29 مارس,2024

حرية العقيدة (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

كنا قد تكلمنا في أن المعاني المتصورة لحرية العقيدة ثلاثة،وهي:

1-الحرية في انـتخاب العقيدة.

2-الحرية في التظاهر بالعقيدة.

3-الحرية في نشر العقيدة.

وذكرنا أن العقل لا يسعه أن يحكم على كل واحد منها حكماً مطلقاً،وعلى هذا الأساس،ذكرنا أننا سنـتكلم على كل واحد من هذه المعاني بنحو مستقل.

وقد وفقنا ولله الحمد للحديث عن المعنيـين الأوليـين،وبقي علينا الحديث عن المعنى الثالث.

حرية نشر العقيدة:

هذا هو المعنى الثالث لحرية العقيدة،وهو يعني حرية نشرها والترويج لها وتبليغها الآخرين،سواء كانت مبنية على التحقيق أم التقليد،سواء كانت مطابقة للواقع أم لم تكن،مفيدة كانت للمجتمع أم مضرة له.

وعندما يحكم العقل بناء على ما ذكر من الأدلة،بوجوب كفاح العقائد الموهومة،فقد انتفى الشك في عدم الجواز للتبليغ بصورة مطلقة.

وإلا فكيف يسيغ العقل أو يسمح بالترويج لعقائد وهمية عارية عن كل تحقيق تكبل الفكر وتشل نبوغ المجتمع وتـتخلف به عن سيرة التقدم وتصيـبه بالضرر؟…

إن العقائد الباطلة الضارة نوع من الأمراض النفسية،والأمراض العقائدية أشد خطراً وتفاقماً من الأمراض الجسمية.فإذا كان العقل لا يسمح لمريض أن ينـتقل بمرضه الجسماني بين الناس حذراً من تفشي العدوى،فكيف يسمح بحرية تنقل الأمراض النفسية؟…

بعض العقائد الفاسد:

هناك عدة نماذج للعقائد الفاسدة الوهمية السائدة في مختلف المجتمعات في العالم،بحيث لو أريد تأليف كتاب العقائد الخرافية لبلغت مجلداته عدداً كثيراً،فمن ذلك ما يذكره ويل ديو رانت في حديثه عن عامل الحضارة بشكل عام إلى أنواع الأطعمة التي كان يتناولها الإنسان البدائي ابـتداء من حساء القمّل وانتهاء بلحم الإنسان،أما عن التغذية على الدم فكتب يقول:

إن دم الإنسان يعد في الوقت الحاضر،طعاماً لذيذاً جداً بالنسبة للكثير من القبائل….والكثير من أفراد القبائل هم أناس بسطاء ذوو خصال حسنة،ولكنهم رغم ذلك يقومون في بعض الأحيان بشرب دم الإنسان بصفة دواء،وفي أحيان أخرى يشربونه وفاء للنذر أو تنفيذاً لفريضة دينية.

بيد أن الإعتقاد السائد هو أنه حينما يشرب شخص من دم شخص آخر تنـتقل قدرته إليه[1].

الإسلام وحرية العقيدة:

كنا نتحدث فيما تقدم عن حرية العقيدة في نظر العقل،وقد وصلنا إجمالاً إلى أن حرية العقيدة بمعنى حرية الإنسان في اختيار العقيدة،لا تـتفق مع العقل،وأنها بمعنى حريته في التظاهر بعقيدته ونشرها،فذلك حق طبيعي،وأما بمعنى حرية الإنسان في الترويج للمعتقدات الوهمية الضارة وتبليغها للمجتمع،فهذا ما يؤكد العقل على منعه منعاً باتاً.

والآن نواجه السؤال التالي:ما هو رأي الإسلام في حرية العقيدة؟…

ونجيب بداية بنحو الإجمال،فنقول:أن نظرة الإسلام إلى حرية العقيدة هي عينها نظرة العقل إليها.

وأما تفصيل هذا الإجمال،فيقتضي دراسة الإسلام بالنسبة لكل معنى من معاني حرية العقيدة على حدة.

حرية اختيار العقيدة في رأي الإسلام:

سبق وذكرنا عند بيان رأي العقل في اختيار العقيدة،بأن معتقدات الإنسان ليست خاضعة لإرادته،حتى يعتقد بشيء أو لا يعتقد به.

وقلنا أيضاً:إن العقيدة ليست كاللباس للإنسان خياره في انتقائه،ومتى ما شاء بدله،أو يضطر على غير هوى منه إلى تبديله.

وإنما العقيدة كالحب،لا تتغير إلا إذا تغير منشأها.

فالعقيدة إذاً ليست أمراً اختيارياً،حتى يتم البحث عن حرية الإختيار في الإسلام،ومن ثم جاءت طائفة من الأعراب من بني أسد إلى النبي(ص)في موسم الجفاف وأعلنت اسلامها غير مؤمنين بالعقيدة الإسلامية،بل لدوافع مادية ألجأتها إلى هذا الإختيار،فنـزل قوله تعالى:- (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمـا يدخل الإيمان في قلوبكم)[2].

فالإسلام هو الإفصاح عن الإيمان بالمعتقدات الإسلامية والإيمان هو اعتقاد القلب بتلك العقائد،وأما الإفصاح عن الرأي فيخضع لإرادة الإنسان ولكن اعتقاد القلب ليس كذلك.

وعليه يمكن للإنسان أن يتظاهر بعقيدة ما لدوافع مختلفة،أما الإعتقاد المؤمن فهو من شأن القلب،وهناك فقط،عندما تختمر الروح بالعقائد الإسلامية يمكن للإنسان أن يدعي الإيمان.

حرية التظاهر بالعقيدة في رأي الإسلام:

إن استقراء القرآن الكريم،والأحاديث الإسلامية والتاريخ الإسلامي كذلك، يدل على أن الإسلام يعترف بحرية التعبير عن العقيدة والتظاهر بها اعترافاً رسمياً،ولا يوجد دين يولي هذه الحرية ما يوليها الإسلام من الإحترام.

فإن الإسلام لا يكتفي بالإعتراف بالحرية في إظهار العقيدة فحسب،وإنما يرشد القرآن الناس إلى ضرورة استماع الأقوال المختلفة والأراء والعقائد المتباينة،ونقدها ودراستها بفكر حر،حتى إذا ما استقر التحقيق بهم على أفضل الكلام وأحكمه،اختاروه،واتخذوه مقياساً للعمل.

وبعبارة أخرى:إن من هدي القرآن وتعاليمه أن يرى الإنسان في حرية التعبير طريقاً لتكامل العقائد الصحيحة واختيار أفضلها،قال تعالى:- (فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)[3].

فلا تقتصر الحرية في الإسلام على إظهار العقيدة،فالإنسان حر في إبداء الرأي حتى وإن كان مخالفاً لما يعتقده ويؤمن به.

وعلى الرغم من أن الإسلام يستهجن هذا العمل ويستوجب له العقوبة الأخروية،إلا أنه لا يجبره بالقوة مطلقاً على الإعتراف بالحق الذي يعرفه.

ويوجد في القرآن الكريم عدة آيات تنص صراحة على أنه لا إكراه في الإيمان،وأن النبي(ص)ليس مكلفاً بإرغام الناس على الإيمان عنوة.

فالإسلام لا يجبر أحداً على الإعتراف بالمعتقدات الإسلامية دونما إيمان بها،بل بالعكس من ذلك،ولا يقبل أيضاً من أحد إعترافاً تقليدياً غافلاً عن التحقيق والتفكير والعلم،بل إنه ليعتبر حتى أولئك الذين يؤمنون بعقائده،ولدوافع مختلفة لا يعترفون بها عملياً أنهم أحرار،ولا يحق للمسلمين إرغامهم على الإعتراف العملي بها عنوة،قال تعالى:- (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)[4].

وهذه الآية قدمت الدليل صراحة على حرية الإنسان حتى في الإعتراف العملي بما يعتقده حقاً،حيث قالت في البداية:إن قبول العقائد الإسلامية والإعتراف العملي بها ليس إجبارياً،وللناس الحرية في اعتناق الإسلام:- (لا إكراه في الدين)ثم أردفت مباشرة بتقديم الدليل الكافل لهذه الحرية بأن الطريق واضح فإما الهدى،وإما الضلال:- (قد تبين الرشد من الغي).

إن الدين برنامج وطريق لتكامل الإنسان،وحتى ينفذ الإنسان هذا البرنامج ويطوي هذا الطريق،ينبغي له إما أن يكون عالماً بالطريق فيمكنه أن يطويه بإرادة وحرية،وإما أن يُستاقَ في هذا الطريق إجباراً.

وفي نظر القرآن الكريم أنه متى توضحت معالم الطريق لتكامل الإنسان فغير منطقي أن يكون الدين إجبارياً،فمجرد الدليل في حد ذاته يقتضي حرية الإنسان في اختيار طريق تكامله،فالتكامل أمر اختياري والإنسان يدرك الحكمة في خلقه حالما يختار الطريق الصحيح بملء حريته واختياره،ليس إلا.

فإذا ما وضح الطريق الصحيح،وأساء الإنسان الإستفادة من حريته وانحرف عن الطريق الذي يتيقن صحته إلى طريق يتيقن خطأه،فقد انتفى هنا معنى الإجبار فليترك ليتردى وينال جزاء اختياره.

مكافحة العقائد الموهومة في الإسلام:

هذا ونستنـتج مما تقدم في الحديث عن حرية العقيدة أن الإسلام لا يسمح باتخاذ أي إجراء من أجل مكافحة العقائد الواهية وتصحيح المعتقدات المجانفة للصواب.

وما دام الإنسان غير مخير في اختيار عقائده،وأن الكل أحرار في الإفصاح عن معتقداتهم،وأنه لا يجوز فرض الإيمان حتى على أولئك الذين أيقنوا صوابه،فلا معنى هناك لمكافحة العقائد الموهومة.

هذا،إلا أننا لو تأملنا قليلاً،اتضح أن هذا الإستنـتاج ما هو إلا وهم لا أكثر،وهذا،لأن عدم الخيار في العقيدة لا يتنافى وتصحيح العقائد الخطأ،كما أن حرية الإعلان والتظاهر بالعقيدة لا تنفي مكافحة الأوهام والخرافات العقائدية مكافحة أساسية،بل إنها لتهيئ المجال لهذه المكافحة.

فبينما نرى الإسلام يؤيد حرية التظاهر بالعقيدة من حيث كونها مجالاً لتكامل الإنسان،يؤكد على ضرورة المعتقدات الخرافية الباطلة،ويتنبأ بالنصر النهائي في هذا الكفاح،ويؤمن بيوم يأتي مع مستقبل التاريخ،فيه يتحرر المجتمع البشري قاطبة من قيود المعتقدات الباطلة،وذلك يوم يهيمن الإسلام على العالم أجمع،قال تعالى:- (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)[5].

الدليل على مكافحة المعتقدات الفاسدة:

وأما دليل الإسلام على ضرورة مكافحة المعتقدات الباطلة،فهو نفس الدليل الذي يقيمه العقل لنفس الضرورة،والطريق الذي يعينه الإسلام لتصحيح العقائد الفاسدة،هو عين الطريق الذي يحدده العقل.

فالإسلام،لا يسمح مطلقاً للعقائد الباطلة غير الواقعية بأن تؤثر على شاكلة الإنسان وهيأته الباطنية الواقعية وهي مصدر أعماله ومنشأ تصرفاته،فتبتني على أسس مغلوطة غير علمية،أو أنها تبقى على ما هي عليه من غلط إن كان ذلك.

فالإسلام لا يسمح مطلقاً للعقائد المناقضة للعقل التي من شأنها أن تكبل فكر الإنسان،بأن تطعم روحه ببراعمها فإن كانت قد طعمت فلا يسمح لها أن تبقى أسيرة في أغلال العقائد الموهومة.

طريقة الإسلام في مكافحة العقائد الباطلة:

لقد عين الإسلام طريقاً لمكافحة المعتقدات الباطلة،وهو نفس الطريق الذي حدده العقل لذلك،ولبيان ذلك،يمكننا أن نقسم طريقة الكفاح إلى قسمين:

الأول:طريقة الإسلام في إزالة العقائد الباطلة وتبرئة أذهان عامة الناس منها.

الثاني:طريقته في مواجهة العراقيل التي تقف حجر عثرة في طريق حرية التعبير عن العقيدة وإزدهار المعتقدات الصحيحة في المجتمع.

هذا ولما كان الحديث عن هذين القسمين في طريقة الكفاح لإزالة العقائد الباطلة،يخرجنا عما نحن بصدده،فنحيل الحديث عنه لمجال آخر،نرجو من الله تعالى أن يوفقنا لذلك إن شاء الله تعالى.

حرية تبليغ العقيدة:

علمنا لحد الآن بأن الإسلام،لا يؤيد حرية الإعلان عن العقيدة فحسب،بل يدافع عنها أيضاً،وعليه هل إن الإسلام يسمح لكل صاحب عقيدة أياً كانت،أن يـبلغها للغير؟…

هذا ما يجب أن نعرفه،وقد سبق أن أجبنا عن هذا السؤال لدى بياننا لرأي العقل في هذا الموضوع،وقلنا:إن العقل لا يسمح لتبيلغ العقيدة بحرية مطلقة،وإن رأي الإسلام في هذا الصدد،مطابق لرأي العقل،ونوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً فنقول:

إن تبليغ العقيدة يتم عن طريق الإستدلال والبرهنة،والمبلغ يعتمد على العقل والمنطق،إما بشكل حقيقي،وإما بالتهريج والتحايل والتضليل.

والإعلان عن العقائد ذات الأساس العقلي في حد ذاته،يعتبر ترويجاً وتبليغاً بها بمقدار ما تتمتع به من العقل والمنطق والإستدلال،ومن ثمّ،فالتبليغ بهذا المعنى منطوٍ تحت حرية التظاهر والإعلان.

وأما التبليغ عن طريق التهريج أو خلق الأجواء وتكيـيفها والتحايل لنشر المعتقدات التي لا أساس لها من الفكر أو المنطق،تلك التي تترك آثار سيئة على المجتمع،فلا العقل يسمح به،ولا الإسلام يؤيد ما لا يجيزه العقل.

وعليه نقطع بغاية من الإيجاز،فنقول:إن الإعلان عن الرأي والعقيدة مسموح به في الإسلام،أما التهريج والشعوذة والتضليل لتفشي المعتقدات الباطلة فهذا ما يحرمه الإسلام.

——————————————————————————–

[1] تاريخ الحضارة ج 1 ص 18-19.

[2] سورة الحجرات الآية رقم 14.

[3] سورة الزمر الآية رقم 17.

[4] سورة البقرة الآية رقم 256.

[5] سورة الفتح الآية رقم 28.