19 أبريل,2024

الاجتهاد النبوي(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

الاجتهاد النبوي(2)

 

آية الأسرى:

ومنها: قوله تعالى:- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الحياة الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)[1]، ويقوم الاستدلال بها على ما تضمنته بعض المصادر الحديثية والتفسيرية من سبب نزول إليها، فقد ورد فيها، أن النبي(ص) بعد غزوة بدر أتي بسبعين أسيراً، فيهم العباس عمه، وعقيل بن أبي طالب، فاستشار أبا بكر فيهم، فقال: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها على أصحابك، فقام عمر وقال: كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب اعناقهم، فإن هؤلاء أثمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، فمكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان، ينسب له، فنضرب أعناقهم، فقال(ص): إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد  قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم:- (قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) ، ومثل عيسى في قوله:- (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك العزيز الحكيم) ، ومثلك يا عمر مثل نوح:- (قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) ، ومثل موسى حيث قال:- (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، ومال رسول الله(ص) إلى قول أبي بكر، وترك اقتراح عمر، ونزلت الآية تدعم اقتراح عمر على رأي أبي بكر.

وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت هذه الآية، فدخل عمر على رسول الله(ص) فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله، أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة-لشجرة قريبة منه-ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر، وسعد بن معاذ[2].

 

وتقريب دلالتها وفقاً لما تضمنه سبب نزولها، أنه بعد الانتهاء من غزوة بدر وحصول الظفر للمسلمين، وقع في أيديهم أسرى من المشركين، فوقع الخلاف بين المسلمين في مصيرهم، وكان هناك رأيان:

1-قتلهم جميعاً، وعدم إبقاء أحد منهم على قيد الحياة.

 

2-ابقاؤهم أحياء مقابل فداء يدفعونه، بأن يفدي كل واحد منهم نفسه بمبلغ من المال.

وقد أختار رسول الله(ص) الثاني منهما، ومن الواضح أن هذا الترجيح منه(ص) لهذا الرأي لم يكن وحياً نازلاً عليه من السماء، وإنما كان اجتهاداً منه(ص) في الترجيح، فيثبت المطلوب من دلالة الآية الشريفة على وقوع الاجتهاد النبوي، وليس مجرد إمكانه، بل يدل هذا الخبر على وقوع الخطأ منه(ص) في ترجيحه لرأي أبي بكر.

 

منع دلالة الآية:

وربما منعت دلالة الآية الشريفة على المدعى، على أساس أن الدليل أخص من المدعى، ذلك أن المطلوب إثباته هو إمكان الاجتهادي النبوي مطلقاً، في الأحكام والموضوعات، والأمور الجزئية، وليس في دائرة خاصة معينة، والآية إنما تدل على تحقق الاجتهاد منه(ص) في خصوص الأمور المرتبطة بالحروب بمقتضى سبب النـزول الذي استند إليه في بيان دلالتها، وليس مطلقاً.

ويجاب عنه، بأنه على فرض التسليم بحصر ظهور دلالة الآية الشريفة بمقتضى سبب نزولها في خصوص الشؤون المرتبطة بالحروب، فإنه لا مانع من البناء على ثبوت الاجتهاد النبوي في هذا المقدار، فيلتـزم بالتفصيل بين العناوين الواردة في دائرة اجتهاده(ص)، وقد عرفت في عرض الأقوال وجود قائل بهذا القول.

 

على أنه يمكن المنع من حصر دلالة الشريفة في خصوص ذلك لأمرين:

الأول: أن المورد لا يخصص الوارد، وحصر دلالة الآية الشريفة في خصوص الشؤون الحربية خلاف هذه القاعدة، لأنه نشأ من الاستناد إلى سبب النـزول، وهو يعني أن المورد قد خصص الوارد.

الثاني: الالتـزام بعدم الفصل بين الموارد المرتبطة بالنبي الأكرم محمد(ص)، وأنها كلها على حد سواء، فمتى جرى الإمكان للاجتهاد النبوي في شيء منها، ثبت ذلك في البقية لعدم الفصل بينها.

وبكلمة ثانية، إنه لا خصوصية لحصول الاجتهاد من النبي الأكرم محمد(ص) في شؤون الحرب والقتال دون بقية الموارد الأخرى، ما يجعل الحكم في الجميع واحداً، وهو الإمكان، بل الوقوع.

من هنا لم يجد المدّعون لإمكان الاجتهاد النبوي مانعاً من البناء على تمامية دلالة الآية الشريفة على المدعى، والاستناد إليها.

 

وقفة مع دلالة الآية الشريفة:

ولمنع دلالة المذكورة على المدعى مجال واسع، ذلك أنه يلاحظ عليها أمور:

الأول: قد عرفت قيام الاستدلال بها على ملاحظة سبب نزولها، ليكون بمثابة القرينة المبينة لمدلولها وتحديد المقصود منها، ومن المصادر الروائية التي ورد فيها صحيح مسلم، وسنن الترمذي، وهذا الخبر وإن صح عند علماء المسلمين، بملاحظة بعض طرقه ومصادره، إلا أنه لا يصلح للاحتجاج به عندنا، للبناء على ضعفه سنداً، وسقوطه عن الاعتبار والحجية، وهذا مانع من الاعتماد عليه، ليكون قرينة مساعدة على الاستدلال.

 

الثاني: بعد الفراغ عن عدم صلاحية سبب النـزول للقرينية، فسوف يعمد لملاحظة مدلول الآية الشريفة من الناحية القرآنية مجرداً عن أي شيء آخر، وذلك بالنظر إلى مادتها في نفسها، وهو ينفي دلالتها على المدعى من قريب أو بعيد، فضلاً عن وقوعه، لأن مفاد الآية الشريفة أنها بصدد بيان حكم عام وهو التأكيد على ما كان موجوداً عند الأنبياء السابقين(ع)، من عدم وجود أسرى عند أحد منهم حتى يخوض غمار الحرب، ويتمكن من أعدائه، وهذا لا ربط له بمسألة الاجتهاد النبوي أصلاً.

قال العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان:

فالذي ينبغي أن يقال: إن قوله تعالى:- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، أن السنة الجارية في الأنبياء الماضين(ع) أنهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكلونهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم فيكفوا عن محادة الله ورسوله، وكانوا لا يأخذون اسرى حتى يثخنوا في الأرض، ويستقر دينهم بين الناس، فلا مانع بعد ذلك من الأسر ثم المنّ أو الفداء كما قال تعالى فيما يوحى إلى نبيه(ص) بعدما علا أمر الإسلام واستقر في الحجاز واليمن:- (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثـخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بع وإما فداء)[3].

 

والعتاب على ما يهدي إليه سياق الكلام في الآية الأولى إنما هو على أخذهم الأسرى كما يشهد به أيضاً قوله في الآية الثانية:- (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) أي في أخذكم، وإنما كانوا أخذوا عند نزول الآيات الأسرى دون الفداء، وليس العتاب على استباحة الفداء أو أخذه كما احتمل[4].

 

الثالث: إن موضوع الآية الشريفة أجنبي تماماً عما يراد إثباته، فإن موضوعها عبارة عن تقريع منه سبحانه وتعالى لبعض المسلمين على سلوكهم وطريقة تفكيرهم، وبيان خطأ ذلك، فقد كان همهم الأساس هو كيفية الحصول على أكبر قدر ممكن من الأسرى، لأن العادة كانت قاضية أن يدفع الأسير مبلغاً من المال على شكل الفدية ليتم الإفراج عنه بعد نهاية الحرب، وهذا وإن كان عملاً حسناً في بعض المواقع، إلا أنه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملاً، لأن الانشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إلى مكان آمن، يـبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي كانت من أجله الحرب، بل ربما أعطى العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه، كما حدث في غزوة أحد، حيث شغل المسلمون أنفسهم بجمع الغنائم فاستغل العدو هذه الفرصة، فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.

 

ولهذا جاءت الآية الشريفة تأنب وتقرع هؤلاء وتذم طريقة تفكيرهم، وتشير إلى أن العمد إلى أخذ الأسرى يكون بعد تحقق التفوق التام على العدو وإظهار القدرة والقوة، وإحكام السيطرة كاملة.

ووفقاً لهذا لن تكون الآية المباركة منافية لأخذ الفداء وإطلاق الأسرى متى اقتضت مصلحة المجتمع الإسلامي ذلك.

كما أنه طبقاً لهذا البيان لمدلول الآية الشريفة سوف يكون التقريع والتعنيف الوارد ذكرها فيها منصباً على تلك الفئة من المسلمين وليس رسول الله(ص) منهم[5].

الرابع: إنه لو رفعت اليد عن الأمور الثلاثة المتقدمة، وبني على سلامة دلالة الآية الشريفة منها، فإن أقصى ما يستفاد منها جواز الاجتهاد النبوي، وليس وجوبه، والظاهر من القائلين بمشروعية تعبد الله تعالى نبيه(ص) بالاجتهاد، وجوبه، فتأمل.

 

قصة زينب بنت جحش:

ومنها: قوله تعالى:- (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً)[6]، وتقرب دلالتها على المدعى بلحاظ أن هناك أمراً إلهياً صادراً من الله سبحانه وتعالى لزيد بن حارثة، كان مطلوباً من رسول الله(ص) القيام بإبلاغه إياه، لكن رسول الله(ص) رأي غير ذلك، ولم يـبلغ زيداً الأمر الإلهي، فأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يفصح عن ذلك الأمر، فجاءت الآية الشريفة لتفصح عنه، وتشير إليه.

ومن الواضح، أن عدم قيام رسول الله(ص) بإبلاغ زيد الأمر الإلهي كان ناجماً جراء اجتهاد نبوي صادر عن رسول الله(ص)، فتكون الآية دالة على المطلوب.

ولا يذهب عليك، أن الآية الشريفة لن تكون دالة على إمكان حصول الاجتهاد النبوي فقط، بل سوف تكون دالة على أمور ثلاثة:

أولها: إمكان الاجتهاد النبوي، ومشروعيته.

ثانيها: وقوع الاجتهاد منه(ص) خارجاً.

ثالثها: إمكانية الخطأ في الاجتهاد الصادر منه(ص).

والصحيح أن الآية الشريفة أجنبية عن المدعى، لأن دلالتها على ذلك تقوم على أن يكون الفعل الحاصل فيها قد صدر منه(ص) ابتداءً حتى يصح وصفه بالاجتهاد، وليس الأمر كذلك، لأن الفعل الواقع فيها هو امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى وتنفيذاً لما صدر منه، وهو نحو من أنحاء الولاية التشريعية[7] التي لرسول الله(ص)، فقد زوج زينب بنت جحش من غلامه ودعيه زيد بن حارثة بأمره الولائي التشريعي، وبعدما طلقها زيد تزوجها رسول الله(ص) أيضاً بأمره الولائي، فهنا أمران ولائيان له(ص)، توضيح ذلك:

لقد كان غرض رسول الله(ص) من تزويج زيد بن حارثة من ابنة عمته زينب بنت جحش إلغاء تلك الفوارق الطبقية والاجتماعية التي كانت تقيّم الإنسان حسب حسبه ونسبه وأمواله، وليحل مكانها ميزان التفاضل الإسلامي، وهو الإيمان والتقوى:- (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وما لم يبدأ رسول الله(ص) بنفسه وبالقرابة له لن يتغير الحال، ولذا أعمل أمره الولائي وقام بتزويج زينب أبنة عمته من غلامه ومتبنيه زيد، ليضع المعيار الصحيح بطريقة عملية واقعية.

ولم يكتب لهذا الزواج النجاح والاستقرار والاستمرار بسبب عوامل متعددة، قد يكون أحدها فقدان المجتمع للمعنى العميق الذي أراده النبي(ص) من خلال هذا العمل، فبرز الفارق النسبي والحسبي والمالي على السطح، ما أوجب وقوع الطلاق والانفصال.

وهنا جاء الأمر الولائي التشريعي الثاني الذي على رسول الله(ص) تنفيذه في هذا الموضوع وهو زواجه من زينب حتى يبطل عادة جاهلية أخرى، كانت موجودة وهي معاملة زوجة الأبن بالتبني معاملة زوجة الأبن الحقيقي، فكما لا يجوز نكاح زوجة ابنه حقيقة، كذلك لا يجوز له نكاح زوجة ابنه بالتبني.

ومن هنا يتضح أن كلا الزواجين كانا بأمر من الله سبحانه وتعالى، وإعمالاً لولاية رسول الله(ص) التشريعية، قال تعالى:– (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

هذا وتوجد جملة من الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام حول هذه الآية الشريفة، وعمدوا من خلالها إلى الإساءة إلى شخص رسول الله(ص)، وإبرازه بصورة غير لائقة أبداً، نعرض عن ذكرها، لأنها غير مربوطة بمحل البحث، ونحيلها إلى بحث التفسير.

وقد تمسك بالآية أيضاً المخطئة، وعدوها واحداً من الأدلة التي يثبت من خلالها عدم عصمة النبي(ص)، وبيان ضعف هذا القول، ومنعه، أيضاً نحيله إلى بحث التفسير.

……………………………………………..

 

 

[1] سورة الأنفال الآية رقم 67.

[2] التفسير الكبير ج 8 ص 204.

[3] سورة محمد الآية رقم 4.

[4] الميزان ج 9 ص 135-136.

[5] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 5 ص 448.

[6] سورة الأحزاب الآية رقم

[7] والمقصود من الولاية التشريعية في المقام هو أحد المعنيـين المذكورين إليها، وهو أن لا يكون لأحد من المسلمين إرادة أو قراراً ورأياً بعد رأي رسول الله(ص)، بل تكون إرادته(ص) مقدمة على جميع الإرادات الأخرى.