دروس في الثقافة الفقهية (3)

لا تعليق
دروس في الثقافة الفقهية
84
0

الجهة الخامسة: حكم البالغ رتبة الاجتهاد:

المعروف بين أصحابنا إلا من السيد صاحب المناهل(قده) هو عدم جواز التقليد له سواءً في المسألة الأصولية كالتقليد، أو فرعية، كما يقع في أحكام الصلاة.

ويمكن أن يستدل على ذلك:

إن صاحب الملكة شاك في حجية قول الغير له، وهذا الشك يساوق عدم الحجية، فيجب عليه حينئذٍ إما الاحتياط، أو الفحص لتحصيل الحجة.

الجهة السادسة: شمولية التقليد لسائر الأفعال والتروك والمباحات:

هل يشترط في كل فعل يصدر من المكلف، أو ما يعتقده من الأحكام الفرعية، أن يكون مستنداً إلى أحد الأمور الثلاثة السابقة، أو غيرها من الحجج المعتبرة، أم أن الأمر يختص بخصوص الأحكام الإلزامية، أو الأحكام الترخيصية، إذا أراد المكلف أن يأتي بها منسوبة للشارع المقدس، بحيث يحكم بكونها مستحبة شرعاً، فيأتي بها بقصد الاستحباب؟…قولان في المسألة:

الأول: ما تبناه سيدنا الخوئي(قده) وتبعه عليه شيخنا الأستاذ(حفظه الله)، وحاصله البناء على عدم وجوب التقليد إلا في خصوص الأحكام الإلزامية، أو الأحكام غير الإلزامية، في حالة واحدة.

الثاني: البناء على كون المكلف مقلداً في كافة الأمور، بما في ذلك المستحبات والمكروهات، والمباحات، وسائر الأفعال والتروك، ما لم يكن مجتهداً، أو محتاطاً، وهذا يتبناه السيد الماتن(دام أيام بركاته) وجملة من أعلامنا(ره).

هذا وقد ذكر سيدنا الخوئي(ره) في بيان مختاره، بأنه إذا احتمل استحباب شيء من الأحكام، مع القطع بعدم وجوبه، أو احتمل كراهة شيء من الأمور مع القطع بعدم حرمته، فإنه لا يجب عليه التقليد، لأنه بإمكانه أن يعمد إلى الاحتياط، فيحتاط فيما هو المستحب، أو ما هو المكروه، فيفعل المستحب، ويتجنب المكروه. ويكون فعله للمستحب برجاء الوجوب، من دون فرق بين كون الأمر من التوصليات أم من التعبديات. أما التوصليات، فواضح، لأنه لا يعتبر فيها قصد القربة، وأما التعبدي، فإنه يكفي فيها أن يؤتى بالعمل مضافاً إلى الله سبحانه، وهو يتحقق بإتيانها رجاءاً.

ومثل ذلك لو كان يحتمل حرمة شيء ما، ويحتمل أيضاً أنه مستحب أو مكروه، أو مباح، ويقطع بعدم كونه واجباً، فإنه هنا أيضاً يتمكن من الاحتياط، وبالتالي لا يحتاج إلى التقليد.

نعم يجب عليه أن يقلد في مورد واحد وهو ما إذا احتمل وجوب شيء، واحتمل في نفس الوقت حرمته، وإباحته، أو احتمل الوجوب والحرمة والكراهة أو الاستحباب، فهنا لا يمكنه الاحتياط، بل يتعين عليه التقليد، خصوصاً وأن الفرض أنه ليس مجتهداً.

ثم تعرض(ره) إلى أن الأدعية المنقولة في كتب الأدعية التي يتداولها الناس، لا يسوغ لأحد أن يقرأها بنية الاستحباب، إلا إذا قطع بكونها مستحبة، أو قلد فيها من يقول باستحبابها، كأن يكون مقلداً لمن يقول بقاعدة التسامح في أدلة السنن.

أما إذا لم يكن منها أحد الأمرين السابقين، كان الإتيان بها بقصد الاستحباب من التشريع المحرم[1].

وحاصل كلامه(ره) أنه لا معنى للتقليد في الأحكام غير الإلزامية، إلا إذا أراد أن يأتي بفعل من الأفعال ناسباً إياه إلى الشارع المقدس، بعنوان المحبوبية، ليحكم بكونه مستحباً، أو بعنوان المبغوضية، ليحكم بكونه مكروهاً، وذلك لأن المكلف يمكنه أن يحتاط، فيحصل على فراغ الذمة مما هي مشغولة به، وعندها يكتفى بذلك، لأنه لا يشترط في الامتـثال أن يأتي المكلف بالعمل مستنداً للعلم التفصيلي، بل يكفي العلم الإجمالي، والاحتياط، يمثل ذلك، فيتحقق الغرض المطلوب.

وقد التـزم شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) بهذا البيان، وعرضه بصورة مختصرة.

ولا يخفى أن مقتضى ما ذكره العلمان، البناء على عدم سعة العبارة بهذا العرض كما ذكره السيد الماتن(أطال الله في عمره الشريف).

وأما القول الثاني، وهو ما تبناه السيد الماتن(أطال الله في بقاه) فيمكن توجيهه، بأن المفروض أن هناك احتمالاً موجوداً عند المكلف بوقوع العقاب عليه متى ما ترك الاستناد في أي فعل من أفعاله إلى حجة شرعية، فعندها يحكم العقل بلا إشكال في وجوب الاستناد إلى حجة شرعية في كافة الأفعال الصادرة منه، ولذا يجب أن يكون اعتقاده بوجوب شيء أو بحرمته أو باستحبابه أو بكراهته، أو إباحته مستنداً إلى حجة شرعية، وهذه الحجة الشرعية في حق العامي غير المجتهد، لا تخلو عن أحد أمور:

1-الضرورة، كوجوب الصلوات اليومية، والخمس، والصوم، والحج، ونحوها من الواجبات، وكحرمة الظلم والخيانة ونحوها من الأمور المحرمة، وكاستحباب حسن الخلق وحسن المعاشرة في المعاشرة، ومثل كراهة القذارة وما شابه ذلك. وكإباحة شرب الماء من دجلة والفرات مثلاً.

2-اليقين، وهذا كثير، كمن تيقن بأن المسافر إذا قطع مسافة شرعية، وجب عليه التقصير، وهكذا.

3-رأي المجتهد.

هذا وينبغي الالتفات إلى أن كلامنا هو ما إذا أراد المكلف أن يأتي بالفعل في جانب الفعل أو الترك مضافاً إلى الشارع المقدس، لكي يكون هناك ما يدعو إلى احتمال الضرر فيتنجز التكليف في حقه، أما لو لم يكن الأمر كذلك، بمعنى أنه لم يكن هناك ما يتصور من تركه ضرر، فلا ريب في أنه لا معنى لجريان الأمور الثلاثة فيه، فلاحظ.

الجهة السابعة: البحث عن الاجتهاد ومبادئه:

مدخل:

ذكر المحقق الحلي(ره) في كتابه المعارج، أن الأصل في تعريف الاجتهاد هم العامة، إذ أُطلق لفظ المجتهد على بعض الصحابة في مقام توجيه مخالفتهم للكتاب والسنة، وتابعهم في ذلك أصحابنا، إلا أنهم تصرفوا في التعريف وإن حافظوا على العنوان بما ينطبق على أصول المذهب.

وقد سبب هذا مشاحنات وعداءات بين الشيعة الإخبارية والأصولية، مع أن النـزاع بينهما لفظي.

بعد هذا يقع البحث في الاجتهاد ضمن نقاط:

الأولى: تعريف الاجتهاد:

وهو في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو بذل الوسع للقيام بعمل ما، ولا يكون إلا في الأشياء التي فيها ثقل.

وقد عرف في الاصطلاح بتعاريف عديدة، نقتصر على بعضها حذراً من الإطالة، ومن أراد التوسع، فيمكنه الرجوع للبحوث التخصصية في هذا المجال.

فعرف المشهور الاجتهاد بأنه: ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريـبة منه.

وعرفه السيد الخوئي(ره) تبعاً لصاحب الكفاية بأنه: تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بالفعل، أي العمل والاستنباط الخارجيـين.

وعرفه السيد السبزواري(قده) في مهذب الأحكام بأنه: بذل الوسع في المدارك المعتبرة لدرك الوظائف الشرعية.

وعرفه السيد الماتن (دامت أيام بركاته) بأنه: استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة.

وعرفه شيخنا الأستاذ(دام ظله) بأنه: إقامة الحجة على الحكم.

الثانية: مبادئ الاجتهاد:

لابد من تحصيل مقدمات قبل العمل بالرأي، فضلاً عن الإفتاء للآخرين نتيجة استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة، وتلك المقدمات هي:

الأولى: معرفة القواعد العربية التي هي مفتاح فهم مقاصد الكتاب والسنة، واللازم منها علم النحو والصرف واللغة في الجملة.

وأما علم البلاغة بأقسامه الثلاثة، فيـبدو أن أهمها هو علم البيان، ولا يحتاج إليه في الفقه إلا في بعض المسائل كالحقيقة والمجاز، والكناية والاستعارة.

والأولان، منقحان في الأصول، والثانيان يـبدو أنهما من الأمور الواضحة لدى أهل الذوق السليم المستقيم.

الثانية: معرفة علم المنطق بمقدار تشخيص الأقيسة وتنظيم الأشكال من الإقترانيات، وغيرها، وتميـيز عقيمها من غيرها، ومعرفة البرهان وأثره.

نعم السيد الخوئي(قده) ذكر أن الفقيه لا يحتاج إلى علم المنطق، وذلك لأن الوارد في مقام الاستدلال هو القياس المنطقي من الشكل الأول، وهو بديهي، يعرفه كل أحد.

الثالثة: الوقوف على المسائل الأصولية، لدوران رحى الاستنباط عليها، ولا يخفى مقدار الحاجة إليها، بل هي بديهية وواضحة، خصوصاً ما هو دخيل في فهم الأحكام الشرعية منها.

الرابعة: علم الرجال، وتميـيز الرواة بين ثقات وضعاف بمقدار ما يحتاج إليه في تشخيص الروايات، وينبغي معرفة الراوي والمروي عنه، والتلاميذ والمشائخ، لتميـيز السند المقطوع من المتصل، والمرسل من المسند.

وتتجلى أهمية علم الرجال على القول بمسلك الوثاقة، وأن عمل المشهور غير جابر، ولا كاسر، وتكون الحاجة إليه أساسية، فلابد للمجتهد حينها من استعلام حال الراوي في كل خبر يفتي به من حيث الوثاقة والضعف.

وكذا أيضاً على القول بمسلك الوثوق النوعي، ضرورة أن أحد الأمور الموجبة لتحصيله هي وثاقة الراوي.

الخامسة: الأنس بالمحاورات العرفية، وفهم موضوعاتها، وهو ما جرت محاورات الكتاب الشريف والسنة المباركة عليه، مع الاحتراز عن الخلط بين العرفيات، وبين الدقيات العقلية.

السادسة: معرفة الكتاب والسنة، لأن رحى الاستنباط تدور عليهما، وبالأخص الكتاب الكريم، حيث قلت عناية الفقهاء به في الإمعان في آياته واستخراج نكاتها، فعلى المجتهد أن يتمعن في الآية الشريفة، ثم ملاحظة الروايات الواردة حولها.

ويكفي في معرفة الكتاب، الإلمام بآيات الأحكام-على خلاف في عددها-كما عليه الأنس بالأخبار الصادرة عن أهل البيت(ع)، فإنها رحى العلم، ويدور عليها الاجتهاد.

السابعة: معرفة المذاهب الرائجة في عصر الأئمة(ع) لتميـيز ما صدر تقية عن غيره، ومن أحسن الكتب التي تنفع في هذا المجال كتاب شيخ الطائفة(ره) كتاب الخلاف.

الثامنة: الفحص الكامل عن كلمات القوم، وبالأخص القدماء لدراسة سير المسألة، وتاريخها، ومعرفة أنها من المسائل الأصلية، أم أنها من المسائل المستنبطة، ومعرفة الإجماع والشهرة.

التاسعة: معرفة القواعد الفقهية، من خلال الإحاطة بمداركها، وموارد تطبيقها.

العاشرة: ممارسة الفروع الفقهية بتكرير الفروع على الأصول حتى تحصل له قوة الاستنباط، وتكمل فيه، لكون الاجتهاد من الأمور العملية، وللعمل دخالة تامة فيه.

الحادي عشر:بذل الوسع واستفراغ الجهد في الفحص عن الدليل اللفظي في جميع مظانه، بل ما يحتمل حصوله فيه، قبل القيام بإجراء الأصل العملي.

هذا وفي الختام، نشير إلى أن بعضهم ذكر أنه لا ينبغي للفقيه الإكثار من مخالفة المشهور، إذ لعله الأقرب إلى الواقع، بل لا ينبغي ترك الاحتياط حين المخالفة، تورعاً من الوقوع في

الخطأ.

النقطة الثالثة: أقسام الاجتهاد، وأحكام كل قسم:

ينقسم الاجتهاد إلى قسمين، وهما:

الأول: الاجتهاد المطلق.

الثاني: الاجتهاد المتجزئ.

وعادة ما يـبحث في القسم الثاني منهما، ضمن نقاط:

الأولى: في إمكان تحققه وعدمه.

الثانية: في حكم عمل المجتهد المتجزئ.

الثالثة: في جواز تقليده.

الرابعة: في نفوذ قضائه.

هذا وسوف يتعرض السيد الماتن(دامت أيام بركاته) للحديث عن ذلك في المسألة الثانية والعشرين، فليحال الحديث عن ذلك إلى هناك.

———————————————————–

[1] التنقيح ج 1 ص 255-256.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة