معرفة السفارة الصادقة
لم يختلف حال القضية المهدوية على مر التأريخ عن بقية القضايا العقدية الأخرى، فكما وجد المدعون للألوهية والنبوة والإمامة، وجد المدعون لمنصب المهدوية تارة، ومنصب السفارة عن الإمام المهدي روحي لتراب حافر جواده الفداء مرة أخرى.
ولما يحمله منصب السفارة من عناية وقدسية خاصة في الوسط الشيعي، لأنه يمثل عنصر الارتباط المباشر بين الإمام الحجة(عج) وقواعده الشعبية، فقد اهتم به أعداء المذهب أيضاً، وجندوا له من يدعيه بين فينة وأخرى، لتوهين القضية المهدوية، وإضعافها، فضلاً عن تشويهها على أقل التقادير.
وقد اختلفت الدواعي والأغراض عند هؤلاء في ما أقدموا عليه، ولسنا بصدد الحديث عن ذلك، وإنما نود التركيز على خصوص الطريق الذي يمكن من خلاله معرفة صدق مدعي السفارة، وأنه قد عين ووضع في هذا المنصب من قبل الإمام صاحب الزمان(عج).
السفارة الصادقة:
وقد كان الطريق لمعرفة السفير المتصدي للقيام بهذه المهمة منذ عصر الغيبة الصغرى مضافاً لما ينطوي عليه من ملكات نفسانية، من الصدق والصلاح والتميز في التقوى والورع، أمرين:
الأول: النص عليه، وذلك إما من خلال المعصوم(ع) مباشرة، أو من خلال من قد نص عليه من قبل المعصوم(ع)، فصار موضع عناية وقبول، ولا يشكك فيه وفي صلاحه تقواه.
الثاني: ظهور الكرامات على يديه من قبل الإمام صاحب الزمان(عج).
وقد أشار إلى اعتبار هذين الطريقين لثبوت منصب السفارة، الشيخ الطوسي(ره) في كتابه الغيبة، فإنه بعد ذكره للسفراء الأربعة(رض)، قال(ره): ولم يقم أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الأمر(عج) ونصب صاحبه الذي تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر(عج) تدل على صدق مقالتهم وصحة بابيتهم[1].
النص على السفراء الأربعة:
أما الطريق الأول، فقد تضمنت بعض المصادر الحديثية ذكراً للنص على السفراء الأربعة(رض)، نشير لشيء منها، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك:
السفير الأول:
أما السفير الأول، هو الشيخ الجليل عثمان بن سعيد العمري(رض)، فقد نص عليه، من قبل الإمامين العسكريـين(ع)، فقد روى الشيخ(ره) في الغيبة بسنده، عن أحمد بن إسحاق بن سعد القمي، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام، فقلت: يا سيدي أنا أغيب وأشهد، ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت، فقول من نقبل؟ وأمر من نمتثل؟ فقال لي صلوات الله عليه: هذا أبو عمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعني يقوله، وما أداه إليكم فعني يؤديه.
فلما مضى أبو الحسن(ع) وصلت إلى أبي محمد ابنه الحسن صاحب العسكر(ع) ذات يوم، فقلت له: مثل قولي لأبيه، فقال لي: هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في الحياة والممات، فما قاله لكم فعني يقوله، وما أدى إليكم فعني يؤديه[2]. ولا ريب في دلالته على جلالة الشيخ العمري الأب(رض) بنحو تؤهله للتصدي لمنصب السفارة عن الإمام صاحب الناحية المقدسة(عج)
وأوضح منه في الدلالة على المطلوب، ما رواه الشيخ(ره) بسند معتبر عن جماعة منهم علي بن بلال، في حديث طويل، وقد جاء فيه: اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي(ع) نسأله عن الحجة من بعده، وفي مجلسه أربعون رجلاً فقام إليه عثمان بن سعيد ابو عمرو العمري، فقال له: يا ابن رسول الله أريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به مني، فقال له: اجلس يا عثمان فقام مغضباً ليخرج، فقال: لا يخرجن أحد فلم يخرج منا أحد إلى كان بعد ساعة، فصاح(ع) بعثمان فقام على قدميه، فقال: أخبركم بما جئتم؟ قالوا: نعم يا ابن رسول الله، قال: جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي، قالوا: نعم، فإذا غلام كأنه قطع قمر أشبه الناس بأبي محمد(ع)، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر فاقبلوا من عثمان ما يقوله وانتهوا إلى أمره، واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه[3]. وهو أصرح دلالة على المدعى، لأنه نص في نيابة العمري الأب(رض) وسفارته عن سيدي ولي النعمة(عج)، بينما دلالة النص الأول على نيابته ووكالته عن الإمامين العسكريـين(ع)، نعم هو يصلح للدلالة على المطلوب بالدلالة الالتـزامية دون المطابقية، لأن مقتضى التوثيق الصادر له من الإمامين العسكريـين(ع)، بقاءه على هذه الأهلية سيما وأنه لم يصدر فيه ما يشير لخلاف ذلك من الإمام العسكري(ع)، ولا من صاحب الناحية المقدسة(عج)، كما صدر مثل ذلك في غيره.
السفير الثاني:
وهو الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن عثمان العمري(رض)، فقد ورد النص عليه من قبل الإمام العسكري(ع)، فقد روى محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسينان، قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن(ع) بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن في حديث طويل يسوقانه إلى أن يمنتهي إلى أن قال الحسن(ع) لبدر: فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد(ع): امض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيـين ما حملوه من المال. ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا والله إن عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنه وكيلك وثقتك على مال الله، قال: نعم، واشهدوا على أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم[4]. وهو نص صريح من الإمام العسكري(ع) على نيابة العمري الأبن(رض) وسفارته للإمام صاحب الناحية(رحي لتراب حافر جواده الفداء).
كما يمكن التمسك لإثبات هذا المنصب له أيضاً من خلال النص الذي تضمن توثيقه من قبل الإمام العسكري(ع)، وأنه وأبوه الثقتان المأمونان، ودلالته على ذلك بالدلالة الالتـزامية كما عرفت في بيان ذلك في سفارة أبيه(رض).
السفير الثالث:
وهو الشيخ حسين بن روح النوبختي(رض)، فقد نص عليه السفير الثاني(رض)، فقد روى أبو أحمد ابن إبراهيم، وأبو جعفر عبد الله ابن إبراهيم، وجماعة من بني نوبخت، أن أبا جعفر العمري لما اشتدت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة منهم أبو علي ابن همام وأبو عبد الله ابن محمد الكاتب، وأبو عبد الله الباقطاني، وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي، وأبو عبد الله ابن الوجناء وغيرهم من الوجوه والأكابر فدخلوا على أبي جعفر(رض) فقالوا له: إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر والوكيل له والثقة والأمين فارجعوا إليه في أموركم وعولوا عليه في مهماتكم فبذلك أمرت وقد بلغت[5]. وهو نص صريح في أن المنصب بعد العمري الابن(رض) للحسين بن روح(رض) بأمر من قبل صاحب الأمر(عج)، ويساعد على ذلك أن الحاضرين والذين قد سمعت وصفهم أن بينهم الأكابر والوجوه قد سلموا لذلك وعولوا عليه وقبلوه، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يشكوا في أنه صادر من الصاحب(روحي لتراب حافر جواده الفداء).
ومثله في الدلالة أيضاً ما رواه أبو علي محمد بن همام(رض) بسند معتبر، أن أبا جعفر محمد بن عثمان العمري(قده) جمعنا قبل موته وكنا وجوه الشيعة وشيوخها، فقال لنا: إن حدث علي حدث الموت، فالأمر إلى أبي القاسم الحسين روح النوبختي فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي، فارجعوا إليه وعولوا في أموركم عليه[6].
وقد يقال: لماذا لم يصدر النص على السفير الثالث بخصوصه من قبل الإمام صاحب الزمان(عج)، كما صدر ذلك في حق السفيرين الأول والثاني(رض).
فإنه يقال: لم يصدر في شأن السفيرين الأول والثاني(رض) شيء من قبل سيدي ولي النعمة(عج)، وإنما الصادر في حقهما عن الإمامين العسكريـين(ع).
ولما كان الصادر إلى الشيعة خلال فترة الغيبة الصغرى عبارة عن التواقيع التي تصلهم من خلال السفيرين الأول والثاني، ولم يكن الشيعة يكذبونها، بل كانوا يأخذونها أخد المسلمات ويتلقونها بالقبول والرضا والطاعة والانقياد، كان النص على السفير الثالث بحسب الظاهر في توقيع صدر للسفير الثاني(رض) من الصاحب(روحي له الفداء).
السفير الرابع:
وهو الشيخ علي بن محمد السمري، فقد جاء النص عليه عتاب من ولد عتاب بن أسيد-في حديث- فلما مات عثمان بن سعيد أوصى إلى أبي جعفر محمد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري(رض) فلما حضرت السمري الوفاة سئل أن يوصي فقال: لله أمر هو بالغه.
فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري(قده)[7].
ولا يخفى أن الغيبة التامة إنما وقعت بعد وفاة السفير الرابع، وهو الشيخ السمري(رض).
ومثله في الدلالة أيضاً ما رواه أبو عبد الله أحمد بن محمد الصفواني، قال: أوصى الشيخ أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري، فقام بما كان إلى أبي القاسم فلما حضرته الوفاة، حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكل بعده ولمن يقوم مقامه، فلم يظهر شيئاً من ذلك وذكر أنه لم يؤمر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن[8].
على أنه يمكن الاعتماد لإثبات سفارة هؤلاء المشائخ الأربعة(رض) بالتسالم القطعي الموجود عند علماء الطائفة على ذلك
حصول الكرامات:
وأما الطريق الثاني الذي يعرف من خلاله صدق المدعي لمنصب السفارة، جريان الكرامات على يديه من قبل الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ويمكن ذكر أمثلة لذلك، نشير لبعضها ويمكن للقارئ متابعة ذلك في المصادر المعنية بمثل هذا الأمر:
السفير الثاني:
منها: ما رواه الشيخ(ره) بسندين، من أن محمد بن عثمان العمري السفير الثاني(رض) أخبر عن وقت موته تفصيلاً، فأخبرهم عن السنة والشهر واليوم، فأثبتوا ذلك التأريخ فوقع ما كان قد أخبر عنه دون أدنى اختلاف[9].
السفير الرابع:
ومنها: ما رواه الشيخ في كتابه الغيبة بسند معتبر عن صالح بن شعيب الطالقاني، أن الشيخ أبا الحسن علي بن محمد السمري(رض) قال يوماً في مجلسه: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي، فكتب المشايخ تأريخ ذلك اليوم فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم[10].
ومنها: التوقيع الذي خرج على يديه(رض) يتضمن تحديد وقت وفاته، وأنه يموت بعد ستة أيام، وهو ما رواه الصدوق(ره)، قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه وقضى[11].
انقطاع السفارة:
ومن خلال الطريقين الذين تقدم ذكرهما لمعرفة صدق مدعي السفارة يعلم أن منصب السفارة قد انتهى بوفاة السفير الأربع(رض)، لأنه لم ينص على أحد من بعده بمقتضى التوقيع الذي رواه الصدوق(ره)، والذي تضمن وقوع الغيبة الكبرى، مضافاً إلى أن التأريخ لم ينقل لنا تسالم الشيعة منذ وفاته وإلى يومنا هذا على سفير بعده، والتسليم له بالانقياد والخضوع والطاعة كما كانوا منقادين للسفراء الأربعة(رض).
مضافاً إلى النص على ذلك، وهو ما تضمنه التوقيع الذي اشتمل على نعي السفير الرابع نفسه للأمة، وأنه قد أمر أن لا يوصي لأحد بعده.
ودعوى أن المقصود بالرؤية الواردة في التوقيع المشاهدة، وليس المقصود بها منصب السفارة، مردود، بمجموعة من الشواهد، يكفينا ذكر واحد منها، وهي القصص العديدة والمنقولة بطرق معتبرة تثبت تحقق الرؤية للصاحب(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ويصعب جداً البناء على كذبها جميعاً، فضلاً عن القطع بخطئها جميعاً، وجميع هؤلاء الذين رأوه، لم يدع أحد منهم السفارة عنه.
[1] كتاب الغيبة ص
[2] بحار الأنوار ج 51 باب أحوال السفراء ح ص 344.
[3] المصدر السابق ص 346.
[4] المصدر السابق ص 345-346.
[5] المصدر السابق ص 355.
[6] المصدر السابق.
[7] المصدر السابق ص 360.
[8] المصدر السابق ص 360.
[9] بحار الأنوار ج 51 ص 351.
[10] كمال الدين وتمام النعمة ص 503.
[11] المصدر السابق.