الإمام الحسين(ع) بين العِبرة والعَبرة
مع حلول موسم عاشوراء يكثر الحديث عادة حول تحديد ما هو الأصل الموضوعي والأساس في النهضة الحسينية المباركة، وأنه خصوص البكاء فتكون بقية الجوانب الأخرى من الحديث حول المواعظ والمعارف وبقية الأمور أموراً ثانوية، وعليه يلزم التركيز على هذا الأصل المذكور دونها، أو أن الأصل في ذلك هو النهضة بالأمة وإيقاظها من سباتها وغفلتها ولا يكون ذلك إلا من خلال رفع مستوى الوعي عندها بطرح المعارف والمفاهيم الفكرية والمعرفية، وهذا يجعل الدور العاطفي المتمثل في البكاء أمراً ثانوياً، وليس أمراً أساسياً.
إن تحديد ذلك يعتمد اعتماداً أساسياً على كيفية قراءة النهضة الحسينية المباركة، وذلك من خلال قراءة أهدافها التي قامت من أجلها وتحديد الهدف المنشود من القيام للوصول إليه.
وحتى يتضح ذلك نشير لبعض القراءات التي ذكرت شرحاً وبياناً للنهضة المباركة من خلال عرض الأهداف والدوافع التي قامت من أجلها، كي ما نرى أن الأصل فيها هو العِبرة، أم أنه العَبرة.
ومن الطبيعي أننا لن نتعرض للتفسيرات التي قدمها الحكام في عصر الإمام(ع)، ولا بعض المستشرقين ولا بعض المسلمين أيضاً، مثل الدافع القبلي العشائري، والدوافع الشخصية، والمزاجية، وما شابه ذلك. لأنها تفسيرات باطلة لا تنسجم مع ما نعتقده في الإمام الحسين(ع)، مضافاً لكونها تفسيرات نشأت من أغراض وأمراض من أجل الحد من أهداف النهضة وعطاءتها.
وعلى أي حال، فأهم ما هو موجود عندنا من النظريات الصحيحة في حد نفسها التالي:
الأولى: نظرية طلب الشهادة:
وقد لا يجد المستمع من يقول بها اليوم في كلمات الكتّاب والباحثين[1]. نعم ذكر العلامة شرف الدين(قده) في كتابه المجالس الفاخرة خمسة وثلاثين دليلاً عليها، وذكر في الأعيان السيد الأمين(ره)، حدود عشرين دليل عليها، ومن المعاصرين ذكر المرجع الديني الكبير الأستاذ الشيخ لطف الله الصافي(قده) ثلاثة وثلاثين دليلاً عليها.
وعلى أي حال، فقد قدمت تفسيرات أربعة لطلب الإمام(ع) الشهادة، ولكل منها قائل:
الأول: الشهادة التكليفية:
وقد اعتمد هذا التفسير على النصوص، وأشهرها روايتان:
الأولى: ما جاء في الكافي عن الإمام الصادق(ع)، والتي تفيد أن هناك مسؤولية على كل إمام، قال(ع): فلما توفي الحسن(ع)، ومضى فتح الحسين(ع) الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل، وأخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك.
الثانية: ما تضمن رؤياه(ع) سواء كان في المدينة المنورة، أم حال خروجه من مكة المكرمة إلى الكوفة.
ووفقاً لهذه النصوص بنى بعضهم على أن النهضة الحسينية المباركة تكليف شخصي، وأمر خاص قد أُمر به(ع) حسب برنامج قد أعد مسبقاً، وقد خطط لذلك كله في عالم الغيب، وأن يد الغيب هي التي كتبت تفاصيلها، ونفذها الإمام(ع)، ولا يمكن لأحد الاقتداء به، لأنها حالة استثنائية، وليست قاعدة عامة.
الثانية: شهيد الفداء:
وهي تشابه نوعاً ما النظرية المسيحية بشأن صلب المسيح(ع)، فكما أنه(ع) ارتضى أن يصلب حتى يفتدي البشر من ذنوبهم، فقد استشهد الإمام الحسين(ع) حتى يطهر الأمة من ذنوبها ويكون شفيعها.
وليس في النصوص ما يشير لهذه النظرية ويدل عليها من قريب أو بعيد.
الثالثة: الشهادة السياسية:
وهي أشهر تفسير لنهضته المباركة، وعادة ما تذكر في كلمات الكتّاب والباحثين، ومفادها أن الإمام الحسين(ع) وجد نفسه مقتولاً إذا لم يبايع ومقتولاً إذا بايع، لكنه إن بايع اشترى مع قتله قتل مجده، وقتل آثار جده، أما إذا بايع فإنما هي قتلة واحدة تحيى بها الأمة، وشعار الدين، والشرافة الخالدة.
الرابعة: الشهادة الأسطورية:
وهي التي تقرر أن شهادة الإمام الحسين(ع) أسطورة يمتد تأثيرها من الزمان الخطي المتناهي إلى دائرة الزمان اللامتناهي. ولم يقدم القائل بهذا التفسير دليلاً على كلامه.
وكيف ما كان، لو بني على أي واحد من التفسيرات الأربعة للنظرية الأولى، أعني نظرية طلب الشهادة، فإنه سوف يكون الأصل الموضوعي فيها هو البكاء، وتكون له الموقعية الأولى. وأما المحاضرة وما تحويه من موعظة وفكر وثقافة وتربية وتوجيه وعلاج للشبهات الفكرية والعقدية والمعرفية، سوف تكون أمراً ثانوياً، وليس أمراً أساسياً، ولذا لا ينبغي أن تؤثر على الأمر الأولي وهو البكاء.
ووفقاً لهذه النظرية، سوف تبقى نصوص البكاء على ظاهرها دون حاجة إلى ملاحظة القرائن الحالية أو المقالية. وتجد لهذه النظرية حضوراً عملياً عند كثير من المؤمنين، بل بين طلبة العلم وخطباء المنبر، وقد تجد لها حضوراً أيضاً عند بعض العلماء والمفكرين.
النظرية الثانية: النظرية السياسية:
وذلك بإقامة الدولة، وهي مختار كبار علماء الطائفة، كالمفيد، والمرتضى(ره)، وجملة من أعلامنا المعاصرين، ومفادها أن الإمام الحسين(ع) قد ثار من أجل إقامة الحكم، وقد تبلورت هذه الرؤية بعدما أخبره سفيره مسلم بن عقيل(ع)، بموقف أهل الكوفة، واستعدادهم لنصرته، فخرج قاصداً إليها بهدف إقامة الحكم الإسلامي، وإحياء سنة جده المصطفى رسول الله(ص).
ومن المدافعين عن هذه النظرية الشيخ الصالحي النجف آبادي في كتابه الشهيد الخالد، وهذا المعنى هو الظاهر من كلام غير واحد من علماء المسلمين.
ومن أبرز الفروق بين هذه النظرية وسابقتها في كونها بشرية ناجمة عن تخطيط بشري، وليس له علاقة بالموضوع الغيبي. كما أنها تصلح أن تشكل قاعدة عامة يقتدى بها ويسار على وفقها، بخلاف النظرية السابقة.
ولا ريب أن الرؤية السياسية للنهضة تعطي رؤية إصلاحية، فإن لم يبن على الخصوصية السياسة، بل تعدي إلى كل ما يكون محققاً للغرض وهو الاصلاح، أمكن البناء على أن الأصل الموضوعي هو المحاضرة التي تؤدي إلى حصول الاصلاح والتغيـير، وسوف يكون البكاء عندها أمراً ثانوياً، وليس أمراً أولياً أصلياً. بل لو بني على عدم التعدي واختصاص الأمر بالحركة السياسية، فإنه يلتـزم بأن البكاء أصل ثانوي، وليس أصلاً موضوعياً، وذلك لأن كل مكلفٍ، مكلفٌ بإقامة حكم الله في الأرض، كما هو مكلف بالإتيان بالواجبات العبادية، بل لهذا التكليف أولوية على بقية التكاليف الأخرى، وهو مطالب بتطبيق مبادئ الاسلام، ومن الطبيعي أن المحاضرات المعرفية هي السبيل لمثل هكذا أمر في ذهن المتلقي لمعرفة ما هو الواجب عليه، وتحديد وظيفته.
نعم لو أبيت، وقلت بأن إقامة الدولة من الأمور المختصة بالإمام المعصوم(ع)، فعندها يصعب تحديد ما هو الأصل الأولي وأنه البكاء أو الموضوع. نعم قد يكون تقديم البكاء بلحاظ بعده العاطفي المترتب في كل مورد قد حصل فيه فقدان لعزيز، فما بالك والمفقود هو الإمام المعصوم(ع)، لكن يبقى الجزم بذلك صعباً.
النظرية الثالثة: نظرية المحافظة على النفس:
وقد تبناها آية الله الاشتهادري، ومفادها أنه(ع) كان غرضه من الخروج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ومن ثمّ الخروج منها إلى العراق، هو الحفاظ على النفس، ولم يكن غرضه من ذلك الخروج والثورة ومحاربة الأعداء، ولا إقامة دولة إسلامية عادلة.
وما ذكر في شأن النظرية الثانية يجري أيضاً في هذه النظرية، إذ يصعب تحديد ما هو الأصل الأولي في البين، وأنه البكاء، أو أنه الموعظة والمعرفة.
النظرية الرابعة: الاصلاح الديني:
وهي موجودة في كلمات العديد من الأعلام والباحثين، والكتّاب والمفكرين، كالسيد الشهيد السعيد الصدر(ره)، والشهيد السيد محمد باقر الحكيم(رض)، وقد تنسب أيضاً للشهيد المطهري(ره)، ويمكن عرض تفسيرات لها:
الأول: ايقاظ ضمير الأمة وإحياء إرادتها:
وهو الذي يظهر من كلام الشهيدين السعيدين الباقرين، الصدر والحكيم(رض)، والأستاذ السيد الهاشمي الشاهرودي(ره)، وحاصله: إيقاظ ضمير الأمة، وإحياء إرادتها، فقد ابتليت الأمة بموت ضميرها، وفقدان إرادتها، فاستدعى ذلك الحاجة إلى القيام بعمل يوجب إيقاظ الضمير، وإحياء الارادة، وكان السبيل إلى ذلك هو حصول الشهادة الحسينية.
الثاني: ممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويمكن عرض معنى ثالث لهذه النظرية وهو الاصلاح بحسب المعنى اللغوي، والذي يكون مقابل الفساد.
وعلى أي حال، لو بني على أي واحد من التفسيرات لهذه النظرية، فإن الأصل الأولي سوف يكون للموعظة والفكر والثقافة، وليس للدمعة والبكاء، إذ لا ريب أن الاصلاح لن يكون متحققاً من خلالها، وهذا سوف يجعل الدمعة عندها أمراً ثانوياً، وليست أمراً أولياً.
النظرية الخامسة: نظرية الجمع:
وهي التي تعمل على التوفيق بين نظرية إقامة الدولة الاسلامية، وطلب الشهادة، وهي مقتضى الجمع بين النصوص الصادرة عن الإمام الحسين(ع) وخطبه الكثيرة، وكتبه، والظاهرة في السعي لإقامة الدولة الإسلامية، والنصوص الصادرة عن رسول الله(ص)، والأئمة(ع) من بعده والمتضمنة الإخبار عن شهادة الإمام الحسين(ع)ن وقد عرضت عملية الجميع بأساليب:
أحدها: ما يبدو من كلام الشهيد المطهري(ره)، من أن هدف الإمام الحسين(ع) كان على مراحل، فقد كان يهدف في المرحلة الأولى إلى إقامة الحكم، لكن أصبح هدفه بعد خبر شهادة مسلم بن عقيل(ع) هو الشهادة.
ثانيها: ما أختاره العلامة العسكري(ره) من أن هناك هدفاً مباشراً للإمام(ع)، وهو الشهادة، وهدفاً غير مباشر وهو ثورة الناس على حكومة يزيد.
ثالثها: التفريق بين الأمر الظاهري والواقعي، فقد كان في الظاهر يطلب إقامة الحكم، لكنه في الواقع كان يطلب الشهادة.
ولا يخفى أن النتيجة سوف تختلف وفقاً لكل واحد من هذه التفسيرات، فإنه لو بني على الثاني والثالث منها، فلا ريب سوف يكون الأصل الموضوعي هو البكاء، وسوف تكون المحاضرة أصلاً ثانوياً، بخلاف ما لو بني على التفسير الأول، فإنه لابد من الالتـزام بمطلوبية كليهما معاً، ولا يمكن الاقتصار على أحدهما دون الآخر، ولابد من إعطاء كل منهما حقه بما يكون محققاً لوجوده فعلاً دون التأثير على الآخر.
وقد تحصل من جميع ما تقدم، أن كل من يريد أن يجعل الأصل في النهضة الحسينية المباركة، هو العَبرة، أو العِبرة، يلزمه بداية أن يحدد رؤيته للنهضة من خلال تحديد الهدف الذي قامت من أجله.
إن قلت: ماذا تصنع مع روايات البكاء المتكثرة.
قلت: وفقاً لما تقدم، سوف يلتـزم ببقاء دلالتها على استحباب البكاء استحباباً مؤكداً، وعلى عبادية البكاء ومطلوبيته. نعم هل هو الأصل، أو لا، وهذا ما قد عرفته وفقاً لكل نظرية طبقاً لاختيارها.
……………………………….
[1] بعد إلقاء هذه المحاضرة وقفت على قائل بها من أعلامنا المعاصرين اليوم، وهو المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم(ره) في كتابه القيم واقعة الطف.











