السنة الشريفة
معناها، حجيتها، موانع القبول بها(1)
هناك رؤيتان في الوسط الإسلامي حيال النصوص والأفعال الصادرة عن النبي الأكرم محمد بن عبد الله(ص):
الأولى: التي تعتبر ما يصدر عنه(ص) مصدراً من مصادر الاستنباط لكافة المعارف والاحتياجات.
الثانية: التي تعتبر الصادر عنه مجرد اجتهادات قد صدرت عن بشر من الناس لا يختلف عنهم في شيء أبداً.
ويمكن عدّ فئة ثالثة، أو اعتبارها منبثقة من الفئة الثانية، وهم الذين يعتبرون الصادر عن رسول الله(ص) توضيحاً وشرحاً للقرآن الكريم، وبياناً لما تضمنته آياته، ويمكن اعتبار هذه الفئة بمثابة البرزخ بين الفئتين السابقتين.
ويتفق أفراد الفئة الثانية على عدم عدّ الصادر عن رسول الله(ص) صالحاً للمرجعية والدليلية على نحو الاستقلال.
تعريف السنة:
لا يختلف مفهوم السنة عن بقية المفاهيم الأخرى التي يوجد لها معنيان، معنى في كلمات أهل اللغة واستعمالاتهم، ومعنى في الاصطلاح عند أهل الاختصاص، وقد يتفق المعنيان، بحيث لا يكون المعنى الذي يستعمله علماء الحديث مغايراً للمعنى الموجود في كلمات أهل اللغة.
وعلى أي حال، فإن الرجوع لكلمات أهل اللغة، يفيد وجود معنيـين للسنة:
الأول: أنها بمعنى الطريقة، من دون تقيـيد لهذه الطريقة بشيء. وهي بهذا المعنى تعدّ معنى مطلقاً، فتطلق على كل طريقة موجودة في الخروج دون تحديد لها في مجال ما، أو اختصاص معين.
الثاني: السنة هي خصوص الطريقة الحسنة المستقيمة، وقد أخذ في التعريف الثاني قيدين اضافيـين وهما:
1-التوصيف بكونها حسنة، وهذا يعني أنه لا ينطبق على كل طريقة عنوان السنة ما لم تكن متصفة بهذه الصفة.
2-التوصيف بالاستقامة، وهذا كسابقه أيضاً، فلو لم توصف الطريقة بكونها مستقيمة لن يصدق عليها مفهوم السنة.
ولعل الأول من المعنيـين هو الأصح، فيكون معنى السنة لغة هو الطريقة والسيرة. طبعاً هذا كله بناءً على أن الموجود معنيـان، وليس مصداقين للسنة، كما هو غير بعيد، ويكون المورد من صغريات الاشتباه بين المفهوم والمصداق.
وأما في الاصطلاح، فإنها تعرف عندنا، بأنها: كل ما يصدر عن المعصوم(ع)، من قول، أو فعل، أو تقرير. ويتضمن التعريف المذكور عناوين ثلاثة:
الأول: القول، ونعني به كل ما يصدر عن المعصوم(ع) في مقام بيان الوظيفة الشرعية من الكلام والبيان.
الثاني: الفعل، وهو أن يصدر من المعصوم(ع) عملاً وفعلاً أو تركاً يكشف عن الحكم الشرعي، إذا كان مقترناً ببعض القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أنه بصدد تعليم الأمة، كالوضوءات البيانية الصادرة عن الأئمة الأطهار(ع)، فقد جاء عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: ألا أحكي لكم وضوء رسول الله(ص)، فإن فيها قرينة تدل على أنه بصدد التعليم والبيان.
الثالث: التقرير والسكوت، وبيانه: إذا واجه المعصوم(ع) سلوكاً ما، أو ظاهرة معينة، كما لو وجد شخصاً يتوضأ فمسح منكوساً، فهو أمام خيارين:
1-أن يبدي موقف الشرع من ذلك السلوك، وهذا يكشف عن وجود دليل لفظي دل على الحكم الشرعي في تلك الواقعة، وهذا أجنبي عن محل كلامنا.
2-أن يسكت ولا يبدي موقفاً تجاه ذلك السلوك، فيستكشف من سكوته إمضاءه ورضاه بذلك السلوك، وقبوله بتلك الظاهرة الموجودة أمامه.
ومن خلال التعريف المتقدم للسنة، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: السنة القولية:
ونعني بها كل الأقوال الصادرة عن المعصومين(ع)، مثل قول النبي الأكرم محمد(ص): لا ضرر ولا ضرار.
الثاني: السنة الفعلية:
وهي الأفعال التي صدرت من النبي(ص) كإقامته الصلاة بأجزائها وشرائطها أمام الناس لغرض تعليمهم المقصود من الصلاة في قوله تعالى:- (وأقيموا الصلاة)، وقال لهم(ص) بعد ذلك: صلوا كما رأيتموني أصلي.
وحج(ص) بيت الله الحرام، وأتى بكافة أجزاء الحج وشرائطه، امتثالاً لقوله تعالى:- (ولله على الناس حجوا البيت)، وقال للمسلمين خذو عني مناسككم.
الثالث: السنة التقريرية:
وهي قسمان:
1-تقريرية سكوتية: وهي أن يفعل الغير عملاً أو يقول قولاً في محضر المعصوم(ع)، أو يحكى له بعد ذلك لعدم حضوره، فيسكت عنه رضاً به مع قدرته على الردع عنه لو أراد أن يردع، لعدم وجود مانع يمنعه من ذلك.
2-تقريرية قولية: أن يحصل الفعل، فيقول: المعصوم(ع) لفاعله: بارك الله فيك، أو يدعو له، أو يشجعه على ذلك، كما حصل من رسول الله(ص) في قضية عروة البارقي، وقوله(ص) له: بارك الله لك في صفقة يمينك.
وهنا نقطتان مهمتان ترتبطان بالتعريف المذكور:
الأولى: خروج القرآن الكريم عن مفهوم السنة، فلا يدخل فيها شيء من الآيات القرآنية، لأنها ليست مقولاً للنبي الأكرم محمد(ص)، بل هي كلام الله سبحانه وتعالى، والفرض أن السنة قول المعصوم(ع).
الثانية: الظاهر من الأعلام عدم اختصاص السنة بخصوص الأحكام الشرعية، بل هي شاملة للأمور الأخرى كالعقدية مثلاً، وغير ذلك.
رؤية الحداثويـين:
اختلفت حقيقة السنة ومعناها عند الحداثويـين، فلم يرتضوا التعريف الذي اتفق عليه علماء المسلمين وأنكروه، وترتب على ذلك أثر عند بعضهم أن منع حجية السنة الشريفة، واقتصر على خصوص القرآن الكريم.
وحاصل ما ذكره هؤلاء كالجابري وشحرور، أن السنة عبارة عن التراث، وهو النتاج الفكري الذي خلفه السلف للخلف، ويكون له دور في تكوين طريقة تفكيرهم.
فالسنة عندهم عبارة عن تطبيق رسول الله(ص) في أيام حياته، وما بينه من أحكام الله تعالى، فالسنة دورها هو تبيـين ما تضمنه الكتاب العزيز، وليست مصدراً للتشريع، لقوله تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)، فوظيفة السنة تبيـينية وليست بيانية ولا تبيانية.
وقد أوضح ذلك بعض الأساتذة(وفقه الله) بالأمثلة التالية:
1-الصلوات الخمس المفروضة، فلو عاش رسول الله(ص) اليوم في بلد كله ليل، أو بلد كله نهار، كالدول الاسكندنافية مثلاً، فهل سوف تكون الصلوات المفروضة خمس صلوات أيضاً موزعة بين الليل والنهار، أم سوف تختلف الكمية الصلاتية، وأوقات أداءها؟!
2-مواقيت الحج الخمسة، ميقات أهل اليمن، وميقات أهل العراق، وميقات أهل الشام، وميقات أهل نجد، وميقات أهل المغرب. فإن رسول الله(ص) لو كان حياً لن يحصر المواقيت في خصوص هذه المواقيت الخمسة، بل سوف يضيف إليها مواقيت أخرى حسب خارطة الطرق الموجودة حالياً، بل ربما ألغى ميقاتية بعض المواقيت واستعاض عنها بمواقيت أخرى.
3-دية القتل، فقد كانت في عهد رسول الله(ص) مئة بعير، أما اليوم فقد تختلف حسب اختلاف الزمان والمكان.
وهكذا يمكن التمثيل أيضاً بالطلاق بيد من أخذ بالساق، فإنها كانت في مجتمع ذكوري، لكن اليوم يمكن أن تتغير فيكون الطلاق بيد الأنثى.
وللمعلومية، إن عدم تعرض القرآن الكريم لهذه الجزئيات لا يعد نقصاً في القرآن الكريم، أو قصوراً، بل لأنها من الموضوعات المتغيرة بين فترة وأخرى لذا لم يتعرض إليها.
ويلتـزم جمع من الحداثويـين كالدكتور محمد شحرور، أن النصوص الصادرة عن النبي محمد(ص) إنما هي اجتهادات صادرة عنه(ص) قد يصيب فيها وقد يخطئ.
الثمرة العملية بين التعريفين:
ولا يخفى مدى الفرق الكبير جداً بين التعريفين، فإنه وفقاً لمختار الحداثويـين لا يمكن للسنة التصرف في القرآن الكريم تخصيصاً وتقيـيداً، بخلافه على رأي علماء المسلمين.
كما أنه لن يكون هناك تعارض في النصوص أصلاً، لأن الاجتهاد قد يتغير من حين لآخر فيتغير الرأي.
هذا كله بناءً على عدم ثبوت الولاية التشريعية للمعصومين(ع)، وأما معها فسوف يختلف الحال.
مدارية السنة:
وأختار بعض الأساتذة(وفقه الله) نحواً قد يكون برزخياً بين القولين السابقين، فإنه لا يقول بحجية السنة بقول مطلق، كما هو المعروف بين الأعلام، ولا ينفي حجيتها والحاجة إليها كذلك، بل هو يقرر أنه يستفاد من السنة في حدود تطبيق القرآن الكريم، وبيان حقانية المعنى المفهوم من الآيات القرآنية، فهي أقرب للمرجعية التي تحكم في حجية الظهور المستفاد من الآيات، فلو أن القارئ لشيء من الآيات المباركة استظهر شيئاً منها، فإن الموجب للبناء على حجية هذا الظهور وصحته، هو موافقته لما تضمنته النصوص الواردة في الآية المذكورة، فإذا كانت النصوص موافقة للاستظهار بني على صحته، وإلا فلا، وليس هذا رجوعاً للنصوص لتفسير الآية الشريفة، بل ملاحظتها لصحة الاستظهار.
وهذا المعنى يستفاد من كلمات السيد العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان، قال(قده): ومن هنا يظهر أن شأن النبي(ص) في هذا المقام هو التعليم فحسب، والتعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به، والحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد، لا إيجاد للطريق، وخلق للمقصد، والمعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية ونضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم ويأنس به، فلا يقع في جهد الترتيب، وكدّ التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.
وهذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم)[1]، وقوله تعالى:- (ويعلمهم الكتاب والحكمة)[2]، فالنبي(ص) إنما يعلم الناس ويبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه، ويبينه الله سبحانه بكلامه، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة، لأنه(ص) يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى:– (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)[3]، وقوله تعالى:- (وهذا لسان عربي مبين)[4].
على أن الأخبار المتواترة عنه(ص) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن والأخذ به وعرض الروايات المنقولة عنه(ص) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي(ص) مما يمكن استفادته من الكتاب، ولو توقف ذلك على بيان النبي(ص) كان من الدور الباطل وهو ظاهر[5].
وقال أيضاً في موضع آخر من الكتاب المذكور: ولا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأما رسوله(ص) فله حيثيتان:
إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، وهو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب، وما يتعلق ويرتبط بها، كما قال تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)[6].
والثانية: ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء، قال تعالى:- (لتحكم بين الناس بما أراك الله)[7].
وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان(ص) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة، فقال:- (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)[8]، فأشركهم به في المشاورة ووحده في العزم[9].
وقفة مع بعض الأساتذة:
والظاهر أنه لا يوجد فرق جوهري بين ما بنى عليه بعض الأساتذة(وفقه الله)، وبين ما أختاره علماء الطائفة، وإنما الموجود بينهما هو مجرد تغيـير في الاسم، فإنهم يعبرون عنه تفويضاً، للنصوص أو جعلاً وتشريعاً، وهو يعبر عنه تطبيقاً، ومجرد التغيـير جارٍ على كليهما، لأن السنة تنسخ كما ينسخ القرآن.
ولو قيل بأن الثمرة تظهر في تعارض النصوص، ذلك أنه وفقاً لمختار بعض الأساتذة(وفقه الله) لن تحصل المعارضة بينها، بخلافه على مبنى المشهور، لأن المفروض أن النص الصادر من المعصوم الأول سوف يكون مصداقاً يتناسب والعصر والزمان الذي كان يعيش فيه، والظروف المحيطة، فإذا جاء المعصوم الآخر، وكانت الظروف الموضوعية المحيطة به مغايرة، فإنه يقدم مصداقاً آخر يغايرا لمصداق الذي قدمه المعصوم الذي سبقه، وبالتالي لن يكون في البين تعارضاً، لأن المفروض أن لكل حكم قد صدر من أحد المعصوم تأريخاً محدداً، وبالتالي فإن مقتضى الالتزام بالتأريخانية، سف تنتفي المعارضة.
قلنا، بأن هذا ليس فرقاً جوهرياً مرتبطاً بذات السنة، وإنما هو في الحقيقة يعود لكيفية التعاطي معها، وهو نحو من أنحاء معالجة المعارضة المتصورة بين النصوص، ولا ربط له بذات السنة كما لا يخفى.
أدلة الحجية:
إن عمدة الدليل على حجية السنة هو التمسك بعصمة النبي الكريم والأئمة الطاهرين(ع)، فهم معصومون عن الذنوب صغيرها وكبيرها، في التبليغ والتطبيق، في السر والعلن، قبل بعثة النبي محمد(ص)، وبعد البعثة، عن الخطأ والعمد والسهو والنسيان.
إنما الكلام في ما لو رفعت اليد عن العصمة، فهل يمكن الاستدلال على حجية السنة الشريفة بطريق آخر أم لا.
الاستدلال بدليل العقل:
وقد يستدل على ذلك بدليل العقل، ويمكن تقريبه بأحد بيانين:
الأول: التناقض.
الثاني: الدور.
وسوف نقصر الكلام على الأول منهما، وهو التناقض طلباً للاختصار.
التناقض:
ويمكن تقريب التناقض، بأن العقل يحكم بأن قول النبي(ص) وفعله وتقريره حجة، وإلا لزم التناقض في التشريع والجهل في الشارع، بيان ذلك:
لو سلمنا أن سنة النبي(ص) ليست بحجة، فإن الموجب لمنع حجيتها أحد محتملات:
1-أن النبي(ص) لا يحكي عن الله تعالى، ولا يعبر عن تشريعاته، لأنه جاهل بها، أو ضال، والعياذ بالله، وهذا باطل بالضرورة الإجماع.
2-إن ذلك يعود لكفاية ما في القرآن من بيان وتشريعات، وهو باطل بالوجدان، لأن القرآن وارد لبيان أصل التشريع وليس تفاصيله، وهو ساكت عن كثير من التشريعات التي يحتاج إليها.
3-الالتـزام بأن البشر ومن خلال عقولهم الناقصة قادرون على استنباط أحكام الله تعالى دون حاجة إلى النبي(ص)، وهو باطل بالوجدان، والعقل.
4-الالتـزام أن الله تعالى لا يريد من العباد العلم بأحكامه ولا العمل بها، فهو قد رفع اليد عن التشريعات التي ذكرها في الكتاب، وهذا كسابقيه أيضاً باطل بالضرورة والإجماع.
فيتعين أنه بعدما شرع الله تعالى أحكاماً وكلفنا بها ولم يبينها في القرآن تفصيلاً ولم يرفع يده عنها، وسوف يحاسبنا عليها وعقولنا لا تصل إليها، فلابد من جعل طريق للوصول إليها، وإلا كان هذا من التكليف بما لا يطاق، وليس من طريق إلا النبي(ص).
ويمكن الجواب عن الدليل المذكور، بالالتزام بالاحتمال الثاني، ومنع كون الوارد في القرآن الكريم منحصراً في خصوص بيان أصل التشريع، بل هو متضمن لبيان جملة من التفصيلات أيضاً، ولذا تعد آياته المباركة عاماً فوقياً يرجع إليها في كثير من الموارد، بل تعد أيضاً دليلاً يستند إليه في مقام الاستدلال.
نعم يمكن البناء على أن دليل العقل بالتقريب المذكور يصلح أن يكون مؤيداً لحجية السنة الشريفة، وليس دليلاً على حجيتها، فتأمل.
الاستدلال بالكتاب:
وقد استدل بمجموعة من الآيات القرآنية على حجية السنة:
منها: قوله تعالى:- (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[10]، ودلالتها على الحجية من خلال الإطلاق، فإن المستفاد منها لزوم طاعة النبي محمد(ص) بصورة مطلقة دون قيد، فتكون نصاً في حجية قوله(ص)، ولزوم العمل بما يقول، وهذا هو معنى حجية سنته، ويساعد على ذلك اشتمال بعض الآيات على الأمر بطاعة الرسول(ص) مستقلاً عن طاعة الله تعالى، ما يكشف عن أن المراد منهما ليس واحداً.
قال السيد الطباطبائي(ره) في الميزان: ولا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأما رسوله(ص) فله حيثيتان:
إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، وهو يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب، وما يتعلق ويرتبط بها، كما قال تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)[11].
والثانية: ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء، قال تعالى:- (لتحكم بين الناس بما أراك الله)[12]، وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان(ص) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشورة، فقال:- (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)[13]، فأشركهم به في المشاورة ووحده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة، لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته، كما قال:- (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحي، وفيما يراه من الرأي.
وهذا المعنى والله أعلم، هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله:- (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد، فإن القصد لو كان متعلقاً بالتأكيد، كان ترك التكرار كما قيل: أطيعوا الله والرسول، أدل عليه وأقرب منه، فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه، وأن الإطاعتين واحدةـ وما كل تكرار يفيد التأكيد[14].
وقال بعض الأعيان(قده): فإن المراد من الإطاعة ليس الاقتفاء به فيما يبلّغه من الأحكام والوظائف، فإنه(ص) ليس له أمر ولا نهي في هاتيك الموارد، بل المراد اتباع قوله فيما له فيه أمر ونهي حتى يكون الاقتفاء به طاعة، والتخلف عنه معصية. ولأجل ذلك يجب حمل الآية على ما يكون الأمر النهي من عند نفسه، لا من عند الله، وإن كان الجميع منتهياً إليه تعالى، لكونه هو الذي أعطى له منصب القضاء والحكومة، فأعطى له حق الأمر والنهي[15].
مناقشة دلالة الآية:
وقد تمنع دلالة الآية المباركة، لمناقشات ذكرت حولها:
الأولى: إن الطاعة الواردة في الآية الشريفة المتعلقة بالنبي الأكرم محمد(ص)، ليست مختصة به(ص)، بل هي راجعة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، فيكون المقصود منها طاعة الرسول فيما أمر الله سبحانه به في كتابه الكريم، وفيما يخبر به عن الله عز وجل، وليس طاعته على نحو الاستقلال.
وقد عرفت جواب ذلك في ما ذكره العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان، من أن الطاعة المرتبطة بالنبي الكريم محمد(ص) مغايرة للطاعة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى.
وأما حصر كون الطاعة المطلوبة له(ص) في خصوص ما أمر الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم، فإنه ينفيه إطلاق الآية المباركة الإلزام الذي تضمنته، بلزوم طاعة النبي(ص) في كل شيء، وعدم حصر ذلك في خصوص شيء دون البقية.
الثانية: إن الطاعة المفروضة لرسول الله(ص) في هذه الآية وأضرابها، إنما هي بلحاظ كونه ولياً للأمر وحاكماً وسلطاناً ما دام يسير على وفق القرآن الكريم والأوامر الإلهية الثابتة في مرحلة سابقة، وليس لكونه مصدر تشريع وحكم وجعل، ويساعد على ذلك أن جميع الآيات التي تضمنت الأمر بطاعة الله تعالى مدنية النـزول، يعني بعدما أصبح لرسول الله(ص) دولة، وأصبح حاكماً عليها.
ويدفعها، قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)[16]، لأنها قد تضمنت ذكر طاعة لله سبحانه وتعالى، وللرسول الأكرم(ص)، ولأولي الأمر، وهذا يعني أن ملاك الطاعة للنبي(ص) ليس بملاك الحاكمية والسلطانية التي كانت له بعد تأسيس دولته في المدينة، وإلا لم يكن معنى لذكر أولي الأمر في الآية، ويساعد على ذلك أن المرجعية حال حصول المنازعة تكون للرسول(ص)، وهذا يعني أن الملاك في لزوم طاعته ليس حاكميته.
ومقتضى دلالة الآية المذكورة يشير إلى أن آيات الطاعة للرسول(ص)، ليس بملاك حاكميته، بل بلحاظ أنه(ص) مصدر جعل وتشريع للأحكام.
الثالثة: بعد التسليم بدلالة الآية الشريفة المتضمنة للزوم طاعة الله سبحانه، فإن أقصى ما تفيده لزوم طاعته أيام حياته، لتكون مختصة بعصر الرسالة لا مطلقاً.
وتدفع، بأن ما دل على لزوم طاعته(ص)، مطلق لا يتضمن ما يشير لاختصاصه بوقت دون آخر، ولو أدعي أن في البين انصرافاً، أجيب عنه بأنه ناجم من كثرة الوجود، وليس من كثرة الاستعمال، فلا يمنع من حجية الظهور.
[1] سورة النحل الآية رقم 44.
[2] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[3] السجدة الآية رقم 3.
[4] سورة النحل الآية رقم 103.
[5] الميزان في تفسير القرآن ج 3 ص 85.
[6] سورة النحل الآية رقم 44.
[7] سورة النساء الآية رقم 105.
[8] سورة آل عمران الآية رقم 159.
[9] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 388.
[10] سورة الآية رقم
[11] سورة النحل الآية رقم 44.
[12] سورة النساء الآية رقم 105.
[13] سورة آل عمران الآية رقم 159.
[14] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 388.
[15] تهذيب الأصول ج 3 ص 576-577.
[16] سورة المائدة الآية رقم 92.