قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)[1].
مدخل:
الآية الشريفة في معرض الحديث والإشارة إلى بيان تشريع أهم الفرائض التي بني عليها الإسلام، وهو فريضة الصوم. ومنشأ كونه من أهم الفرائض الإلهية المشرعة من قبل الباري سبحانه وتعالى يعود لكونه مجمعاً للكمال الفردي والاجتماعي والروحي، بل الجسماني أيضاً.
ومن المعلوم أن الصوم من أقوى الوسائل في كف النفس عن الشهوات، والبعد عن التشبه بالحيوان والقرب إلى ذروة مقام الإنسان، وبه يتهيأ إلى القيام بالطاعات، خصوصاً إذا اقترن الإمساك الظاهري بإمساك القلب عن كل ما لا يليق بمقام الرب سبحانه وتعالى، ولذلك كان الصوم نصف الصبر كما جاء ذلك عن النبي(ص).
أقسام الصوم:
هذا وقد ذكرت للصوم عدة أقسام لا بأس بالإشارة إليها:
الأول: الصوم الشرعي:
ونعني به ما يرى الشرع أن إيجاده خارجاً كافٍ لتحقق الغرض المطلوب إيجاده، فتفرغ الذمة المشتغلة بتكليف متوجه من الله سبحانه وتعالى متى ما تحقق هذا الفعل في الخارج.
ويتحقق هذا الامتـثال للأمر بالصوم الشرعي من خلال اجتناب المفطرات التي نص الفقهاء عليها وذكروها في رسائلهم العملية، كاجتناب الأكل والشرب، والنساء وما شابه ذلك.
ومتى تحقق من المكلف امتـثال ذلك فقد فرغت ذمته من التكليف، فلا يجب عليه قضاء ولا كفارة.
ومن المسلم به حصوله على منفعة الدنيا، وثواب الآخرة إن شاء الله تعالى، تفضلاً من الله سبحانه.
إلا أن هذا الصوم لا يحقق الفوائد الأخرى المرجوة، والتي على رأسها التقوى كما أشارت لذلك الآية المباركة، ومن هنا اصطلح على هذا الصوم عند العرفاء بكونه صوم العوام، ذلك لأنهم لا همّ لهم إلا خصوص إفراغ ذممهم من التكليف المتوجه لهم، دونما ملاحظة إلى لذة الارتباط بالخالق.
الثاني: الصوم الأخلاقي:
وهو عبارة عن اجتناب المفطرات المقررة في الرسائل العملية، مضافاً إلى صوم الجوارح، فتصوم العين والإذن والقدم.
وهذا يعني أن هذا النوع من الصوم لا ينحصر في الكف عن المفطرات فقط، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك بحيث تضاف إليه صيام الجوارح.
وكذلك هو صيام عن المحرمات والمكروهات، بل هو صوم حتى عن الشبهات كما لا يخفى.
فيعمد الصائم إلى حفظ الجوارح عن مخالفة الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في بعض النصوص أن الكذب في نهار شهر رمضان، والغيـبة، وجرح الآخرين باللسان مبطل للصيام.
فقد ورد أنه سمع رسول الله(ص) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله(ص) بطعام، فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إن الصوم ليس من الطعام والشراب[2].
وجاء في خبر آخر أن رسول الله(ص) أمر الصائمين استحباباً باستيذانه عند الإفطار، ولما حان وقت الإفطار جاءه رجل مسن يستأذن له ولابنتيه، فقال(ص): أنت صائم فأذهب وأفطر، وأما ابنـتاك فليستا صائمتين. فقال الرجل: يا رسول الله، أنا مطمئن أنهما صائمتان، فقال: اذهب وقل لهما أن يتقيأ، وكان رسول الله(ص) قد أعطاه جرة واسعة الفوهة، فلما عمل بطلب النبي(ص) سقطت من فم الفتاتين قطعتان من اللحم، فتعجب الرجل من ذلك لأنهما لم يأكلا لحماً، وقد كان ذلك اللحم نتناً، فلما سأل الرسول(ص) عن العلة؟ قال: ألم تقرأ القرآن، إن من يغتب، يأكل لحم الميتة، وهما قد تكلمتا بغيـبة الناس مع كونهما صائمتين، فتكونا قد أكلتا لحم الميتة.
وعلى هذا فمن تلاعب في هذا الشهر الكريم بنظره، فلم يحفظ عينه أو سمعه أو لسانه أو بقية أعضاءه، فإنه لم يوفق لبلوغ درجة التقوى، ولا الدعاء المستجاب، ولا تكامل السلوك، نعم يكون قد أنجز الصوم الشرعي، لكونه ممتنعاً عن المفطرات المقررة.
الثالث: الصوم العرفاني:
وهو صوم خواص الخواص، ولا يكون إلا بترك كل ما هو شاغل عن ذكر الله سبحانه وتعالى من حلال أو حرام، فبالإضافة إلى صوم البطن والجوارح والأعضاء، يصوم القلب عن خواطر السوء، ومن الصفات الرذيلة، وإن كانت موجودة فإن الصوم يحول دون تأججها، فلا يتأجج سوء الظن ولا التكبر.
وبعبارة أخرى، يصوم القلب عن الالتفات لغير الله تعالى، فالعارف عندما يصوم لا يوجد في قلبه أحد غير الله سبحانه وتعالى.
وهذا الصوم وإن كان الوصول له صعباً، لكنه ليس مستحيلاً، فمن وفق لأداء صومه الشرعي والأخلاقي على الوجه الأكمل، كان بإمكانه الوصول لهذا المقام، ولو في آخر الشهر المبارك.
فالشاب إذا أصرّ على الوصول إلى مقام خلوص القلب وصفائه بأن لا يتحكم في قلبه غير الله، فإنه يستطيع تحقيق ذلك.
وقد وجب الصوم في هذا الشهر من أجل هذه الغاية، وجب من أجل أن يتقدم الإنسان خطوة خطوة في علاقته مع الله عز وجل ابتداءاً من اليوم الأول، ثم الثاني، وهكذا، حتى يـبلغ ليالي القدر، وعندها يكون على ارتباط وثيق بالله سبحانه، فعلى الصائم في هذا الشهر المبارك أن يخطو نحو الأمام، ويستفيد من نور الولاية، ومن نور الصوم حتى تصوم بطنه وجوارحه، لعل الله يأخذ بيده، فيصل آخر شهر رمضان محل الرقي، وموضع الكمال.
شهود الشهر:
ثم بعد التمهيد الذي ذكرناه من خلال بيان أهمية هذه العبادة المشرّعة من قبل الباري سبحانه وتعالى، وبيان أقسام الصوم، وما هو الصوم المطلوب من المكلف في هذا الشرع والمندوب له من قبل الشارع، ينبغي الالتفات إلى أنه لا يجب على المكلف صيام شهر رمضان إلا بعد أن تـتوفر مجموعة من الشروط، يقسمها الفقهاء(رض) إلى قسمين:
الأول: شرائط الوجوب.
الثاني: شرائط الصحة.
ولما كان الحديث عن تفصيل هذه الشروط مربوط بالجانب الفقهي، فليطلب الحديث مفصلاً عنها من الفقه.
لكننا نشير إلى مفردة من المسائل الفقهية المرتبطة بواقع حياتنا الخارجية والعملية، وهي ما ورد في قوله تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه)[3]، فما هو المراد من الشهود المشار إليه في الآية الشريفة، هل يراد منه الحضور، بمعنى أن من لم يكن مسافراً، بل كان حاضراً في بلد، سواء كان ذلك البلد بلده، أم كان ذلك البلد بلد إقامته، أم كان مقراً لعمله، فإنه يجب عليه الصوم حينئذٍ، لكونه حاضراً.
أم أن المراد من الشهود رؤية الهلال، فمن شهد الشهر، يعني من رأى هلال الشهر، بحيث يعلم بدخول شهر رمضان، وبالتالي يكون مطلوباً منه القيام بعملية الصوم، لأن شرط وجوب الصوم عليه قد تحقق وهو دخول شهر رمضان المبارك نتيجة ظهور هلاله؟…
للمفسرين في تحديد أي هو المراد من الآية الشريفة، الاحتمال الأول، أم الاحتمال الثاني، قولان، حيث ذهب لكل قول منهما فريق، واستدل كل واحد منهما لمدعاه بما يثبت قوله.
هذا وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن المراد من الشهود يعني الحضور، فشهود الشهر حضوره، وهذا المعنى ينسجم مع كلا القولين، لأنه ينطبق على كليهما أنه حاضر الشهر، فالمقيم سواء كان في بلده، أم مقر عمره، أم مكان إقامته، يصدق عليه أنه حاضر الشهر، بالدلالة المطابقية، وكذا رآي الهلال ينطبق عليه نفس العنوان، لكنه من خلال الدلالة الالتـزامية، لأن حضور الشهر يتوقف على تحقق دخول شهر رمضان، وهو لا يحصل ما لم يثبت الهلال، فيدل حينئذٍ على أنه لكي ينطبق عليه أنه شهد الشهر لزوم دخول شهر رمضان حتى يقال حضر الشهر.
مع قضية الهلال:
وعندما يصل بنا الحديث لمسألة الهلال، نجد أن هناك كلاماً كثيراً يطفو للسطح حول هذه القضية، ويمكننا تلخيص ذلك كله ضمن نقطتين أساسيتين:
الأولى: المنهجية الفقهية في التعامل مع ثبوت الهلال.
الثانية: المشكلة الاجتماعية، في كيفية التعامل مع الهلال، بحيث أن هذا الموضوع يسبب مشكلة عارمة لكثير من الناس في من يقبل منه ومن لا يقبل، وكيفية القبول، وما شابه ذلك.
فلا بأس بصرف عنان الكلام للحديث عن هاتين النقطتين بشيء من التفصيل، فنقول:
الأولى: المنهجية الفقهية في التعامل مع ثبوت الهلال:
إذ هناك بعض الدعاة والمحدثين الذين يدعون إلى تطوير عملية اكتشاف تولد الهلال وظهوره في السماء، وبالتالي الحكم بثبوته، من خلال الاستفادة من الآلات العلمية الحديثة، خصوصاً وأنها أكثر دقة في التحديد واثبات التولد، ومن ثمّ الظهور والولادة.
بل قد يتجرأ بعضهم فيسم الإسلام بالبعد عن مواكبة التقدم العلمي والتطور الحياتي، إذ أنه لا زال متوقفاً على استخدام منهج قديم بالي، لا يمكن أن يعول عليه لكي يقرر من خلاله مصير أمة، وبيان فرضها مع ربها، بحيث ربما كان الناس نتيجة عدم الوصول للحقيقة فيه عصاة.
على أنه يمكن أن نجد من يدعو إلى تطوير عملية الاستهلال، وذلك من خلال الاستفادة من مسلك الإمام الخميني(قده) في دخالة الزمان والمكان في استنباط الأحكام الشرعية، فيقال:
لا ريب أنه اليوم بمقتضى القاعدة المذكورة لابد من أن يستفاد من الوسائل الحديثة في عملية الاستهلال.
طرق ثبوت الهلال:
هذا وقبل التعقيب على الكلام المذكور، نشير إلى أن هناك عدة طرق ذكرها الفقهاء(رض) في رسائلهم العملية يتم من خلالها ثبوت الهلال، وبالتالي يتنجز على المكلف التكليف بصيام شهر رمضان المبارك، وتلك الطرق هي:
الأول: رؤية الهلال:
ليلة طلوعه في السماء، بأن يراه الشخص المكلف بنفسه، وقد وردت في هذا المضمون نصوص تشير إلى أنه متى رآه الإنسان لزمه الصيام، لو كان الوقت وقت صيام، والإفطار لو كان الوقت وقت إفطار، فعن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر[4].
نعم ربما انفرد الشخص بالرؤية بمعنى أنه لم يره غيره، وهنا اتفاق الكل من الفقهاء على أن من انفرد برؤية الهلال لوحده وجب عليه الصيام، وإن لم يثبت الهلال عند أحد منهم، ولم يشهد به غيره، وذلك لتحقق موضوع الوجوب وهو الرؤية كما عرفت.
هذا والقدر المتيقن اعتباره في تحقق الرؤية كونها بالعين المجردة الطبيعية، لا العين المسلحة، نعم لا يضر وجود النظارات التي تحول القوة البصرية في عين الإنسان إلى العين الطبيعية.
الثاني: الشياع:
بحيث تكون رؤية الهلال عامة لا خاصة، فيراه عدد كثير، يمتنع عادة في مثلهم بحسب العادة الاتفاق على الكذب.
وهذا يعني أن المطلوب ليس شياع الرأي، وإنما المطلوب هو شياع الرؤية، ولذا لو شاع الصيام، أو شاع الإفطار، لم يكن ذلك من الشياع الذي يعدّ أحد الطرق المؤدية لثبوت الهلال، بل المؤدي لثبوته هو الشياع الذي يتضمن شياعاً في الرؤية.
الثالث: شهادة العدلين:
فيشهد برؤيتهما إياه، فمن ثبتت عنده عدالتهما، وتمت لديه شهادتهما، الزم بأن يقبل مقالتهما، ويعمل على طبقها من الصيام أو الإفطار.
ولا تقبل شهادة العدل الواحد، كما أنه لو شهدت به النساء منفردات دون أن ينضم لهن رجل، فإن شهادتهن أيضاً غير مقبولة.
الرابع: إكمال العدد:
لأن الشهور القمرية، تنتهي متى أكملت ثلاثين يوماً، فبإكمالها يدخل الشهر التالي، إذ أن الشهر القمري لا يزيد على ثلاثين يوماً، ولا ينقص عن تسع وعشرين يوماً.
هذا ويعتمد بعض الفقهاء على ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، فمتى حكم بثبوت الهلال كان حكمه نافذاً، لكن هناك من الأعلام من لا يرى هذا الرأي، فلا يرى حجية لقول الحاكم الشرعي في مسألة ثبوت الهلال، ولا يكون قوله حجة في هذه الناحية.
ثبوت الهلال بالطرق الحديثة:
بعد هذه الإطلالة على الطرق التي يثبت الهلال من خلالها، نعود لما أشير له في مطلع الحديث، وحاصله:
أنه لماذا لا تكون هناك استحداثات جديدة في عملية ثبوت الهلال، إذ لا يخفى على أحد مدى التقدم العلمي والتطور الزمني، وتغير وسائل الحياة، فلماذا لا زلنا باقين على طرق إثبات الهلال بنفس الوسائل السابقة والبدائية، التي لا تنسجم ربما اليوم مع التقلبات الجوية والأجواء وما شابه ذلك، خصوصاً ولكنا يعلم مدى أهمية هذه العبادة وماذا يترتب عليها من مسؤولية أمام الله عز وجل.
فلتكن الوسائل الحديثة هي الواسطة في عملية إثبات تولد الهلال، خصوصاً وأنها أكثر دقة وتطوراً، كالناظور، والتلسكوب، والأجهزة الرصدية المتطورة جداً، بل بعض الأجهزة الكمبيوترية، وهكذا.
وعند الإجابة عن هذا ينبغي علينا أن نلفت النظر إلى أمر مهم جداً، وهو: أن هذه العملية المدعو للالتـزام بها تعود في الحقيقة للطريق الأول من الطرق المعول عليها في ثبوت الهلال، وهو طريق الرؤية، عمدة ما كان أن هذا الطريق يعمد إلى عملية توسيع وسيلة الرؤية، فبدل أن تكون الوسيلة للرؤية هي العين المجردة، يرغب في استخدام العين المسلحة، وهي الأجهزة الحديثة.
وهذا يـبتني على أساس ماذا يستفيد الفقيه من الدليل الموجود بيده، فإن الدليل لما تضمن الحديث عن الرؤية، فورد: صوموا لرؤيته، مثلاً هنا، ما هو مدلول لفظة الرؤية، هل المدلول لهذه اللفظة، الرؤية بأي كيفية كانت، وبأي نحو تحققت، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالسعة في مفهوم الرؤية؟…
أم أن المستفاد من الحديث الشريف، هو الرؤية المتعارفة، وبواسطة الوسائل المتعارفة أيضاً، فلا يكون في المقام سعة في مفهوم الرؤية، بل سيكون المقام أقرب إلى قدر متيقن، وهو خصوص الرؤية بالعين الطبيعية؟…
وهذا ما يمكننا التعبير عنه بأن الشارع المقدس أخذ الرؤية بنحو الموضوعية، بمعنى أن كل ما ذكره الشارع المقدس في مقام حديثه من قيد أو شرط يكون دخيلاً في تحقق غرضه المطلوب، وقد أخذ الشارع المقدس الرؤية للهلال في تحقق دخول أول الشهر، فهذا يجعلها مأخوذة على نحو الموضوعية، فلا يتعدى منها.
بخلاف ما لو التـزمنا بالمعنى الأول، فإن الشارع يكون آخذاً الرؤية بنحو الطريقية، بمعنى أن كل وسيلة أو طريق يمكننا من خلاله تحصيل تحقق الرؤية بالهلال، فإنه سبيل إلى تحقق الرؤية، وليس لنا طريق واحد محدد في هذا المجال.
ونتيجة لما ذكرناه يتضح لنا أن المسألة في الحقيقة مسألة اجتهادية، وليست مسألة كما صورها المتكلم من عدم الاستفادة من الوسائل الحديثة، وعدم ملاحظة التقدم العلمي والتطور الزمني.
مع أن هناك من أعلامنا من يلتـزم بموضوعية الرؤية، لكنها لا تنحصر في خصوص العين المجردة، بل يمكن الركون للرؤية بالعين المسلحة، كالسيد الخامنئي(دام ظله)، فإنه يرى أن تمام المدار على صدق عنوان الرؤية، فمتى تحققت الرؤية، ولو بواسطة المراصد الفلكية، وانطبق عليها هذا العنوان، فإنه محقق لثبوت الهلال.
وكذا السيد السيستاني(دامت أيام بركاته) إلا أنه ينحى منحى آخر، وهو أنه متى تحقق الاطمئنان برؤية الهلال، وبواسطة أي وسيلة من الوسائل، فإنه يبنى على ثبوت الهلال، من دون فرق بين الرؤية بالعين المجردة، والرؤية بالعين المسلحة.
ولا ينحصر الأمر في خصوص هذين العلمين، بل هناك من فقهائنا الماضين(رض) من يلتـزم بجواز ذلك، كما يحكى ذلك عن الفقيه الشيخ علي الأحمدي(قده)، فإنه كان يقول بإمكانية ثبوت الهلال بواسطة المراصد الفلكية.
كما أن هناك جملة من أعلامنا وإن لم يـبني على حجية قول الفلكي بنحو مطلق، إلا أنه يجعل قوله إحدى الأمارات الموجبة للوثوق والاطمئنان، سواء بثبوت الرؤية، أم بعدمها.
والنـتيجة التي نخلص لها من هذا كله، أن ما ينسب للإسلام وأهله، ليس كما ينبغي إذ أننا لسنا بعيدين عن المواكبة الحياتية للتطور، ولا الاستفادة من الحداثة العلمية.
وأما بالنسبة لتطبيق القاعدة السابقة، والمعروفة عن الإمام الراحل(قده)، فقد ذكرنا غير مرة أنها ليست كما يتصوره الكثير، بل إن الذي نفهمه من كلامه(ره) أن الظروف الموضوعية التي صدر فيها النص، لها دخالة في المنع من انعقاد إطلاق للنص أو عموم، أو انعقادهما، كما هو مفصل في محله.
الثانية: المشكلة الاجتماعية:
وهي في كيفية التعامل مع الهلال، بحيث أن هذا الموضوع يسبب مشكلة عارمة لكثير من الناس في من يقبل منه ومن لا يقبل، وكيفية القبول، وما شابه ذلك.
ولذا نجد أن الكثيرين يتحسسون في هذه القضية، بل ربما مثل الموضوع عندهم أزمة، وكان داعياً للخلاف والفرقة، لأنه لماذا أفطرت، أو لما لم تفطر، وهكذا.
مع أن القضية أقل من ذلك بكثير، إذ أن مسألة ثبوت الهلال من المسائل الشخصية الراجعة للمكلف مثلها مثل بقية المسائل التي تكون مرتبطة به، وهو المطلوب بالقيام بإحراز ما يكون سبباً لإفراغ ذمته مما اشتغلت به من التكليف، ولذا عليه هو أن يستقصي الحقائق وأن يسعى للبحث عن المفرغ لذمته.
فلو أنه ثبت الهلال في جهة معينة، لكنه لم يطمأن بذلك، فلا حزازة ولا غضاضة عليه في أن يـبقى على ما هو عليه، مثلاً ثبت هلال شوال عند زيد، لكنه لم يثبت عنده، فإنه يجب عليه أن يتم الصيام ثلاثين يوماً، من دون أن يكون في ذلك أدنى حزازة أو حرج، ولن يكون هذا تشهيراً أو إساءة لأحد، أو تعريضاً به، إذ أن هذا الأمر من ناحية يعدُّ تكليفاً شرعياً، ومن ناحية أخرى يعدُّ موضوعاً خارجياً لابد أن يحرز المكلف تحققه حتى يتسنى له تطبيقه في الخارج.
ولذا نأمل أن نرى وعياً ثقافياً في مجتمعنا في كيفية التعامل مع هذا الحدث، وأن لا تكون قضية الهلال مورداً للخلاف والشقة ولا الفتنة، ولا غير ذلك، خصوصاً مع ملاحظة ما ذكرنا من أنها الوظيفة الشرعية لكل واحد من المكلفين.
خاتمة:
وفي ختام هذا البحث، لا بأس بالإشارة إلى أهمية الاستهلال، وطلب الهلال، والسعي لرؤيته، خصوصاً وأنه لو كثر استهلال المؤمنين، كان ذلك سبباً موجباً لقلة الاختلاف فيما بينهم، لأنه سوف يكون شياع في الرؤية إن شاء الله.
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآية رقم 186.
[2] بحار الأنوار ج 96 ص 276.
[3] سورة البقرة الآية رقم 185.
[4] الكافي ج 4 ص 76.