قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )[1].
إن الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلالها أن يكون أتم مصداق لخليفة الله سبحانه وتعالى ، ويستطيع الوصول إلى قمة العظمة والشرف من خلال اكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات فيسمو حتى على الملائكة .
وهذا الإستعداد المقترن بالحرية والإرادة والاختيار يعني أن الإنسان يقطع هذا الطريق بإرادته واختياره .
ومن المعلوم أن السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية وهي تذكر الله وتسبحه وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد إلا أن ذلك كله تكويني إجباري فليس فيها تكامل أو رقي .
والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحى صعوده ونزوله وهو قادر على ارتقاء قمة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ويقوم بكل الأعمال باختياره وإرادته هو الإنسان.
من هنا يمكن القول أن الأمانة المقصودة في الآية تعني القابلية للتكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والاختيار والوصول إلى مقام الإنسان الكامل.
وبعبارة أخرى إن الأمانة تعني التعهد والإلتزام وقبول المسؤولية والتكاليف الإلهية .
وعلى هذا يعرف أن التكليف تشريف من الله سبحانه وتكريم له لأنه يرمز إلى الميزة التي ميز الله الإنسان بها من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكم في غرائزه وقابلية لتحمل المسؤولية خلافا لغيره من أصناف الحيوان .
فمتى كان الإنسان مطيعا وممتثلا لأمر الله سبحانه ومؤديا حق هذا التشريف كرمه الله تعالى بجزيل الثواب .
وأما إن قصّر في ذلك وعصى كان جديرا بعقاب الله وسخطه لظلمه نفسه وجهله حق ربه وعدم أدائه حق الأمانة التي شرفه الله بها وميزه عن سائر المخلوقات .
فيجب شرعا على كل مقصر وعاصٍ أن يبادر إلى التوبة من المعصية وإن لم يفعل كان ذلك منه معصية أخرى .
وتتحقق التوبة منه بصدور الندم على ما وقع منه من خطأ وذنب وعليه أن يتخذ قرارا بالتحفظ وعدم تكرار ذلك في المستقبل
شروط التكليف :
ثم إن الفقهاء قد ذكروا للتكليف شروطا عامة فلنشر إليها :
الأول : أن يكون الإنسان بالغا:
فإن كان الإنسان صغيرا لم يتجه له التكليف . وقد حدد البلوغ بتقدير ورد من الشارع المقدس . ومعنى أن غير البالغ ليس بمكلف يعني أن جانب المسؤولية الأخروية والعقاب في الآخرة والإلزام من الأحكام الإلهية غير ثابتة في حقه فلا يعاقب على ارتكابه محرما أو تركه واجبا .
نعم ذلك لا يعني نفي المسؤولية عن وليه بالنسبة إلى تصرفاته بل هو مسؤول عنها فعليه توجيهه وإنزال العقاب به في حالات التأديب وعليه أن يقيه النار والتعرض لسخط الله عز وجل عند بلوغه بأن يهيئه قبل بلوغه للطاعة ويقربه نحو الله تعالى عملا بقوله تعالى ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد ([2].
نعم إذا بذل الولي وسعه وقدم جهده وأدى ما عليه في سبيل إرشاد ولده وإصلاحه ولم يفلح في حمله على الهدى والصلاح فلا ورز عليه من هذه الناحية .
هذا وإذا صدرت الطاعة من غير البالغ كانت مقبولة ومستحسنة فالعبادة الواقعة منه صحيحة إذا أديت بصورتها الكاملة فيستحب منه ما يجب على البالغ وما يندب إليه البالغ شرط أن لا تكون مضرة بحاله .
وقد وردت عندنا نصوص عن أهل البيت تشير إلى تعويد الصبي على الصلاة إذا أكمل سبع سنين فعن رسول الله أنه قال : مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين [3].
وتعويده على الصيام إذا أكمل تسع سنين ولو بأن يصوم قسطا من النهار فإن أجهده الصوم وغلبه العطش أو الجوع أفطر .
ثم إن إعفاء غير البالغ عن الإلزامات والتكاليف الشرعية لا يعني إعفائه نهائيا من التبعات الناجمة عن بعض التصرفات الصادرة منه كما لو تسبب في إتلاف مال شخص مثلا فيجب عليه تعويضه ، نعم يؤجل إلزامه بالتعويض والدفع إلى وقت بلوغه .
علامات البلوغ :
والبحث عن علاماته تختلف باختلاف المجال الذي يبحث عنها لأنه تارة يبحث عنه في علم الطب، وأخرى في الحقوق والقانون الوضعي، وثالثة في الفقه الإسلامي، ورابعة عند العرف وعامة الناس .
ويحتاج البحث عن كل واحد منها وإشباع الكلام فيه إلى إسهاب ونكتفي بإشارة موجزة فنقول :
يبحث عن البلوغ في الجانب العلمي والطبي من حيث عوارض البلوغ المختلفة من اشتداد العظم وغلظة الصوت وطول القامة ونمو الصدر في الرجل وظهور الثديين في المرأة وظهور الشعر في العانة إلى غير ذلك من العوارض الطبيعية التي تظهر عند بلوغ الذكر والأنثى وقد تعرض إلى هذا الجانب مفصلا علم وظائف الأعضاء .
وفي الجانب الحقوقي والقانوني يبحث عنه بما أنه مبدأ زوال الحجر عن الإنسان لأن غير البالغ محجور في تصرفاته عامة وإنما تكون نافذة ببلوغه ولذا بذلت جهود لمعرفة علامات البلوغ وعوارضه من هذه الزاوية .
وأما من الناحية الفقهية فالبحث فيه عنه لكونه مبدأ التكليف فغير البالغ مرفوع عنه القلم فهو إذن موضوع للأحكام التكليفية والوضعية وفي نفس الوقت هو أمر عرفي وله حقيقة لغوية عرفية يعرفها الناس مفهوما ومصداقا إلا أن الشارع مع إمضائه للمفهوم العرفي جعل له ضوابط وعلامات رفع بها الإبهام الذي يحوطه خصوصا وأن البلوغ ليست له حقيقة شرعية أو متشرعية .
هذا ويمكن تصنيف علامات البلوغ إلى صنفين :
الأول : ما يكون مشتركاً بين الذكر والأنثى .
الثاني : ما يكون مختصا بأحدهما دون الآخر .
أما الصنف الأول : فهو عبارة عن علامتين :
الأولى : الإحتلام وهو خروج المني من الموضع المتعارف بلا فرق بين كونه في حالة نوم أو يقظة .
ولا يبعد الإكتفاء بوجود القابلية والقدرة على الإحتلام متى ما أراد .
الثانية : نبات الشعر الخشن في منطقة العانة وهي المنطقة الواقعة ما بين نهاية البطن والعورة .
فلا يكفي نبات الشعر الناعم المعروف بالزغب .
وأما الصنف الثاني : فهو إكمال مرحلة زمنية معينة من العمر ويكون ذلك في الذكر ببلوغ خمسة عشر سنة هلالية وفي الأنثى بإكمالها تسع سنين هلالية .
الشرط الثاني من شروط التكليف : العقل :
ويراد منه وجود الرشد لمن يراد تكليفه بحيث يعي ويحس بالمسؤولية والتكليف فلا تكليف للمجنون والأبله غير المدرك للواضحات لبلاهته وقصور عقله .
ثم إن المجنون على قسمين :
1 – المجنون الإطباقي وهو الذي لا توجد له فترة إفاقة وإدراك لما حوله .
2 – المجنون الإدواري وهو الذي تكون له حالة يصبح فيها سويا ويدرك ما حوله.
ولا ريب في عدم تكليف الأول ، وأما الثاني فلا بد من ملاحظة حالته فإن كان في حالة الإفاقة كان مكلفا وإن كان في حالة الجنون رفع عنه التكليف .
ولو وجد إنسان يدرك ويعي بعض التكاليف دون البعض الآخر كان مكلفا بما يعيه ويسقط عنه تكليف ما لا يعيه .
الشرط الثالث : أن يكون قادرا :
فلا يجب على العاجز عن الإمتثال الإتيان بالتكاليف لكونه معذورا بلا فرق بين التكاليف أوامر كانت أم نواهي .
هذا وقد جعل بعض فقهائنا ” رض ” من شرائط التكليف العامة( الإسلام )وخالف آخرون فقالوا أنه ليس شرطا منها .
وعلى القول الثاني تكون التكاليف الشرعية المتجهة للمسلم متجهة للكافر أيضا باستثناء وجوب قضاء الصلاة والصوم لأنه مخاطب بها في أوقاتها وغير مخاطب بقضائها .
أما على القول الأول فلا يتجه التكليف له أصلا من البداية .
هذا كله في الفروع وأما الأصول فلا خلاف بين علمائنا في كونه مكلفا بها .
——————————————————————————–
[1] سورة الأحزاب الآية رقم 72.
[2] سورة التحريم الآية رقم 6 .
[3] مستدرك الوسائل ج 1 ص 171 . ط قديم .