ذكورية الشريعة, ضرب الزوجة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
110
0

ذكورية الشريعة, ضرب الزوجة

 

من الشبه التي وجهت للشريعة المحمدية، وأتهمت بسببها أنها ذكورية مسألة ضرب الزوجة، وفقاً لقوله تعالى:- (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً)[1]، فقد دلت الآية الشريفة على ثبوت حق الضرب للزوج في حال حصول النشوز من الزوجة، وهذا لا ينسجم مع الأساليب الحضارية عند العقلاء من استعمال منهج الحوار بين الزوجين لعلاج كل اختلاف أسري أو مشكلة عائلية، بل إنهم متفقون على عدم جدوى العنف كوسيلة للعلاج وحل الخلاف.

وهذا يجعل تسويغ ضرب الزوج لزوجته حين وقوع الخلاف والشقاق الأسري نحواً من أنحاء الظلم للزوجة ما يؤكد غلبة النـزعة الذكورية للشريعة وتأكد ظلمها للمرأة.

ومن الواضح أن الشبهة المذكورة تعتمد على تحديد المقصود من مفردة الضرب، فلو حملت على غير المعنى المتعارف كان ذلك موجباً لانتفاء الشبهة وبسهولة، أما لو بقي اللفظ على ظاهره فلابد من ذكر علاج آخر.

 

الضرب بمعنى المباعدة:

وقد منع بعض الباحثين ورود الشبهة المذكورة على الشريعة المحمدية، على أساس بناءه أن المقصود من الضرب الوارد في الآية الشريفة ليس ما فهمه أصحاب الشبهة، وغيرهم من حمل المفردة على ظاهرها وهو الضرب باليد أو العصا، بل المقصود منها معنى آخر وهو المباعدة.

وقد استند في مختاره إلى أمور ثلاثة:

الأول: إن أحد المعاني المذكورة لمفردة الضرب في اللغة هو المباعدة والانفصال والمفارقة، فقد ورد في كلمات اللغويـين قولهم: يقال: ضرب الدهر بين القوم، أي فرّق وباعد، وضُرب عليه الحصار، أي عزله عن محيطه، وضرب عنقه، أي فصلها عن جسده.

وهذا يعني أن الضرب في الآية الكريمة يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل، وليس كما فهمه صاحب الشبهة، ووافقه عليه الآخرون.

 

الثاني: استعمال القرآن الكريم مفردة الضرب في هذا المعنى في غير واحدة من آياته:

منها: قوله تعالى:- (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى)[2].

وقوله سبحانه:- (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)[3]، فإن المقصود من الضرب في هاتين الآيتين هو المباعدة والانفصال بين جانبي الماء، وليس المقصود المعنى العرفي والذي يكون باليد أو العصا مثلاً.

ومنها: قوله تعالى:- (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض)[4]، فإن المقصود من الضرب في الأرض هو المباعدة والهجرة في أرض الله الواسعة، ومثل ذلك قوله سبحانه:- (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)[5].

ومنها: قوله عز من قائل:- (فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)[6]، لأن الضرب هنا بمعنى الفصل والمباعدة، فيكون معنى الآية المباركة فصل بينهما بسور.

الثالث: إن المعنى المستفاد لحقيقة الضرب في الآيات الشريفة هو المنسجم تماماً مع سياق الآية المباركة، ومع مجموع تعاليم الإسلام والتي تنهى عن ضرب الحيوان، فما بالك بالإنسان.

 

حقيقة الضرب لغة:

ولا يخفى أن التسليم بما أفيد لمفردة الضرب في آية النشوز يتوقف على أن يكون استعمال اللفظ في هذا المعنى استعمالاً حقيقياً وذلك يستدعي أن يكون اللفظ موضوعاً لهذا المعنى، أما لو كان مفهوم الضرب مشتركاً لفظياً أو معنوياً فسوف يكون حمله على أي واحد من المعاني بحاجة إلى قرينة معينة في المعنى المراد، وما لم تتوفر القرينة فسوف يكون اللفظ مجملاً.

 

الضرب لغة:

وكيف ما كان، لابد من ملاحظة كلمات أهل اللغة في مفردة الضرب، وتحديد المقصود منها، وهل أنها مشترك لفظي، أو معنوي، أم أنها حقيقة واحدة، وتكون بقية الاستعمالات مجازية.

جاء في مقاييس اللغة: ضرب أصل واحد، ثم يستعار منه ويحمل عليه، من ذلك ضربت ضرباً إذا أوقعت بغيرك ضرباً، ويشبّه به الضرب في الأرض تجارة وغيرها من السفر.

ولا يخفى أن المستفاد من تعبيره بكون الضرب أصلاً واحداً هو نفي الاشتراك بقسميه اللفظي والمعنوي، وهذا يعني أن للضرب حقيقة واحدة ويكون استعماله في غيرها استعمالاً مجازياً يحتاج إلى قرينة.

وهذا المعنى هو صريح الراغب الأصفهاني في كتابه مفردات ألفاظ القرآن الكريم، فقد قال: الضرب إيقاع شيء على شيء، وهو بهذا المعنى ينسجم مع المعنى العرفي من تفسيره بالضرب باليد أو بالعصا.

ومثل ذلك جاء في كلام العلامة المصطفوي(ره)، فقد ذكر: أن الأصل الواحد في المادة هو: طرق شيء بشيء على برنامج مقصود[7].

 

نعم قد لا يستفاد هذا المعنى مما جاء في المصباح للفيومي، حيث قال: ضربه بسيف أو غيره، وضربت في الأرض: سافرت، وفي السير أسرعت، وضربت مع القوم بسهم: ساهمتهم، وضربت على يده: حجرت عليه أو أفسدت عليه أمره، وضرب الله مثلاً: وصفه وبيّنه.

فإن ذكره المعاني المتصورة لاستعمالات مفردة الضرب يوحي بأحد الاشتراكين خصوصاً وأنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى المجاز.

نعم قد يقال: بأنه ليس بصدد بيان ما يكون الاستعمال حقيقياً وما يكون مجازياً، بل غاية غرضه هو بيان موارد الاستعمال، وعليه لا يكون مخالفاً لما جاء في المصادر اللغوية المتقدمة.

ويتحصل من ملاحظة كلمات أهل اللغة أن مفردة الضرب ذات معنى واحد، وهو إيقاع شيء على شيء، كإيقاع اليد أو العصا مثلاً على شيء من جسد الإنسان كوجهه أو بطنه أو ظهره، أو غير ذلك.

 

ويساعد على ما ذكرناه استعمال القرآن الكريم مفردة الضرب في العديد من آياته في هذا المعنى:

منها: قوله تعالى في قصة نبي الله أيوب(ع):- (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به)، ويتضح المقصود من الضرب في الآية بملاحظة موضوعها، فقد ورد أن نبي الله أيوب(ع) لما رأى زوجته رحمة قد قصت شعرها حلف لأن شافاه الله تعالى أن يضربها مائة ضربة، ولما شفي من مرضه أشفق عليها، فجاءه الخطاب الإلهي بما تضمنته الآية المباركة، وهو صريح في كون المقصود من الضرب هو معناه اللغوي الذي قد عرفت.

ومثل ذلك قوله تعالى في قصة قتيل بني اسرائيل:- (فقلنا اضربوه ببعضها)، وكذلك قوله سبحانه في قصة خليل الرحمن إبراهيم(ع):- (فراغ عليهم ضرباً باليمين). ومثل ذلك أيضاً قوله سبحانه مخاطباً نبيه موسى(ع):- (اضرب بعصاك البحر فانفجرت منه)

ولا يتوهم أن حصول الانفجار شاهد على كون المقصود من الضرب عبارة عن التباعد والافتراق والانفصال، لأن الانفجار مجرد نتيجة مترتبة على حصول الضرب بالعصا على الحجر، والذي هو طرق شيء على شيء، وليس الانفجار نفس الضرب.

ومنها: موقف الملائكة(ع) مع الكافرين حين الوفاة، يقول تعالى:- (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)، وكذا قوله سبحانه:- (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).

 

ومنها: ما ورد في الخطاب للنساء في قوله تعالى:- (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، فإن المقصود من الضرب في الآية هو معناه العرفي وهو طرق على شيء، ولا يتصور أن يكون المقصود منه المباعدة والتفريق، لأن ذلك لا يحقق الغرض المرجو من وجود الحجاب.

ولا ينحصر الأمر في خصوص الموارد التي ذكرنا، بل يمكن للقارئ الوقوف على غيرها في الآيات القرآنية، وكلها تفيد ذات المعنى الذي تضمنته كلمات أهل اللغة.

 

وقفة مع التفسير بالتباعد:

ووفقاً لما تقدم، لن تكون دلالة الآيات التي تمسك بها القائل بتفسير الضرب بمعنى التباعد والانفصال والافتراق تاماً، لأن استعمالها في هذا المعنى لو ثبت سوف يكون استعمالاً مجازياً دلت القرينة على أنه المقصود، ومقتضى ذلك أنه لو أريد حمل لفظة الضرب الوارد في آية النشوز على هذا المعنى يلزم توفر قرينة دالة على ذلك، وهي مفقودة في المقام.

 

على أن الصحيح أن مفردة الضرب في الآية المذكورة مستعملة في معناها الحقيقي، وهو كما عرفت عبارة طرق شيء على شيء، ويتضح ذلك بتناول الآيات المذكورة أو بعضها وبيان المقصود منها:

أما الآيات المرتبطة بنبي الله موسى(ع)، وهي قوله تعالى:- (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى)[8]، فإن الضرب في الآية الشريفة ليس بمعنى المباعدة والافتراق، كما توهمه القائل، بل هو بمعنى طرق شيء وهو العصا على شيء آخر وهو الماء، ويتضح ذلك بالالتفات إلى أن الآية الشريفة بصدد ذكر النتيجة دون ذكر منها للطريق الموصل إليها، ويتضح ذلك بالإحاطة بأن المقصود من مفردة الضرب الوارد ة في الآية هي تهيئة الطريق وعمله، وليس المقصود منها طرق شيء على شيء، لأنه لا ينسجم ومفاد الآية، فإن مدلول الآية المباركة هو توجيه خطاب من الباري سبحانه وتعالى إلى كليمه موسى(ع) كي ما يصنع طريقاً لبني إسرائيل في البحر فراراً من فرعون الذي يلاحقهم. وهذا لا يكون إلا من خلال ضرب العصا على البحر، ما يعني أن افتراق الماء لحصول الطريق ليس هو نفس الضرب كما فهمه القائل، وإنما هو نتيجة عملية الضرب المترتبة على طرق العصا على الماء.

 

ومثل ذلك في عدم دلالة مفردة الضرب على التفسير المذكور قوله تعالى:- (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)[9]، لأن انفلاق البحر كان نتيجة لضرب العصا عليه، وهذا هو معنى الضرب كما عرفت عند بيان حقيقته، فالتباعد الحاصل ما هو إلا نتيجة وأثر عن الضرب، وليس هو نفسه.

وأما قوله تعالى:- (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض)[10]، وقوله سبحانه:- (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)[11]، فإن الاستدلال بهما في غير محله، لعدم ظهور مفردة الضرب في الآيتين في ما أراده القائل المذكور، بل هما صريحتان في المعنى العرفي من طرق شيء على شيء، لأن السير في الأرض يتضمن طرق القدم على الأرض، وهذا هو معنى الضرب كما عرفت، نعم يترتب على ذلك الابتعاد عن الوطن، والافتراق، لكن هذا نتيجة للسير للضرب، وليس هو نفسه، وهذا يجعل دلالتها كدلالة الآية الأولى من هذه الآيات.

 

وأضعف من ذلك الاستدلال للمدعى بقوله تعالى:- (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)[12]، لأن مفردة الضرب في الآية لا تخرج عن معناها اللغوي، والذي ينتج وضع السور الذي يكون بطرق شيء على شيء، وأن مجرد هذه المفردة لا توجب ما أراده صاحب التفسير المذكور، نعم استفادة الانفصال والمباعدة كان من كلمة(بينهم)، والتي أوجبت هذا المعنى، ولولا وجودها لم يكن المعنى المذكور حاصلاً، وهذا يكشف عن عدم كون المقصود من الضرب في الآية ما ذكر، بل هو ذات معناها العرفي.

 

انسجام الآية مع التفسير بالتباعد:

ومن خلال ما تقدم عرضه بياناً لمعنى الآيات الشريفة يتضح عدم تمامية الدليل الثالث الذي استند إليه القائل، لأن الظاهر أن غرضه من الانسجام هو تفسيره الهجران الوارد في الآية الشريفة بعدم الابتعاد والمفارقة ولو بنحو جزئي، وهذا يستدعي أن يكون الضرب بهذا المعنى، أما وفقاً لما هو المعروف في كلمات علماء الفريقين فقهاء ومفسرين من أن المقصود من الهجران هو المفارقة في الفراش من خلال الإعراض عنها، وتوليت الزوج ظهره إياها، فلن يكون هناك أي انسجام والتفسير المذكور أصلاً.

متى تضرب الزوجة:

وتندفع الشبهة المذكورة، وتهمة الذكورية الموجهة للشريعة مضافاً إلى ظلم المرأة متى أحيط بمورد تشريع ضرب الزوجة من قبل الزوج، وتحديد زمانه، وحتى يتضح ذلك يلزم الإحاطة بصورة إجمالية حول الآية المباركة، فقد عرضت وسائل تأديبية ثلاث للمرأة حال نشوزها، وقبل عرض هذه الوسائل الثلاث لابد من معرفة المقصود من النشوز.

 

النشوز لغة:

عند العود إلى كلمات أهل اللغة، يتضح أن المقصود من مفهوم نشوز الزوجة على زوجها، هو ارتفاعها عليه، وبغضها إياه، وخروجها عن طاعته، وإساءة عشرته، ويجمع ذلك أن تكون الزوجة مستعصية على زوجها، فمتى اتصفت بهذه الصفة انطبق عليها عنوان النشوز، فقد جاء في القاموس: المرأة تنشز، وتنشز نشوزاً، استعصت على زوجها وأبغضته[13].

وفي المصباح المنير: نشزت المرأة من زوجها نشوزاً…عصت زوجها وامتنعت عليه، وأصله الارتفاع يقال نشز من مكانه نشوزاً[14].

وجاء في لسان العرب: نشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز نشوزاً، وهي ناشز ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته[15].

 

ولا يظهر أن للمفسرين والفقهاء رأياً آخر يغاير ما تضمنته كلمات اللغة، ما يعني اتحاد المقصود عندهم وعلماء اللغة في تحديد النشوز.

وعليه، سوف يكون مدلول الآية الشريفة أن مشروعية ضرب الزوج للزوجة ليس مطلقاً، وإنما يختص ذلك بحال نشوزها، وذلك بأن تتصف بكونها امرأة مستعصية على زوجها، خارجة عن طاعته، مبغضة له، مرتفعة عليه.

 

صورتان للنشوز:

ثم إن وصول المرأة لهذه الحالة له صورتان:

الأولى: أن تصل المرأة لهذا المستوى من الكره لزوجها نتيجة مجموعة من المبررات العقلائية، أو الدوافع الشخصية، والتي تشكل حاجزاً عندها ومانعاً يحول دون تغيـير نظرتها للزوج، وإمكانية الإصلاح والتوفيق بينهما، لأنها تكون قد وصلت إلى مستوى من الكره والبغض وحداً لا يقبل المراجعة والرجوع أبداً.

الثانية: أن يكون منشأ الخروج على الزوج ناجماً من أمر عارض يمكن علاجه وحله، كما لو قصر الزوج في النفقة، أو امتنع عن تلبية بعض الرغبات والطلبات للزوجة، ما دعاها أن تتخذ هذا الموقف منه.

 

الضرب حين النشوز:

ثم إنه بعد الإحاطة بحقيقة النشوز الذي تحدثت عنه الآية المباركة، فإننا نجد الشارع المقدس قد عرض وسائل تأديبية ثلاث لعلاج هذا المرض الموجود عند الزوجة، وهي مأخوذة بنحو الطولية فلا يعمد للاستفادة من الثانية إلا بعد عدم جدوى الأولى، وهكذا.

وقبل عرض الوسائل الثلاث المذكورة، ينبغي الالتفات إلى خروج الصورة الأولى من الصورتين التي تكون المرأة فيهما ناشزاً، فلا يشمله شيء من هذه الوسائل، فلا موجب لأن يتدرج الزوج في ذلك معها، بل بحسب الظاهر أن اجماع الطائفة منعقد على عدم مشروعية الضرب في هذا الفرض، لأن المفروض أن الغرض الذي من أجله جعلت هذه الوسائل يتمثل في إعادة المرأة لرشدها رغبة في الحفاظ على الحياة الأسرية ومحاولة استمرار العائلة، ومن الواضح أن المرأة في الصورة الأولى قد وصلت مرحلة لا تقبل معها البقاء على شيء من ذلك، بل قد عرفت قطعها الطريق وعدم إمكانية رجوعها فيه أبداً.

 

وعليه، سوف ينحصر الاستفادة من الوسائل الثلاث التأديبية المذكورة في خصوص الصورة الثانية من الصورتين السابقتين، وهذا يعني ضيق دائرة مشروعية ضرب الرجل للزوجة، وحصره في عدد من القلة بمكان، لو لم يكن من الندرة بمكان، لأن مصداق هذه الصورة يكاد أن يكون فرداً نادراً، وإن أبيت فقل أنه من القليل جداً. ويساعد على ذلك أنه قد لا تصل النوبة في مقام المعالجة لاستخدام الوسيلة الثالثة، لأن هذه المبررات العارضة يمكن التغلب عليها من خلال الوسيلتين الأولى والثانية، وهذا يحول دون الوصول إلى الوسيلة الثالثة.

 

وسائل التأديب:

وعلى أي حال، فإن تلك الوسائل هي:

الأولى: عملية الوعظ والنصح والإرشاد، والتذكير بمسؤولياتها المطلوبة منها حيال الزوج والأسرة، والتي يعبر عنها بواجباتها الشرعية.

وحتى ينطبق على الكلام الصادر من الزوج صفة الوعظ والإرشاد والنصح، لابد وأن يكون بلغة مهذبة ولطيفة خالية من عبارات التحقير والتأنيب والإهانة والاستنقاص، فضلاً عن جرح المشاعر والتقريع والتوبيخ، فإنه مضافاً إلى عدم صدق الوعظ والنصح على مثل ذلك، قد يترك آثاراً سلبية ووخيمة.

 

الثانية: الهجران في المضجع، وليس المقصود من هجرانها فيه ترك المبيت معها، وإنما يقصد به إعراضه عنها، بأن يعطيها ظهره حال البيتوتة، ولا يقبل عليها بوجهها كما هو المطلوب حالها.

الثالث: الضرب، ومن الواضح أن الوصول لهذه الوسيلة يكشف عن مقدار العناد الموجود للزوجة والاستمرار في التعالي والتكبر على الزوج، والشعور بالرفعة والعظمة عليه، وفي هذا شيء من إفقاده دوره المناط به في الأسرة. وعليه لا يجدى معها في العلاج إلا الضرب كما عرفت. لأن المفروض أن المرأة قد وصلت مرتبة ومرحلة من النشوز لا يؤثر فيها إلا تأديب يناسبها، فإن من الناس من لا يفيده إلا هذا النوع من التأديب، فلابد فيه من إظهار أن الرجل له سلطة التأديب[16].

وهذا يعني أن مشروعية الضرب المباح للزوج محدود في مساحة ضيقة جداً تكون بممارسة التنبيه الجسدي في حق من لا يحترم وظائفه وواجباته، الذي لا تنفع معه أية وسيلة أخرى، ومن حسن الصدف أن هذا الأسلوب ليس بأمر جديد خاص بالإسلام في حياة البشر، فجميع القوانين العالمية تتوسل بالأساليب العنيفة في حق من لا تنجح معه الوسائل والطرق السلمية لدفعه إلى تحمل مسؤولياته، والقيام بواجباته، فإن هذه القوانين ربما لا تقتصر على وسيلة الضرب، بل تتجاوز ذلك في بعض الموارد الخاصة إلى ممارسة عقوبات أشد تبلغ حد الإعدام والقتل.

مضافاً إلى أن علماء التحليل النفسي -اليوم- يرون أن بعض النساء يعانين من حالة نفسية هي: المازوشية، التي تقتضي أن ترتاح المرأة لضربها وأن هذه الحالة قد تشتد في المرأة إلى درجة تحس باللذة والسكون والرضا إذا ضربت ضرباً طفيفاً.

وعلى هذا يمكن أن تكون هذه الوسيلة ناظرة إلى مثل هؤلاء الأفراد الذين يكون التنبيه الجسدي الخفيف بمثابة علاج نفسي لهم[17].

 

مقدار ضرب الزوجة:

ثم إنه بعد الفراغ عن دلالة الآية الشريفة على حصر ضرب الزوجة في حالة خاصة جداً، بقي أن يشار إلى أن الضرب السائغ للزوج ممارسته مع الزوجة ليس مطلق العنان بحيث يسوغ له ممارسة ذلك معها دون قيد ولا تحديد أو شرط، فيمكنه أن يضربها بالطريقة التي يراها، بل على العكس تماماً، فقد حدد الشارع المقدس مقدار الضرب الذي يسوغ للزوج ممارسته، ومع أن ما تضمنته النصوص في هذا الجانب أعني كيفية ضرب الزوج لزوجته ضعيفاً، كما رواه في مجمع البيان عن الإمام الباقر(ع): أنه الضرب بالسواك[18]. ومثل ذلك ما تضمنته مصادر المسلمين.

إلا أنه يمكن الإحاطة بكيفيته من خلال ما تضمنته النصوص الشريفة في فرض الدية على كل ضرب يوجب احمرار البدن أو اخضراره أو غير ذلك، وهذا يعني أن كل موارد الضرب التي سوغها الشارع المقدس قد اعتبر فيها أن تكون ضرب تأديب، وليس ضرب تعذيب، وهذا يستدعي أن لا تخرج عن هذا الإطار، فيكون الضرب السائغ للزوج ممارسته مع الزوجة في خصوص هذا الإطار وليس خارجاً عنه، وهذا يستدعي أن يكون بنحو لا يوجب شيئاً في جسده من احمرار ولا اخضرار ولا غير ذلك. ويدل على ذلك عدم وجود خصوصية لضرب الزوجة، إذ لا يوجد نص خاص يشير لذلك من قريب أو بعيد، فيكون داخلاً في العمومات والإطلاقات التي تمت الإشارة إليها.

 

وقد اشتملت كلمات فقهاء الطائفة(رض) على هذا المعنى، فقد تضمنت أن يكون بنحو لا يؤدي إلى الجرح والإدماء قليلاً أو كثيراً، ولا يشتمل على شيء من الانتقام والتشفي والتعذيب الجسدي، ففي الحدائق: والمراد من غير المبرح، ما لا يدمي لحماً، ولا يهشم عظماً، ويكون كضرب الصبيان للتأديب بحيث يتألم منه المضروب ولا يوجب ضرراً في بدنه[19].

وقال في الجواهر(قده) بعدما أشار إلى أن جواز ضربها معلق على حصول النشوز منها: لكن يقتصر على ما يؤمل معه رجوعها ما لم يكن مدمياً ولا مبرحاً[20].

 


 

[1] سورة النساء الآية رقم 34.

[2] سورة طه الآية رقم 77.

[3] سورة الشعراء الآية رقم 63.

[4] سورة البقرة الآية رقم 273.

[5] سورة المزمل الآية رقم 20.

[6] سورة الحديد الآية رقم 13.

[7] التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج 7 مادة ضرب.

[8] سورة طه الآية رقم 77.

[9] سورة الشعراء الآية رقم 63.

[10] سورة البقرة الآية رقم 273.

[11] سورة المزمل الآية رقم 20.

[12] سورة الحديد الآية رقم 13.

[13] القاموس المحيط ج 1 ص 678.

[14] المصباح المنير ج 2 ص 605.

[15] لسان العرب ج 5 ص 418.

[16] مواهب الرحمن ج 8 ص 180.

[17] الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ج 3 ص 195-196.

[18] مجمع البيان ج 4 ص 94.

[19] الحدائق الناضرة ج 24 ص 617.

[20] جواهر الكلام ج 31 ص 202.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة