تضمين الأرض دم الحسين(ع)
لا ريب في كون الإمام الحسين(ع) هو سفير الله تعالى في أرضه، وخليفته على أهلها، وفق ما قام عليه الدليل، لأن خلافة الله تعالى في الأرض لم تنقطع بانقطاع الرسالة المحمدية، والرسول، بل بقيت متجسدة في الإمامة من ذرية إبراهيم الخليل(ع)، والتي أشار إليها سبحانه بقوله:- (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)، وقد تضمنت النصوص الواردة عن المعصومين(ع) تحديد المقصود بالظالمين في الآية الشريفة.
وقد بيّن رسول الله(ص) والأئمة(ع) أنه(ص) والأئمة(ع) من ولده هم الذين ثبتت الإمامة فيهم، لأنهم لم يسجدوا لصنم طوال حياتهم قط، كما أنهم لم يظلموا أحداً قط، فقد روى عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله(ص): أنا دعوة أبي إبراهيم، فقلنا: يا رسول الله، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً؟ فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يا رب، ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عز وجل إليه: أن يا إبراهيم، إني لا أعطي عهداً لا أفي لك به. قال: يا رب، ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطي لظالم من ذريتك. قال: يا رب، ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصح أن يكون إماماً. قال إبراهيم: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس. قال النبي(ص): فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي علي لم يسجد أحد منا لصنم قط، فاتخذني الله نبياً، وعلياً وصياً. وقد بقيت الامامة بعدهما(ع) في أهل البيت(ع) إلى يوم القيامة، وبذلك وردت النصوص الشريفة.
وهو من الذين أمر الله تعالى بمودتهم في قوله تعالى:- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، ولا تكون المودة إلا من خلال تمام الموالاة والمتابعة المطلقة والاقتداء التام.
ووفقاً لما تقدم من أن الإمام الحسين(ع) خليفة الله تعالى في أرضه وسفيره إلى خلقه الذي أمر بمودته، وهو ثالث أوصياء النبي الأكرم محمد(ص)، سوف تكون الأمة مسؤولة عن حمايته ورعايته وطاعته ومتابعته.
من هنا يتضح أن دم الإمام الحسين(ع) مسؤولية الأرض ومن عليها من إنس وجن، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام الصادق(ع) في الزيارة بقوله: ضمّن الله الأرض ومن عليها دمك وثارك يا ابن رسول الله. وهذا يجرنا إلى سؤال: ما هو المقصود من التضمين الوارد ذكره في الزيارة، وما هو معنى الضمان؟ إن الوقوف على ذلك يحتاج الإحاطة بالمقصود من مفهوم التضمن الوارد في الزيارة الشريفة.
التضمين في كلمات أهل اللغة:
عند العودة إلى كلمات أهل اللغة للإحاطة بالمقصود من مفردة(ضمّن)، نجدها تشتمل على محتملات أربعة:
الأول: أن يكون التضمين بمعنى الايداع، وهذا المعنى هو الذي ذكرته المصادر اللغوية لمفردة التضمين، فتضمينك شيئاً يعني إيداعك إياه، ويكون ذلك في وعاء مثلاً.
وعليه، سوف يكون المعنى أن الله سبحانه قد أودع دم الإمام الحسين(ع) الأرض والأمة، ومن الواضح أن هذا الايداع يكشف عن مسؤولية مجعولة من قبل المضمّن للمضمن.
الثاني: أن يكون المقصود منه الالزام، وذلك لأن التضمين وإن كان بمعنى الايداع إلا أن المضمن لا يقصد مجرد الايداع والاحتفاظ، بل هو يريد شيئاً آخر يتمثل في كون المضمن ملزماً بحفظ الشيء الذي قد أودع عنه، وهذا المعنى أشير إليه في كلمات بعض اللغويـين، قال: وضمنته المال، أي ألزمته إياه. ويقال عادة: ضمنت الأمر الفلاني، يعني التـزمت به.
الثالث: أن يكون المقصود منه الكفالة، فلا يكتفى في التضمين بمجرد الايداع، ولا بمجرد الايداع مع الالتـزام، بل يضاف إلى ذلك الكفالة ليكون المقصود من التضمين كفالة ما ضمن، وهذا المعنى ذكره في لسان العرب، قال: وضمنه إياه، كفّله.
الرابع: أن يكون المقصود منه هو التغريم، وهو مترتب على ما تقدم ذكره، ذلك أنه متى أودع شخص شيئاً عند شخص آخر، كان الشخص المستودع ملزماً بحفظ ما قد أودع عنده، وكافلاً له، فإذا فرطت في تلك الوديعة والكفالة صار غارماً له.
والذي يمكن استشرافه من خلال المعاني اللغوية الأربعة لمفردة التضمين هو دلالتها على أن الكلمة تعني المسؤولية التي ألقيت بعهدة الضامن، وقد ألتـزم بذلك، ومتى فرط في ذلك كان مسؤولاً عن هذا التفريط، وهذا يعني أن الأرض ومن عليها ضامنة لحياة الإمام الحسين(ع)، والأخذ بثأره.
كلام العلامة المجلسي:
وبعد الإحاطة بما ذكره علماء اللغة حول مفردة التضمين التي وردت في لسان الإمام الصادق(ع)، نشير لما أفاده العلامة المجلسي(قده) في موسوعته البحار من محتملات في المقصود من المفردة المذكورة غير ما ذكره علماء اللغة:
الاحتمال الأول: أن يكون التعبير الصادر من الإمام الصادق(ع) على سبيل المبالغة والمجاز، فيكون كناية عن تعظيم الأمر وتفخيمه، فيكون معنى تضمين الأرض ومن عليها دم الإمام الحسين(ع)، هو الإشارة إلى تعظيم شأن الإمام الحسين(ع)، وتفخيم أمره(ع).
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من ذلك أن الله تعالى يأمر الأرض في القبر بتعذيب قاتليه، وفي الرجعة يأمرها سبحانه وتعالى بخسفهم وغير ذلك.
الاحتمال الثالث: أنه تعالى قد أودع الأرض أجساد قاتليه حتى ينتقم له(ع) منهم في الرجعة وفي القيامة.
الاحتمال الرابع: أن تضمين الله تعالى الأرض دمه، لأنه تعالى قد خرب الأرض بعد شهادته، فسفكت فيها الدماء، وقد قتل الله قاتليه وأشباههم بأيدي من خرج بعده، فكأنه ضمّن الأرض دمه حيث جرى انتقامه عليها[1].
ومع حسن المحتملات التي تضمنتها كلمات الشيخ المجلسي(ره) إلا أنه يصعب الالتـزام بها، ذلك أن الأول منها وهو الحمل على المبالغة والمجاز خلاف الأصل في المحاورات العرفية من حملها على الحقيقة، وأما بقيت المحتملات الأخرى فإنها تفتقر لشاهد يدل عليها، ومع عدمه فإنه يصعب القبول بها.
من هنا استقرب ما استشرفناه من كلمات أهل اللغة من أن المقصود من التضمين الذي يتحدث عنه الإمام الصادق(ع) هو عبارة عن المسؤولية الملقاة على عاتق الأمة تجاه دم الإمام الحسين(ع).
مسؤولية الشيعة تجاه تضمين دم الامام الحسين:
وتختلف مسؤولية الأمة تجاه دم الإمام الحسين(ع)، فليس الجميع على حد سواء، فقتلة الإمام الحسين(ع) لهم مسؤولية، وشيعة الإمام الحسين(ع) لهم مسؤولية أخرى.
وتتمثل مسؤولية شيعة الإمام الحسين(ع) في الاستمرار على المشروع الحسيني الذي قام أبو عبد الله(ع) به، وهو الذي يتمثل في إحياء الدين وتثبيت معالمه، ويتلخص ذلك في كلمته(ع) المعروفة: إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. وقال(ع): وعلى الاسلام السلام. وهو بهذا التعبير يشير إلى أن الاسلام كان معرضاً إلى الاندثار، وطيه في مطاوي النسيان.
والحاصل، إن معالم الدين التي جاهد الإمام الحسين(ع) من أجلها ثلاث:
الأولى: العقيدة، وهي أصول الدين المعروفة، مثل التوحيد، والعدل، والنبوة والإمامة والمعاد، وكل ما يتعلق بها.
الثانية: الشريعة، والتي تمثل المعارف المتعلقة بفروع الدين والأحكام المرتبطة بها، كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وغيرها.
الثالث: مكارم الأخلاق والتي كانت العنوان الأكمل والأتم لأهداف رسول الله(ص)، والتي عبر عنها(ص)، بقوله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
ووفقاً لما تقدم، يكون الواجب على كل شيعي تجاه الإمام الحسين(ع)، هو تحقيق المعالم الثلاثة من خلال الاعتقاد الصحيح، والالتـزام بأحكام الشريعة من حلال وحرام، والعمل وفق مكارم الأخلاق.
وعليه، متى ما فرط واحد من الشيعة في شيء من هذه المعالم الثلاثة، كما لو خالف في تطبيق الشريعة مثلاً، أو أعرض عن مكارم الأخلاق، فإنه يكون مسؤولاً وضامناً لدم الإمام الحسين(ع)[2].
………………………………….
[1] بحار الأنوار ج 89 ص 170.
[2] الإمام الحسين(ع) مسؤولية الأمة ص 542-572(بتصرف).











