ظاهرة الإنفاق في حياة الإمام زين العابدين(ع)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
334
0

تبرز في سيرة الإمام زين العابدين(ع)، مجموعة من الظواهر لا توجد في سيرة غيره من الأئمة، وتلك الظواهر هي:

الأولى: ظاهرة البكاء.

الثانية: ظاهرة التعبد.

الثالثة: ظاهرة الإعتاق.

الرابعة: ظاهرة الإنفاق.

والظاهر أن هذه الظواهر الأربع التي أشرنا لها كانت الركائز الأساسية التي عمد الإمام زين العابدين(ع)، من خلالها لقيادة المجتمع الإسلامي. وهذا يستدعي أن يسلط الضوء على كل واحدة منها بدراسة مستقلة، ليتعرف على الدواعي التي جعلته(ع) يتخذ هذه الظواهر وسائل تبليغية في قيامه بالمسؤولية القيادية للأمة، دون غيرها من الأساليب، خصوصاً وأنه(ع) بعمده إلى هذا الأسلوب يكون قد غاير الأسلوب الذي كان عليه المعصومون(ع) من قبله، وهو أسلوب المواجهة.

ولما كان الحديث عن الجميع يستوجب طولاً، فسوف نقصر الكلام على خصوص ظاهرة واحدة، وهي ظاهرة الإنفاق.

وعند الحديث عن هذه الظاهر نجد امتيازاً للإمام زين العابدين(ع)، لا يوجد في سيرة غيره من المعصومين(ع)، فمع أن الكتب التاريخية قد تحدثت عن الكرم الهاشمي في سيرة أئمتنا(ع)، وقد عرف منهم الإمام الحسن الزكي(ع)، بكريم أهل البيت(ع)، إلا أن صفة الإنفاق لا تعدّ ظاهرة يتميز بها على بقية الأئمة(ع)، كما هو في الإمام زين العابدين(ع)، بل لم يحدث التاريخ عن صور في كرمهم(ع) كالتي نقلها لنا عن الإمام زين العابدين(ع)، إذ لا يجد القارئ نصاً تاريخياً يتحدث عن أحد الأئمة(ع) مثلاً كان يحمل الجراب ويجوب به أزقة المدينة ليلاً لإيصال الصدقات للفقراء، كما لم تتضمن الكتب التاريخية الإشارة لوجود أثر على جسد أي واحد منهم(ع) أثناء تغسيله بسبب الجراب الذي كان يحمله على عاتقه، كما نقل ذلك في شأن إمامنا زين العابدين(ع).

وبعبارة أخرى، نحن لا ندعي نفي صفة الكرم عن الأئمة الهداة(ع)، فإن ذلك ما يكذبه الوجدان والبرهان، بل الذي ندعيه أن الإنفاق الذي كان ينـتهجه الإمام زين العابدين كان يتخذ أسلوباً مميزاً انفرد به لم يكن موجوداً في الإنفاقات الصادرة منهم(ع).

النصوص الروائية:

هذا ولكي يكون ما ذكرناه من تميز وبروز ظاهرة الإنفاق في سيرة الإمام زين العابدين(ع) جلياً وواضحاً، نذكر جملة من النصوص التي أشارت لهذا المعنى:

منها: ما عن أبي جعفر محمد بن علي(ع)-في حديث-: وكان(ع) ليخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، ربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وكان يعطي وجهه إذا نال فقيراً لئلا يعرفه، فلما توفي(ع) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان علي بن الحسين(ع)، ولما وضع(ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل، مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين، ولقد خرج ذات يوم وعليه مُطرف خزٍّ فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضى وتركه، وكان يشتري الخز في الشتاء وإذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه، ولقد نظر(ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس، فقال: ويحكم أغير الله تسألون في مثل هذا اليوم، إنه ليرجى في هذا اليوم لما في بطون الحبالى أن يكون سعيداً[1].

ومنها: ما رواه الثمالي، قال: رأيت علي بن الحسين(ع) يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبيه فلم يسوه حتى فرغ من صلاته، قال: فسألته عن ذلك، فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وكان علي بن الحسين(ع) ليخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب فيه الصرر من الدنانير والدراهم حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، فلما مات علي بن الحسين(ع) فقدوا ذلك فعلموا أن علي بن الحسين الذي كان يفعل ذلك[2].

ومنها: ما جاء عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: كان علي بن الحسين(ع) إذا كان اليوم الذي يصوم فيه، يأمر بشاة فتذبح وتقطع أعضاؤها وتطبخ، وإذا كان عند المساء أكب على القدور حتى يجد ريح المرق وهو صائم، ثم يقول: هاتوا القصاع اغرفوا لآل فلان، واغرفوا لآل فلان، حتى يأتي على آخر القدور، ثم يؤتى بخبز وتمر فيكون ذلك عشاءه[3].

ومنها: ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) أنه قال: إنه كان علي بن الحسين(ع) يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به، قال أبو حمزة الثمالي وسفيان الثوري كان(ع) يقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب.

وعن محمد بن إسحاق إنه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين(ع) فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.

وعن شيـبة بن نعامة أنه كان يقوت مائة أهل بيت بالمدينة، وقيل: كان في كل بيت جماعة.

وورد أن عائشة سمعت أهل المدينة يقولون ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين(ع).

وفي رواية محمد بن إسحاق إنه كان في المدينة كذا وكذا بيتاً يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه لا يدرون من أين يأتيهم، فلما مات زين العابدين(ع) فقدوا ذلك فصرخوا صرخة واحدة.

وفي خبر أنه كان إذا جنة الليل، وهدأت العيون قام إلى منـزله، فجمع ما يـبقى فيه عن قوت أهله، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثم، ويفرّق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب.

وقال الطائي: إن علي بن الحسين(ع) كان إذا ناول الصدقة السائل قبله ثم ناوله.

وعن أبي عبد الله الدامغاني أنه كان علي بن الحسين(ع) يتصدق بالسكر واللوز، فسئل عن ذلك فقرأ قوله تعالى:- (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وكان(ع) يحبه[4].

تقسيم الإنفاق:

يمكننا تقسيم الإنفاق بلحاظ المستفيدين منه إلى قسمين:

الأول: الإنفاق الفردي:

ونقصد منه ما كان يعطى لفرد من الأفراد عندما يقصد بيت الإمام(ع)، أو كان يتوجه لمجلسه أو المكان الذي يتواجد فيه كالمسجد، أو ربما التقاه في الطريق، فيعرض عليه حاجته، فيقوم الإمام(ع) بإجابة طلبه، وإعطائه ما أراد.

وهذا النوع من الإنفاق يشترك فيه جميع المعصومين(ع)، والشواهد التاريخية تؤكده وتذكره بصور مختلفة، كالإنفاقات التي كانت تصدر من الإمام الحسن(ع)، وبها عرف بأنه كريم أهل البيت(ع)، وكذا بعد إبرام وثيقة الصلح ما كان ينفقه الإمام الحسين(ع)، وهكذا.

وقد كان للإمام زين العابدين(ع) أيضاً مشاركة للمعصومين(ع) في هذا النوع من الإنفاق، فقد نقل المؤرخون أنه بعدما أنشد الفرزدق فيه قصيدته الميمية بمحضر الخليفة الأموي في مكة المكرمة في القصة المشهورة، منع عنه العطاء من بيت المال، فأعطاه الإمام(ع) رزقه.

وكذا ما ورد من أن رجلاً شتمه، فأراد غلمانه الهجوم عليه، فمنعهم(ع)، وأعطاه ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يمدح الإمام(ع)، ويشيد بفضله ومكانته.

الثاني: الإنفاق الجماعي:

وهو الذي لا تنحصر الاستفادة فيه بشخص واحد، بل إن عملية الإنفاق تطال عدداً كبيراً، بمعنى أن المنفق يرعى مجموعة من البيوتات والعوائل يتولى الإنفاق عليهم، ويسعى في شؤونهم وقضاء حوائجهم.

وهذا النوع من الإنفاق لا نجده إلا في سيرة الإمام زين العابدين، كما نصت على ذلك النصوص التي نقلنا طائفة منها فيما تقدم[5].

وقد اتخذ ذلك أساليب مختلفة، فلم يقتصر على أسلوب واحد، فمرة كان يتخذ أسلوب الإطعام، كما نصت على ذلك رواية الشاة التي تذبح يوم يصوم، ويعمد إلى تقسيمها على البيوتات بالأمر بالحمل لآل فلان وآل فلان وهكذا.

وأخرى، ما كان يحمله للبيوتات بمهجته الشريفة في منـتصف الليل، وكان الفقراء ينـتظرونه، فإذا رأوه مقبلاً قالوا جاء صاحب الجراب.

وثالثة، من خلال دعوته للفقراء والمساكين على مائدته، وإطعامهم من طعامه، وإكسائهم من لباسه.

ورابعة، من خلال إعطائه كسوته التي لبسها وصلى فيها، وعدم بيان تميزه عليهم في ملبسه.

دراسة ظاهرة الإنفاق:

ومن الطبيعي، بروز هذه الظاهرة في سيرة الإمام زين العابدين(ع) يوجب الحاجة إلى دراستها، والتأمل فيها.

وقد يتصور البعض أنها مجرد منقبة وفضيلة من الفضائل اشتهر بها(ع)، وهذا يعني أنها لا تحتاج تسليط ضوء عليها، فضلاٍ عن مزيد عناية واهتمام بها أو دراسة.

وضعف هذا التصور واضح، ضرورة أن ألمعصومين(ع) متشاركون في المناقب والفضائل، فمتى برزت في سيرة واحد منهم ظاهرة خاصة كانت بحاجة إلى دراسة وتحليل، فمثلاً، الإمام المنـتظر المهدي(عج)، لا يختلف عن بقية المعصومين(ع)، لكن بروز مسألة طول العمر والبقاء طيلة هذه المدة الزمنية، لا يمكن أن نحمله على أنه مجرد فضيلة من الفضائل والمناقب الثابتة له(عج) دونما حاجة منا إلى دراستها، وكذا لو جئنا لسيرة أمير المؤمنين(ع)، فإن الشجاعة التي تحلى بها أبو الحسن(ع) وروح التضحية والفداء كالمبيت على فراش رسول الله(ص) ليلة الهجرة، يمنع من القول بأن هذه الأمور مجرد فضائل ومناقب ثابتة لأمير المؤمنين(ع)، دونما التفات إلى دراستها والتأمل فيما تحويه من مضامين ومعاني رمزية.

ومقامنا من هذا القبيل، إذ مجرد تحويل ظاهرة الإنفاق الموجودة في سيرة الإمام السجاد(ع) إلى أنها فضيلة ومنقبة عادية، أمر مرفوض، لأنه لا ينسجم والكيفية التي برزت بها، فضلاً عن الأسلوب المتبع في تحقيقها خارجاً.

وعليه، نحتاج إلى دراسة هذا الظاهرة في سيرته المباركة، وهنا ينبغي التوجه لنكتة مهمة، وهي:

إن دراسة أي ظاهرة من الظواهر في سيرة أي عظيم من العظماء، لابد أن يلحظ فيها أمران:

الأول: الظواهر الأخرى الموجودة في سيرة ذلك العظيم، لأنه قد يكون لتلك الظواهر مدخلية في تفسير هذه الظاهرة، فضلاً عن أن هذه الظاهرة المدروسة ربما كانت مكملة لشيء في تلك الظواهر، ومفسرة لها.

الثاني: الظروف الموضوعية المحيطة بصاحب الظاهرة، لأنه قد يكون الموجب لاستخدام هذه الظاهرة يعود لجملة من الظروف الاجتماعية، أو السياسية، أو الثقافية، أو غير ذلك كانت تحيط بصاحب الظاهرة ألجأته إلى اتخاذ هذا الأسلوب دون غيره.

ووفقاً للأمر الأول، فلابد أثناء دراسة ظاهرة الإنفاق من ملاحظة الظواهر الأخرى في سيرة الإمام زين العابدين(ع)، لما لذلك من مدخلية في بيان سبب بروز هذه الظاهرة من جهة، ومدى ارتباطها بالظواهر الأخرى، وعليه نقول:

إن القارئ لسيرة الإمام زين العابدين يرى ظواهر أخرى في سيرته المباركة غير ظاهرة الإنفاق أشرنا لها في مطلع البحث، وهذا يفسر سبب وجود ظاهرة الإنفاق في سيرته، ولكي يتضح ذلك بصورة أكبر نقول:

لقد كان للإمام(ع) منهجية خاصة في جانب التعبد والارتباط بالله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن هذا النحو من التعبد قد يشكل علقة جافة، تنحصر في ممارسة جملة من الطقوس العبادية الخاوية في مضمونها، دون أن تترك أثراً على الفرد، فضلاً عن أن يكون لها باعثية للمجتمع، ولا ريب أن هذا إنما يتصور حال كون المتعبد لا يحقق المفهوم الحقيقي للعلاقة الروحية، والارتباط الإلهي، لأنه يقصر مفهوم هذه العلاقة في زاوية محددة فقط، لا أكثر.

وهذا ما لم يلمسه المجتمع الإسلامي في ظاهرة التعبد عند زين العابدين(ع)، لأنهم لمسوا في سيرته المباركة العلاقة الإلهية الصحيحة بكل مقايـيسها ومفاهيمها، إذ كان(ع) يمثل التقوى والخلق الإسلامي والقيم الإنسانية، على أرض الواقع، فما كان شخصية متنسكة منزوية، كالرهبان والمتصوفة، ولابسو المسوح.

ولكي يقدم الإمام زين العابدين(ع) درساً عملياً على حقيقة الارتباط بالله سبحانه وتعالى، ويكمل واقعية هذه العلاقة جاءت ظاهرة الإنفاق لتمثل ظاهرة بارزة في سيرته العطرة، ذلك أن الناس لن يؤثر فيهم البعد الروحي، والرابط الإلهي المجرد ما لم يكن له فاعلية على أرض الواقع، ومصداق ذلك ما تجود به النفس، وتؤثر به الآخرون عليها، ولعل هذا يفسر لنا النصوص التي تضمنت أنه كان يقف على قدر الطبخ حتى يشعر ويحس بريح المرق، وكأن ذلك ليقدم للناس درساً أنه قد اشتهاه، ثم عمد(ع) بعد ذلك إلى إيثار الآخرين على مهجته الشريفة.

وكذا أيضاً لن يكون لعطائه الروحي والأخلاقي فاعلية كبرى ما لم يكن يدعم دروسه الأخلاقية والتربوية بعطاء لا ينقطع، ومعين لا ينضب، حتى يرى الناس فيه صورة الرجل المبتعد عن الدنيا والمعرض عن زخرفها، وأنها لا تمثل له إلا محطة مرور يقطعها للوصول إلى دار الخلود والبقاء.

وكذا أيضاً لو أردنا أن نقرأ العلاقة التي كانت تربط بين بكائه(ع) المر الذي كان يصبه من أجل إبقاء ذكر الإمام الحسين(ع) في النفوس غضاً طرياً، وبالصورة التي كان عليها، ولتجيج النفوس بغضاً وكراهية على الأمويـين، وبين ظاهرة الإنفاق، فإننا نجد أن للإنفاق مدخلية في مؤثرية البكاء وفاعليته، ليحقق الغرض المرجو منه، لأنه سوف يرمز بكائه حينئذً إلى معنى أبعد من كونه بكاءً على والد، وعميد أسرة.

وحتى ظاهرة الإعتاق التي كانت سمة بارزة في سيرته المباركة، لأنه متى ما أعتق عبداً لن يدعه كلاً على الآخرين، بل لابد وأن يكفل له حياة كريمة، تصونه عن ذل المهانة والسؤال.

والمتحصل من جميع ما تقدم، أن الإنفاق كان خير وسيلة عمد من خلالها الإمام زين العابدين(ع) للوصول إلى قلوب المجتمع الإسلامي والتأثير فيه وبصورة جلية وواضحة، وتحقق له ما كان يصبو إليه ويريده جراء هذه الظاهرة.

وقد نستجلى التأثير الذي كان يسعى زين العابدين(ع) لتحقيقه للتأثير في الأمة من خلال حكمته في الإنفاق، وذلك من خلال ما كان يقوم به في رفض بيع ملابسه، وإنما تعطى للفقراء، وفي ذلك دلالتان:

الأول: أنه(ع) علل امتناعه بيع لباس صلى فيه، وهذا يعطي مدى أهمية هذا الثوب لأنه كان ثوب طاعة.

الثاني: ربط الفقراء به شخصياً، لأنهم سوف يلبسون لباسه مما يجعلهم يتذكرونه دائماً وأبداً في كل حركة وسكون، ومن الطبيعي أن هذا سوف يكون حاجباً لهم عن المعصية من جهة، فيترك بعداً تربوياً، ويتضمن مساواة اجتماعية، لأنهم يلبسون لباس علي بن الحسين(ع).

هذا وربما يتسائل البعض عن الموجب والداعي الذي دعاه(ع) إلى اتخاذ هذا الأسلوب دون غيره في عملية قيادة الأمة والقيام بمسؤوليتها، ولعلنا نشير إلى أن ما حدى به(ع) إلى ذلك هو الوضع السياسي المحموم الذي كان يخضع له بعد واقعة الطف، إذ لا ريب أن الحكومة الأموية كانت ستخضعه لمراقبة لصيقة جداً، لما كانت تتأمل من أن يقوم بثورة مطالباً بثأر أبيه الإمام الحسين(ع)، وهذا سوف يمنعه من القيام بأي عملي ونشاط سياسي صريح، وبالتالي اتخذ(ع) هذا الأسلوب، وبصورة مغايرة لما كانت تتوقعه أجهزة الدولة الحاكمة حتى ظنت أنه بعيد كل البعد عن السياسة، ولم تلتفت إلى مدى التأثير والتحول الذي أوجده(ع) في الأوساط الشعبية، وخير نموذج على ذلك قصيدة الفرزدق فيه في موسم الحج أمام الخليفة الأموي وسط أهل الشام، وهي قصيدة مشهورة ومعروفة. ومن خلال ما تقدم يتضح الأمر الثاني أيضاً المعتبر في دراسة أي ظاهرة من الظواهر في حياة أي من العظماء، فلاحظ.

أخلاقية الإنفاق عند الإمام زين العابدين:

هذا ولا يخفى أن العنصر الأساس الذي ترك فاعلية في الوسط الاجتماعي لدى المسلمين من إنفاق زين العابدين يعود للأخلاقيات التي كان يتحلى بها في هذه الظاهرة، ومدى النـزاهة التي كان عليها، ضرورة أننا عندما نتأمل في نفقاته نجد أنموذجاً متميزاً في هذا الجانب، ولنشر بصورة موجزة إلى شيء من تلك الأخلاقيات:

منها: لقد كان(ع) هو الذي يقوم بعملية الإنفاق بنفسه الشريفة، دونما اتكال منه في ذلك على أحد، ولا يخفى ما لهذا من دلالة رمزية واضحة، تعطي ارتبطاً وثيقاً بين القيادة والمجتمع، لأن الفقير متى وجد أن القيادة تلتحم به من خلال قيامها بشؤونه وبصورة مباشرة فإن لذلك أكبر الأثر عليها للارتباط بها.

ومنها: بعض الأمور والآداب التي كان يعملها ويراعيها عندما يقدم الصدقة للفقير، إذ ورد أنه كان يعمد إلى تقبيل يده(ع) بعدما يتناول الفقير منه الصدقة، لما ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إذا ناولتم السائل فليرد الذي يناوله يده إلى فيه فيقبلها، فإن الله عز وجل يأخذها قبل أن تقع في يد السائل، فإنه عز وجل يأخذ الصدقات.

وأخرى كان يتناول الصدقة بعدما يقبضها الفقير فيقوم بتقبيلها، وقد علل ذلك الإمام الصادق(ع) بقوله: إن الله لم يخلق شيئاً إلا وله خازن يخزنه، إلا الصدقة، فإن الرب يليها بنفسه، وكان أبي إذا تصدق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتجعه منه فقبله، وشمه ثم رده في يد السائل، وذلك أنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، فأحببت أن أقبلها إذ ولاها الله.

ومنها: أن صدقاته كانت في السر، حتى أن بعض أرحامه كان يتحسب عليه ويشكوه إلى الله، وهو الذي كان يعطيه وما كان ليفصح عن نفسه[6].

——————————————————-

[1] بحار الأنوار ج 46 ح 19 ص 62.

[2] المصدر السابق ح 28 ص 66.

[3] المصدر السابق ح 53 ص 72.

[4] المصدر السابق ح 77 ص 88-89.

[5] قد يظفر بعض الباحثين والكتاب بما لم نظفره به في هذا المجال، ولذا ينبغي أن لا ينفى هذا النوع من الإنفاق في سيرة المعصومين(ع) البقية دون زين العابدين(ع)، بل يقال: إنه لم يبرز في سيرهم(ع) كما برز في سيرته(ع).

[6] من مصادر البحث قيادة المسيرة، سيرة الإمام زين العابدين.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة