكر الشرط في الجملة لدلالته على ثبوت مفهوم لها، وهذا يكون متى كانت الجملة الشرطية مشتملة على حكم، وعلى شرط، وعلى موضوع ثابت، سواء وجد الشرط أم لم يوجد، مثال ذلك عندما يقال: إن جاء زيد فأكرمه، فإن الحكم في هذه الجملة الشرطية هو وجوب الإكرام، والشرط فيها هو المجئ، والموضوع الثابت في حالتي وجود الشرط وعدمه هو زيد، وعليه يلتـزم في مثل هذه الحالة بأن لهذه الجملة الشرطية مفهوماً، وهو يقضي بأنه إذا لم يأتِ زيد فلا تكرمه

الثاني: ألا يكون ذكر الشرط في الجملة الشرطية للدلالة على ثبوت المفهوم عند الانتفاء، وإنما تكون الغاية من ذكره تحقق الموضوع فقط، بمعنى أن الجملة الشرطية لا تكون متضمنة لموضوع محفوظ  حتى في حال وجود الشرط وعدمه،

ومثال ذلك ما يقال: إذا رزقت ولداً فأختنه، فإن هنا حكماً وهو وجوب الختان، كما أن هنا شرطاً وهو رزق الولد، لكنه لا يوجد موضوع ثابت في حالتي وجود الشرط وعدمه، لأن الموضوع هو نفس الشرط، فإن رزق الولد هو عين الولد، فلا يمكن تصور وجود الموضوع وهو الولد في حالتي تحقق الشرط، وهو رزق الولد وفي عدمه، فالشرط إذاً هو الذي يحقق لنا الموضوع، وما دام الأمر كذلك، فلا يكون للجملة الشرطية مفهوم، لأن الشرط لم يذكر من أجل إثبات المفهوم لها، وإنما كان ذكره فيها لأجل تحقق الموضوع. فيكون الشرط هو المحقق للموضوع.

ومثل ذلك قوله تعالى:- (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردنا تحصناً)، فإن المستفاد من الآية الشريفة عدم جواز إكراههن على ذلك إذا كن يرغبن في العفة والتحصن، ولا ريب أنه لا يحكم بجواز إكراههن على ذلك إن لم يردن تحصناً، ذلك لأنهن إذا لم يكن مريدين للتحصن، فلا حاجة لإكراههن على ذلك، فتكون سالبة بانتفاء الموضوع، وهذا يعني أنه لا يثبت لهذه الآية الشريفة أيضاً مفهوم للشرط، بل يكون الشرط لمذكور فيها سيق من أجل تحقق الموضوع.

ووفقاً لما تقدم، فالآية محل البحث والشرط المذكور فيها من أي القسمين، فهل هو من قبيل القسم الأول، أو أنه من قبيل القسم الثاني. فإن بني على أنه من قبيل الأول، كان مقتضى ذلك الالتـزام بثبوت المفهوم لها، وعليه لو كنا وظاهرها للزم البناء على وجوب طاعة الوالدين. وهذا بخلاف ما لو كانت من قبيل الثاني، فإنه لن يكون لها مفهوم، وبالتالي لن يستفاد منها وجوب الطاعة لهما.

وقد يتصور أن الآية من قبيل الأول، وبالتالي يكون لها مفهوم على أساس اشتمالها على موضوع ثابت سواء وجد الشرط أم لا، والموضوع المقصود بذلك هو الوالدان، فإن وجودهما ثابت سواء كان الشرط وهو المجاهدة موجوداً أم لم يكن موجوداً.

إلا أن الظاهر أن الموضوع في الآية الشريفة ليس الوالدان، بل الظاهر أن الموضوع فيها لو لم يكن هو خصوص المجاهدة، فلا ريب في كونه مركباً منها ومن الوالدين، وبالتالي لا يكون للموضوع وجود ما لم يوجد الشرط، وهذا يعني أن الشرط سوف يكون مسوقاً لتحقق الموضوع، وعليه لن يكون للآية الشريفة مفهوم، وبالتالي لن تكون دالة على وجوب طاعة الوالدين، كما لا يخفى.

نعم لو قيل لا ريب في لزوم مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف وفقاً لما تضمنته الآية المباركة، ومن أجلى مصاديق مصاحبتهما فيها كذلك طاعتهما، فيلزم الحكم بوجوبها، ربما كان له وجه، فتأمل.
على أنه لو قيل بثبوت المفهوم للآية الشريفة، لم يكن ذلك بعيداً، وتفصيل ذلك يطلب من خلال الرجوع للبحوث التخصصية، فتأمل.

ومنها: قوله تعالى:- (ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)[3].
ويجري في هذه الآية الشريفة جميع ما تقدم ذكره في الآية السابقة، ذلك أن الاستدلال بها على وجوب الطاعة سوف يكون من خلال الاستفادة من مفهوم الشرط، وقد عرفت أن الشرط المذكور فيها قد سيق لتحقق الموضوع، وليس له مفهوم، فلاحظ.

والمتحصل من خلال ما تقدم ذكره أن الآيات الشريفة لا دلالة لها بصورة جلية واضحة على لزوم طاعة الوالدين، بل إن أقصى ما يستفاد منها هو لزوم الإحسان إليهما، وأين هذا من وجوب طاعتهما، فتدبر.

 

[1] سورة الإسراء الآية رقم 23.
[2] سورة لقمان الآية رقم 15.
[3] سورة العنكبوت الآية رقم 8.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة