عدول المأموم إلى الانفراد اختياراً
لقد خلت كتب القدماء من الإشارة إلى مسألة عدول المأموم إلى الانفراد اختياراً، وهذا يعني أنها من المسائل التفريعية، وليست من المسائل الأصلية، ولذا لا يوجد فيها نص عنهم(ع)، والظاهر أن أول من تعرضها هو الشيخ(ره) في كتابيه المبسوط والخلاف.
وكيف ما كان، فقد وقع الاختلاف بين الأعلام فيها، على أقوال ثلاثة:
الأول: جواز العدول من الجماعة إلى الفرادى مطلقاً، اختياراً واضطراراً، وقد أختاره الشيخ(ره) في كتابه الخلاف، والمحقق(ره) في الشرائع، والعلامة في التذكرة، والمنتهى، بل نقل في النهاية الإجماع عليه.
الثاني: عدم الجواز إلا بعذر، وهو مختار الشيخ(ره) في المبسوط، ويظهر من صاحب المدارك القول به أيضاً.
الثالث: التفصيل بين ما إذا دخل في الصلاة ناوياً العدول في أثنائها، وبين ما إذا دخل فيها بنية الجماعة، ثم بدا له العدول، فلا يجوز العدول في الأول، ويجوز العدول في الثاني، وقد أختاره المحقق الحائري(ره) في كتابه الصلاة، وأختاره بعض الأعاظم(ره).
وقد ذكر السيد البروجردي(ره) بياناً آخر للمسألة، حاصله، إن هاهنا احتمالين في الجماعة:
الأول: الالتـزام بأن الجماعة وصف للصلاة بأجمعها من أولها إلى آخرها، وليس لأبعاضها، وعليه، لن يجوز العدول من الجماعة إلى الفرادى مطلقاً، سواء نوى الانفراد في بداية الصلاة، أو بدا له الانفراد في أثناءها.
الثاني: البناء على أن الجماعة وصف لكل جزء من أجزائها، فتوصف الركعة الأولى بالجماعة مثلاً، فإذا نوى الإنفراد وصفت الركعة الثانية بالفرادى، وهكذا، وهنا يجوز العدول من الجماعة إلى الانفراد مطلقاً، ولا وجه للتفصيل بين نيته الانفراد من بداية الصلاة، أو نيته الإنفراد في أثناءها.
ثم إن الظاهر من الأقوال السابقة، ملاحظة الحكم الوضعي، أعني صحة الجماعة، والصلاة، بناء على القول بجواز العدول، وبطلان الجماعة، بل والصلاة بناء على القول بالحرمة على تفصيل يأتي بيانه، وهذا يشير إلى أن البقاء على نية الجماعة، إما شرط في صحتها، أو أن نية قطع الجماعة، يعتبر مانعاً من صحتها. وليس المقصود من الجواز والمنع، الحكم التكليفي، الذي لا يترتب عليه إلا الإثم في جانب المنع.
ولا بأس قبل استعراض أدلة الأقوال السابقة، من الإشارة إلى مقتضى الأصل العملي في المسألة، فنقول:
قد عرفت أن الجواز والمنع الموجود في كلمات الأعلام ناظر للحكم الوضعي، وليس التكليفي، وهذا يعني أن المورد إما من صغريات الشرطية، فيقال، بأنه يشترط في صحة الجماعة، البقاء على نيتها منذ البداية، أو المانعية، فيقال، بأن العدول عن نية الجماعة مانع من الصحة. وعلى أي منهما، لو حصل الشك في صحة الصلاة الملفقة ما بين الجماعة والفرادى، كان مقتضاه البناء على صحتها، لأن المورد من صغريات الشك في الشرطية، أو المانعية، وهو مجرى لأصالة البراءة عن كليهما.
نعم لو كان الشك شكاً في أصل مشروعية العدول من الجماعة إلى الفرادى، فإن مقتضى الأصل البناء على عدم مشروعيته، لأن الصلاة عبادة توقيفية، وكيفية الاتيان بها تقوم على وجود الدليل، ولم يقم دليل على الاتيان بالصلاة ملفقة بين الجماعة الفرادى، بل قام على الإتيان بها بأحد الوصفين، إما جماعة من أولها لآخرها، وإما فرادى من أولها لآخرها.
أدلة القول الأول:
واستدل القائلون بجواز العدول مطلقاً بوجوه:
الأول: الإجماع، المدعى من قبل الشيخ(ره) في الخلاف.
وللأعلام كلام في إجماعات الخلاف تشترك كلها في عدم حجيتها، فذكر بعضهم أن ذلك يعود لأنها إجماعات على وفق القاعدة، وقال آخرون أنها إجماعات احتجاجية، لأنه(ره) يعقب غالباً هذه الإجماعات بالإشارة لوجود النص، وقال ثالث بأنها إجماعات أهل العصر الواحد.
وبالجملة، إن مثل إجماعات الخلاف، مما لا يعتمد عليه، ولا يجعل دليلاً.
الثاني: إن الجماعة ليست واجبة ابتداء، بل هي أمر مستحب، فلا يكون الاستمرار عليها واجباً، فيجوز العدل منها في الأثناء متى شاء.
ويجاب عنه، بمنع ثبوت الملازمة بين العدمين، لأن استصحاب جواز العدول أشبه بالقياس، فإنه يمكن أن يكون العمل في مبدأه مستحباً لكنه متى دخل فيه المكلف صار واجباً، وذلك نظير الاعتكاف فإنه مستحب، فمتى دخل اليوم الثالث صار واجباً، أو العمرة، فإنها مستحبة، لكنه متى تلبس بالإحرام وجب عليه إكمال المناسك ليتحلل منه، وهكذا.
الثالث: من المعلوم أن المأموم ينال فضلاً وثواباً حال ائتمامه بالإمام في صلاة الجماعة، فإذا ترك الجماعة، خسر ذلك الفضل الذي كان يناله حين الأئتمام، لكنه لا يمنع من صحة صلاته.
وأجيب عنه، بأنه وإن كان ترك الصلاة مع الإمام تفويتاً للفضل، لكن ذلك لا يوجب صحة صلاته، لأنه قد ثبت أن لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولم تتضمن صلاته ذلك، لأن المفروض أن الإمام قد تحملها، ومن المحتمل أنه يشترط في التحمل بقائه على وصف الجماعة دون ما إذا عدل، وإلا كانت صلاته من دون قراءة، فتكون غير صحيحة.
الرابع: ما تمسك به صاحب الجواهر(ره)، من أن الجماعة لما كانت خارجة عن ماهية الصلاة، فلن تكون شرطاً في صحتها[1].
وما ذكره(ره) من أن الجماعة خارجة عن ماهية الصلاة لا خلاف فيه، إلا أنه من المحتمل جداً أن يكون الاستمرار في صلاة الجماعة شرطاً للبناء على مشروعية إقامة الجماعة، فيكون الاستمرار فيها شرطاً في صحتها.
أدلة القول بالتفصيل:
وقد استدل المحقق الحائري(ره) على التفصيل، بما حاصله: إن وصف الجماعة ينتفي عن الصلاة التي يكون المكلف ناوياً فيها الانفراد منذ بدايتها، ولا تكون الإطلاقات شاملة إليها، بخلاف ما إذا نوى الانفراد في أثناءها، لأن العدول في أثناء الصلاة لا يقلب ما مضى من وصف الجماعة إلى شيء آخر، بعدما صدق العنوان، لأن المستفاد من الإطلاقات أن الوصف بالجماعة ينطبق على الصلاة بمجرد الشروع فيها بقصد الجماعة والتبعية.
وقد استدل بعض الأعاظم(ره) على القول بالتفصيل، فيجوز له العدول إذا بدا له العدول في أثناء الصلاة، ولا يجوز له ذلك لو كان ناوياً له منذ البداية، فذكر أن الموجب للحكم بعدم جواز العدول حال نية الإنفراد منذ البداية، إلى أنه لا يوجد دليل على مشروعية الإئتمام في بعض الصلاة، وإنما الثابت بأدلة الجماعة، مثل قوله(ع) في صحيحة زرارة والفضيل: وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلها، ولكنها سنة. مشروعيتها واستحبابها في تمام الصلاة، ولا يشمل الاقتداء في بعضها دون البعض، وقد عرفت أن مقتضى الأصل هو عدم المشروعية.
نعم في الموارد المنصوص كالمأموم المسبوق، واقتداء الحاضر بالمسافر، والعكس، واقتداء مصلي الرباعية بمصلي الثلاثية، والعكس، أو الثنائية، فإنه يجوز العدول، ولو كان عالماً بذلك منذ البداية، للنص الخاص في هذه الموارد الدال على جواز العدول.
وأما إذا بدا له العدول في الأثناء، فلا خلاف في جواز العدول، سواء كان لعذر أم لا، وكذا قبل التشهد لو كان لعذر لوجود نص خاص على الجواز.
ثم إن موارد العدول المتصورة ثلاثة، وقد دل النص الخاص على جواز العدول في كل واحد منها:
الأول: أن يكون عدوله قبل سلام الإمام، بدون عذر، ويدل على جوازه، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) في الرجل يكون خلف الإمام فيطيل التشهد؟ فقال: يسلم من خلفه يمضي لحاجته إن أحب[2].
الثاني: أن يكون عدوله قبل سلام الإمام، لكن لعذر عنده، ويدل عليه صحيحة أبي المغرا قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الرجل يكون خلف الإمام فيسهو فيسلم قبل أن يسلم الإمام؟ قال: لا بأس[3].
الثالث: أن يعدل قبل التشهد لعذر، ويدل عليه صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(ع) قال: سألته عن الرجل يكون خلف الإمام فيطوّل الإمام بالتشهد فيأخذ الرجل البول أو يتخوّف على شيء يفوت، أو يعرض له وجع، كيف يصنع؟ قال: يتشهد هو وينصرف ويدع الإمام[4].
ومنه تعرف أن تفصيل الشيخ(ره) بين وجود العذر، فيجوز العدول، وبين عدمه فلا يجوز، والظاهر أن مستنده هو صحيحة علي بن جعفر المتقدمة، بعد إلغاء خصوصية المورد وهو التشهد، ليتعدى منه إلى سائر الأحوال. في غير محله، بعد وجود إطلاق في الأدلة في الموارد الثلاثة يدل على جواز العدول مطلقاً وإن لم يكن عنده عذر.
وأما في غير هذه الموارد الثلاثة التي ذكرنا، والتفصيل فيها، بأن يقال: بأنه يجوز العدول مطلقاً حال كونه معذوراً، ولا يجوز حال عدم العذر له، فلا وجه له، لعدم الدليل عليه، ولا يوجد ما يساعد على التعدي عن مورد النص، بل إن ثبت الجواز، كان مقتضاه البناء على جوازه مطلقاً من دون تفصيل بين العذر وعدمه، وإلا كان المتعين هو المنع مطلقاً أيضاً. لأن الأثر المترتب على وجود العذر هو الجواز التكليفي فقط، دون الأثر الوضعي وهو صحة الصلاة الذي هو محل الكلام[5].
وقد يعترض عليه(ره) بعدم وجود خصوصية للموارد المذكورة، بل يمكن التعدي منها إلى كافة موارد العدول، ويساعد على ذلك، ما ورد في صلاة الخوف، يقول تعالى:- (وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم) [6].
والمستفاد من الآية الشريفة، هو جعل النبي الأكرم(ص) المقاتلين طائفتين حال أداءه للصلاة، تصلي إحداهما معه، وهي حاملة للسلاح، وتقف الثانية مواجهة للعدو للحراسة، فإذا سجد من يصلي معه(ص) تقوم الطائفة الثانية بالحراسة خلفهم، ويعد أن تنتهي الأولى من صلاتها تأخذ الثانية مكانها في الصلاة، وتقوم الأولى بالحراسة.
ولم تتعرض الآية لبيان كيفية صلاة الطائفتين معه(ص) والمتيقن أنهما يصليان معه(ص)، والظاهر أن كيفية صلاتهما كالتالي: أنه بعد رفع الطائفة الأولى رأسها من السجود تقوم لتصلي الركعة الثانية، ويتشهدون ويسلمون، والإمام قائم في الثانية، وينصرفوا إلى موضع الحراسة، فتأتي الطائفة الثانية وتبدأ الصلاة ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ويطيل تشهده ليقوموا ويصلوا بقية صلاتهم، ثم يسلم الإمام بهم، فتكون للطائفة الأولى تكبيرة الإحرام، وللطائفة الثانية التسليم.
نعم قد يقبل الدليل المذكور للبناء على جواز العدول منذ البداية، بأن يكون ناوياً له حال كونه مضطراً إلى ذلك، لا أنه يجوز له نية العدول منذ البداية من دون وجود اضطرار.
أدلة القائلين بعدم الجواز:
واستدل القائلون بعدم جواز العدول مطلقاً من دون تفصيل بين نية العدول منذ البداية، وبين نية العدول في الأثناء، وبين مورد الاضطرار، وعدمه، بأدلة:
منها: قاعدة الاشتغال، بتقريب: من المعلوم أن المكلف عالم باشتغال ذمته بصلاة الفريضة، وقد دخل في صلاة الجماعة بنية الانفراد، أو عزم على الانفراد في الأثناء، فيشك بعد فراغه من الصلاة في فراغ ذمته مما كانت مشغولة به، ومقتضى قاعدة الاشتغال، البناء على عدم الفراغ. ويساعد على ذلك أن العبادات توقيفية، ومع الشك في مشروعية مثل هذه الصلاة، يكون مقتضى الأصل هو عدم مشروعيتها.
وظاهر كلام بعض الأعاظم(ره) التفصيل في جريان الأصل المذكور، فيجري لو كان نواياً الانفراد منذ البداية، ولا يجري لو نواه حال الصلاة، لأنه يكون المورد من صغريات الشك في شرطية الاستمرار في الجماعة في صحة الصلاة، وهذا يكون مورداً لجريان أصالة البراءة، وليس الاشتغال، لأنه شك في الوجوب الشرطي النفسي، لما هو المقرر في محله، أنه عند الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيـين، تجري أصالة البراءة.
ومنها: إن المنفرد في أثناء الصلاة تارك للقراءة عمداً، ومن المعلوم أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، والمتيقن من سقوطها في صلاة الجماعة هو حال الائتمام في تمام الصلاة، لا مطلقاً، وعليه، لو عدل المصلي في الأثناء عن صلاة الجماعة، يحكم ببطلان صلاته لتركه القراءة متعمداً، ولا مجال للاستناد لقاعدة لا تعاد لتصحيح صلاته، لأنها مختصة بمن ترك القراءة جاهلاً أو ناسياً.
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: إن المنع من جريان قاعدة لا تعاد في غير محله، لأنها وإن كانت مختصة بالمعذور، إلا أن ذلك لا يختص بخصوص الجاهل والناسي، بل يشمل العامد الذي ترك القراءة لعذر، كما في المقام، فإنه جاهل ببطلان الائتمام في تمام الصلاة، فيكون معذوراً في تركه للقراءة، فتشمله القاعدة المذكورة.
الثاني: إن الدليل أخص من المدعى، ذلك أنه يمكن فرض الانفراد بدون الإخلال بالقراءة كما لو كانت الصلاة جهرية، ولم يسمع قراءة الإمام حتى الهمهمة، فقرأ لنفسه، أو مطلقاً، أو كانت الصلاة إخفاتية، وكان مسبوقاً بركعتين واقتدى بالإمام في الركعة الثانية بعد القراءة، أو في الثالثة وأتى بالقراءة لنفسه كما هي وظيفته، ثم عدل إلى الانفراد في الركعة الرابعة للإمام، فلن يكون مصلياً من دون قراءة، فلا يكون هناك ما يوجب البطلان.
ومنها: قد عرفت أنه لو زاد في الصلاة ركناً ولو سهواً كان ذلك موجباً للبناء على بطلان صلاته، خرج من ذلك ما لو كان في صلاة الجماعة، فإنه لا يحكم بذلك، والقدر المتيقن مما دل على الاستثناء من كان مؤتماً في تمام الصلاة، فلا يشمل من عدل أثناءها، أو كان ناوياً للعدول منذ البداية، وعليه لو زاد من كان ناوياً للعدول منذ البداية، أو عدل في الأثناء خلال ائتمامه وقبل عدوله ركناً، وحصل منه العدول بعد ذلك، أوجب ذلك بطلان صلاته، لعدم شمول ما دل على الاستثناء إليه، لما عرفت من اختصاصه بمن كان مؤتماً في تمام الصلاة.
وأجيب عنه، مضافاً لكونه أخص من المدعى، لأنه سوف يكن مختصاً بما إذا حصلت منه الزيادة في الصلاة لركن لا مطلقاً، فإنه يمكن التمسك بإطلاق الدليل المخصص لما دل على بطلان الصلاة بزيادة ركن فيها ولو سهواً، لأنه يشمل بإطلاقه ما إذا عدل إلى الانفراد بعد ذلك، فيحكم بصحة الصلاة.
ومنها: استصحاب البقاء على الائتمام، للشك في انقطاعه بمجرد نية العدول إلى الانفراد، فلا يمكنه ترتيب أحكام المنفرد، فلا تجوز له القراءة مع سماعه قراءة الإمام، ولو شك بين الثلاث والأربع مثلاً ليس له البناء على الأربع، عملاً باستصحاب بقاء الجماعة.
وقد أجيب عنه، بجوابين:
الأول: مبنائي، وهو أن جريان الاستصحاب المذكور من موارد جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وقد تقرر في محله، البناء على عدم جريانه.
الثاني: إن اركان الاستصحاب غير متوفرة في المقام، لعدم وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، لأن الائتمام والجماعة من العناوين القصدية، والمصلي إنما كان محكوماً بأحكام الجماعة، لأنه كان ناوياً لها، وبعد عدوله إلى الانفراد، يكون ذلك القصد قد انعدم وزال لا محالة، فأصبح بذلك موضوعاً آخر، وهذا مانع من جريان الاستصحاب.
ثم إنه بعد استعراض أدلة الأقوال الثلاثة، يلزم تنقيح مطلب مهم قبل بيان المختار، وهو أن الجماعة وصف للصلاة بأجمعها من أولها لآخرها وليس لأبعاضها، أو أنها وصف لكل جزء من أجزائها؟
ولا يخفى مدى الفرق بين الاحتمالين، ذلك أنه لو كانت الجماعة وصفاً للصلاة بتمامها منذ البداية إلى النهاية، لن يجوز العدول، لا منذ البداية، ولا في الأثناء، بخلاف ما لو كانت الجماعة وصفاً لكل جزء جزء من أجزائها، فلن يكون هناك ما يمنع من جواز العدول في البداية وفي الأثناء.
قد يقال: بأن المستفاد من النصوص أن الجماعة وصف لأبعاض الصلاة، وليست وصفاً لتمام الصلاة، فلاحظ ما رواه في الفقيه، قال: وكان معاذ يؤم في مسجد على عهد رسول الله(ص) ويطيل القراءة، وأنه مر به رجل فافتتح سورة طويلة، فقرأ الرجل لنفسه وصلى، ثم ركب راحلته، فبلغ ذلك رسول الله(ص) فبعث إلى معاذ، فقال: يا معاذ إياك أن تكون فتاناً، عليك بـ: الشمس وضحاها، وذواتها[7].
وحمل الخبر المذكور على كون الرجل قد قطع صلاته، وابتدأ الصلاة من جديد خلاف الظاهر، فإن المستفاد منه أنه عدل إلى الإنفراد، وأكمل صلاته منفرداً، وهذا يفيد أن الجماعة وصف لأبعاض الصلاة، وليس لتمامها. نعم المشكلة أن الرواية ضعيفة السند، ذلك أن الصدوق(ره) لم ينقل سنده إلى معاذ، ولم يذكر لها سنداً.
ومنها: ما ورد في جواز التسليم في التشهد قبل الإمام، ففي صحيح الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) في الرجل يكون خلف الإمام فيطيل الإمام التشهد؟ فقال: يسلم من خلفه ويمضي لحاجته إن أحب[8]، ودلالته على كون الجماعة وصف للأبعاض واضحة.
ومنها: صحيحة أبي المغرا قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الرجل يكون خلف الإمام فيسهو فيسلم قبل أن يسلم الإمام؟ قال: لا بأس[9].
ومنها: ما دل على جواز التشهد قبل أن يتشهد الإمام، كما في صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(ع)، قال: سألته عن الرجل يكون خلف الإمام فيطوّل الإمام بالتشهد فيأخذ الرجل البول أو يتخوّف على شيء يفوت، أو يعرض له وجع، كيف يصنع؟ قال: يتشهد هو وينصرف ويدع الإمام[10].
ويساعد على كون الجماعة ليست وصفاً لتمام الصلاة من أولها لآخرها، بل هو وصف لأبعاضها، أن الجماعة والإئتمام من العناوين القصدية، فيثبت الائتمام ومن ثمّ الجماعة حال قصد المكلف لذلك، ويثبت الانفراد حال قصد المكلف لذلك، فيمكن أن تكون الركعة الأولى موصوفة بالجماعة، وتكون الثانية موصوفة بالانفراد، كل ذلك لحصول القصد منه لكل واحد منهما في كل واحدة منهما.
والإنصاف أن الجزم بذلك مشكل جداً، فإن المتفاهم العرفي من إطلاق لفظة الجماعة، لاحظ اطلاقها على مجموع الصلاة من أولها لآخرها، ولا يتصور اطلاقهم إياه على خصوص بعض الأفعال الصادرة من المكلف، وأما النصوص المذكورة، فليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي ناظرة لجواز العدول في موارد، وظاهر حال الضرورة لا مطلقاً.
وعليه، فإن الاحتياط لا يترك بعدم جواز العدول مطلقاً، إلا في موارد الضرورة، كما هو مختار بعض أساطين العصر من المحققين(أطال الله في عمره الشريفة)، والله العالم بحقائق الأمور.
[1] جواهر الكلام ج 14 ص 25.
[2] وسائل الشيعة ج 8 ب 64 من أبواب صلاة الجماعة ح 3 ص 413.
[3] وسائل الشيعة ج 8 ب 64 من أبواب صلاة الجماعة ح 5 ص 414.
[4] وسائل الشيعة ج 8 ب 64 من أبواب صلاة الجماعة ح 2 ص 413
[5] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 17 ص 87-88.
[6] سورة النساء الآية رقم 102
[7] وسائل الشيعة ج 8 ب 69 من أبواب صلاة الجماعة ح 4 ص 420.
[8] وسائل الشيعة ج 8 ب 64 من أبواب صلاة الجماعة ح 3 ص 413.
[9] المصدر السابق ح 5 ص 414.
[10] وسائل الشيعة ج 8 ب 64 من أبواب صلاة الجماعة ح 2 ص 413.