الخوض في الدين
قال تعالى:- (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره).
لا يخفى أن أحد أهم العوامل المؤثرة في القبول بالدين والاعتقاد به، وجود الاحترام عند الأشخاص له، وشعورهم تجاهه بالهيبة، ومتى فقد الاحترام منهم له، وزالت هيبته منهم، لن ينتموا إليه، فضلاً عن أن يقوموا بامتثال أحكامه والالتـزام بتعاليمه، ومن هنا جاء التشديد على ضرورة عدم جعل الدين عرضة للاستهزاء والسخرية والتوهين، وإفقاده صبغة الاحترام والتقدير، والعناية من الآخرين، ويظهر هذا واضحاً من خلال الآية التي افتتحنا بها المقام، فقد تضمنت أمراً صريحاً على لزوم اجتناب الجلوس إلى هؤلاء الذين يتخذون الدين سخرية وهزواً من خلال ذكر اللازم وهو الإعراض، كما سنشير لذلك بعد قليل إن شاء الله.
وحتى يتضح هذا المعنى بصورة جلية واضحة، لابد من تحديد المقصود من الخوض في آيات الله تعالى، والتي تمثل الدين، وبيان كيف يكون الخوض فيه، والأحكام المرتبطة بذلك.
معنى الخوض:
إن المستفاد من كلمات أهل اللغة بعد الرجوع إليها، أن المقصود من الخوض عبارة عن الانغماس في شيء فيه الفساد. وهذا يعني أن الخوض ليس مجرد الانغماس في شيء، بل خصوص الانغماس في ما يترتب عليه الفساد، وهذا يعني أن الشر والفساد من لوازم الخوض.
وإن شئت فقل، إن الشر والفساد يعدان قيداً احترازياً في بيان حقيقة الخوض، لأن مقتضى اعتبارهما في بيان حقيقته، يقضي بنفي صدقه على مطلق الانغماس في الشيء كما هو واضح.
ويظهر اعتبار قيدية الفساد والشر ودخالتهما في مفهوم الخوض من خلال ملاحظة موارد استعماله في القرآن الكريم، فلاحظ مثلاً قوله تعالى:- (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب). وقوله تعالى:- (وكنا نخوض مع الخائضين)، وقوله سبحانه:- (فويل للمكذبين* الذين هم في خوض يلعبون)، فإن الخوض في جميع هذه الموارد عبارة عن الدخول في الشر والغوص فيما يوجب الضرر والفساد والاشتغال بما ينتج الحيرة والضلال والهلاك.
الخوض في آيات الله:
ووفقاً لما تقدم من أن المقصود من الخوض هو الانغماس في شيء فيه الفساد، سوف يأتي سؤال مفاده:
كيف يكون الخوض في آيات الله سبحانه وتعالى انغماساً فيه الفساد؟ إن المتصور أن يكون الخوض فيها موجب للقرب من الله تعالى، ويوجب زيادة العلاقة بالله سبحانه، وتقويتها به، لأنها توجب تفكراً وتأملاً وتدبراً، وغير ذلك.
إن الجواب عن ذلك يتضح من خلال ملاحظة دواعي الخوض في الآيات القرآنية، ذلك أن الخائضين فيها لن تكون دواعيهم ودوافعهم لذلك عبارة عن التأمل والتدبر والتفكر لزيادة القرب مع الله سبحانه وتعالى وتقوية العلاقة به عز وجل، بل إن غرضهم هو الاستهزاء والسخرية من الدين، وذلك بدعوى عدم شموليته، لكل ما يحتاجه الانسان، وفقدانه الصلاحية بعد مضي هذه السنين الطويلة منذ أن جاء به النبي الأكرم محمد(ص)، وأن دوره ينحصر في خصوص البعد الروحاني المعنوي، فليس فيه القابلية على معالجة المشاكل الاقتصادية، وتقديم رؤية فيها، وليس فيه رؤية تربوية، ولا رؤية فكرية، ولا منظومة علاقات اجتماعية، ولا غير ذلك. بل إننا نجد اليوم حالة غريبة وهي تدخل كل أحد في الشؤون الدينية وما يرتبط بالدين، بما نجد أصحاب الاختصاصات الأخرى يرفضون تدخل أي أحد في مجالات اختصاصهم.
ومن الواضح أن جميع ما ذكرناه من صور للخوض في الدين، يوجب فقدان احترامه وضياع هيبته عند الشباب، ما يجعلهم يتوقفون في الانتماء إليه والارتباط به.
وسوف اقصر الحديث على مظهر واحد من مظاهر الاستهزاء بالدين والخوض فيه بما يوجب الفساد، وهو الدعوة إلى التجديد في معالمه ومعارفه.
صور التجديد:
وهذا التجديد يحتمل فيه صور:
الأولى: أن يكون المقصود منه هو العمد إلى تغيـير جميع الأحكام الشرعية، بل طالب بعضهم حتى بتغيـير الشمس والقمر.
وموجب هذه الدعوى حالة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الذي وصله العالم اليوم، فصار لازماً أن يواكب المجتمع المسلم العالم أيضاً حتى في شؤونه الدينية بحصول التغيرات على تعاليمه وأحكامه.
وهذه الصورة من الضعف بمكان، فإن الأحكام الشرعية المجعولة قد وضعت وفق ضوابط محددة تقوم على قانون المصلحة والمفسدة الأمرية، ولم تجعل اعتباطاً، وعادة يصعب على العقل البشري أن يدرك تلك المصلحة أو المفسدة التي جعل الأمر لأجلها، مضافاً إلى أن هناك شروطاً لابد أن تتوفر في الشخص المتصدي لوضع الأحكام والتشريعات، ككونه محيطاً بالإنسان ومكوناته واحتياجاته ومتطلباته، ليكون وضع التشريع منسجماً مع هذا الجانب فيه، وإلا لن يكون التشريع محققاً للغرض الذي قد أريد منه. وهذا يمنع فسح المجال لأي أحد أن يتصدى للجعل والتشريع وسن القوانين المرتبطة بالبعد التشريعي، بل إن المتصدي لذلك سيكون محصوراً في مصدر التشريع المعلوم.
الثانية: أن يكون المقصود من التجديد للدين، هو تغيـير بعض الأحكام الشرعية التي تضمنها بحيث تكون متلائمة ومتطلبات العصر الذي نعيش فيه، فإن الحجاب الذي فرض على المرأة في عصر النبي(ص)، لا يلائم دورها اليوم وهي التي أصبحت جنباً إلى جنب الرجل في مجال العمل، وصار لها دور رائد في الحياة الاقتصادية، فوجود الحجاب يمثل عنصر إعاقة لها عن قيامها بدورها المطلوب منها، فلابد من تغيـيره، ليكون ملائماً للعصر الذي نعيش فيه.
وقد عرفت جواب هذه الصورة مما تقدم، فقد ذكرنا أن الأحكام الشرعية مجعولة وفق قانون المصالح والمفاسد الأمرية التي يعجز الإنسان البشري عادة عن إدراكها والإحاطة بها، وهذا ما يجعلها تختلف عن بقية القوانين الوضعية التي تخضع لملاحظة الظروف الخارجية، فيمكن أن يغير قانون المرور وفق متطلبات الظرف ومعطيات المكان، وهذا لا يتصور بالنسبة للأحكام الشرعية، فإن ما كان فيه المصلحة في عصر النبي(ص) كالحجاب، لا زال يتضمنها أيضاً في عصرنا اليوم، وسوف يبقى على ذلك أيضاً إلى قيام الساعة، وما كان فيه مفسدة في عصر رسول الله(ص)، وهو عدم العفة، لا زال باقياً على ذلك وسوف يستمر إلى قيام الساعة.
نعم قد يحصل تغير في مصاديق تحقيق هذا الحكم الشرعي، فإن احترام الأب واجب، ومع تغير الزمن لن يتغير وجوب الاحترام، وإنما قد تتغير طريقة الاحترام، مثلاً كانت مناقشة الأب في حقبة من الزمن في بعض آرائه تمثل خروجاً عن الاحترام له، إلا أن زيادة مستوى الوعي، وحصول التعلم للأولاد فسح لهم المجال لمناقشة الأب في بعض قراراته دون الإساءة له، أو إيذائه، ولم تعد مناقشته منافية لاحترامه.
ومثل ذلك تغير ما كان سابقاً في المجتمع من إعطاء الولد ما يحصل عليه من المال كاملاً لأبيه، وينتظر منه مصروفه الخاص ولو كان متزوجاً، فإن هذا لا يتناسب ومستوى الحياة اليوم، إلا أن ذلك لا يوجب فقدان الاحترام للأب، ولا تقليلاً من شأنه، وهكذا، فالتغير إنما يجري في مصاديق الاحترام، وليس في ذات الحكم كما هو واضح.
الثالثة: تجديد الاجتهاد في الرؤى دون المساس بالنصوص، وعدم مس الثوابت الموجودة، وذلك بفتح مجال الاجتهاد في ما ليس فيه نص أو دليل واضح وصريح من الشارع المقدس، وذلك بالاستناد إلى القياس، أو الاستحسان، أو المصالح المرسلة وما شابه، وجميع هذه الأمور ممنوعة في مذهب الأمامية جملة وتفصيلاً كما هو مقرر في محله.
الرابعة: السماح لبعض المختصين بالتدخل في الأحكام الشرعية، بأن يكون لهم دور في عملية الاستنباط، ولا ينفرد بذلك الفقهاء، بل لابد من دخول الأطباء والمهندسين، والمعلمين في ذلك أيضاً.
والسماح المطلوب للمختصين به، إما أن يكون في بيان الحكم الشرعي، أو في موضوعه الذي ينصب الحكم الشرعي عليه، فإن كان المقصود به الأول، فإن هذا يحتاج أن يمتلك المختص آليات الاستنباط كي ما يمكنه المشاركة في العملية الاستنباطية، ومن دون امتلاكه لذلك، لا مجال أن يسمح له بالدخول في ذلك، لأنه سيكون من الدخول في ما لا يعنيه ولا يستوعبه.
وأما لو كان المقصود هو الثاني، بأن يقوم الطبيب مثلاً بتشخيص الموضوع فإن هذا حاصل في الحقيقة عند الفقهاء، مثلاً، لو لاحظنا فتوى السيد السيستاني(دامت أيام بركاته) في استعمال اللولب، نجده يذكر محتملين في العمل الذي يقوم به وهو قتل النطفة بعد تكونها، أو سلب قابلية التخصيب من الحويمن، ومن الواضح أن تحديد ذلك يعتمد على دور الطبيب المختص، فإنه الذي يتصدى لتشخيص ما يقوم به اللولب، ومن ثمّ يعطي الفقيه وفق تشخيصه القرار والحكم بجواز استخدامه وعدمه.
ولا ينحصر الأمر في خصوص هذا المثال، بل إن الأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ويجري ذلك في بقية التخصصات الأخرى كل بحسب مجال جريانه، وهذا المعنى يقف عليه كل متابع للفقه.
حكم الخوض في الدين:
ومع وضوح المنع من الخوض في الدين بالطريقة التي قد عرفت، إلا أنه يحسن التأكيد على ذلك من خلال الإشارة لما تضمنته الآية الشريفة محل البحث من أحكام:
منها: الالتـزام بحرمة الخوض في الدين بجميع مظاهره، ويدل على ذلك قوله تعالى:- (فأعرض عنهم)، فإن الآية الشريفة وإن لم تتضمن التصريح بحرمة ذلك، إلا أن الأمر بالإعراض عن الذين يخوضون في الدين الذي هو اللازم، يكشف عن حرمة العمل وهو الخوض في الدين، لأنه لو لم يكن محرماً لم يكن هناك أدنى وجه للأمر بالإعراض عنهم.
ومنها: حرمة الجلوس مع الخائضين وسماع أقوالهم، لأن ذلك يعدّ مشاركة معهم في ما يفعلون، ويكون الجالس إليهم مشمولاً بالعقاب مثلهم، خصوصاً إذا كان الجالس فاقداً للجواب عما يطرحوه من الشبه وما يثيرونه من التوهين والسخرية بالدين، ما يجعله يتأثر بهم. نعم لو كان غرضه من الجلوس معهم الرد عليهم، وبيان بطلان ما هم عليه، لقدرته على ذلك، فإن هذا الجالس يكون مستثنى من الحرمة، فيسوغ له الجلوس معهم لذلك الغرض.
ومنها: وجوب ممارسة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الخائضين في الدين, وقد اتضح وجهه من خلال الحكم السابق تقريباً، فلا نعيد.
ولا ينحصر ممارسة هذه الفريضة في خصوص صورة واحدة، فيمكن أن يكون ذلك من خلال اللسان بالدخول معهم في حوار، كما يمكن أن يكون من خلال الكتابة، واستعراض ما يتناوله هؤلاء من شبه والإجابة عنها، وهكذا.