يتميز الشيعة الإمامية عن كثير من المسلمين،بعنايتهم الفائقة بزيارة قبور الأولياء الصالحين من الرجال والنساء المقدسين في التاريخ الإسلامي بوجه خاص،فنراهم يحرصون على ذلك حرصاً شديداً ويداومون على ممارسة ذلك باستمرار.
هذا ويأتي في مقدمة هؤلاء العظام رسول الإنسانية محمد(ص)والأئمة الطاهرين(ع)،وفي مقدمتهم الإمام الحسين(ع)،ومن النساء تأتي الطاهرة السيدة الزهراء(ع)والسيدة خديجة(ع)وشريكة الحسين في النهضة عقيلة الطالبيـين زينب(ع)،وغيرهن من النساء اللاتي شاركن بوجه أو بآخر في تاريخ الإسلام العام،أو تاريخ التشيع الخاص.
ولقد كثر الكلام من بعض الفرق الإسلامية حول مشروعية الزيارة،وأطيل البحث حول ذلك،وأن زيارة القبور غير مشروعة،وأنها شرك،بل كفر،وما شابه ذلك من كلام في البين.
ولسنا هنا بصدد الرد على مثل هذه المقالات،خصوصاً وأن التاريخ يثبت لنا مشروعية الزيارة،وأنها أمر لم يرد فيه نهي من الشرع الشريف،بل قد ورد الإمضاء لها من قبل النبي(ص)وأهل بيته،وعلى هذا كان صحابة رسول الله(ص)من الصالحين.
دوافع الزيارة:
يعتقد الكثيرون من الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية،أن دوافع الزيارة ،تتصل بتكريم الأشخاص الذين يزاروا،لكونهم كراماً عند الله سبحانه وتعالى،كما أنها تتصل بعملية طلب الشفاعة منهم عند الله سبحانه وتعالى،وتتصل أيضاً بطلب البركة من الله عز وجل بواسطتهم.
وبالجملة دوافع الزيارة عند هؤلاء تتصل بخصوص أشخاص المزورين،وأشخاص زائريهم،وليس وراء ذلك شيء.
لكن الصحيح عدم تمامية هذا التصور،لا من غير الشيعة ولا من بعض الشيعة.
أما غير الشيعة،فوجه الخطأ عندهم نجم لكونهم لم يطلعوا على الحقيقة من الداخل،ولم يطلعوا على منطلقات الزيارة في الفكر السياسي،والاجتماعي لأئمة أهل البيت(ع)الذين جعلوا من الزيارة تقليداً إسلامياً،يمثل مؤسسة سياسية،اجتماعية،ثقافية ثابتة في صميم التكوين الثقافي الشيعي.
وكذلك خطأ من بعض الشيعة،فإنه لما تخلى عن مناقبه الأساسية،حور فهمه للممارسات التي أنشئت لتكون غذاءً لروحه وفكره،فحولها إلى ممارسة طقوس تخدره،وتبرر وضعه الانهزامي،وهذا ما حدث بالفعل للإنسان المسلم بوجه عام.
الغاية الصحيحة للزيارة:
والصحيح أن الغاية التي توخاها أهل البيت(ع)من إبراز ظاهرة الزيارة لشيعتهم،نحو الشخصيات المقدسة في الإسلام،هي إبقاء الصلة حية ونابضة بين الإسلام الحي وبين الإنسان الشيعي لئلا يتحول الإسلام في ذهنه إلى مجرد ممارسات طقسية وفقه ميت.
ولئلا تكون النماذج التطبيقية الرسمية التي يعايشها المسلم في حياته اليومية على صعيد الحكم وعلى صعيد المجتمع هي النماذج التي يحتذى بها،ويعترف بها من قبله.
وإنما تبقى النماذج السليمة البريئة الصافية للإسلام في ذهنه،كما تبقى الممارسات الأمينة الصادقة للإسلام حية عنده أيضاً.
ولهذا حينما جعل الأئمة الطاهرين(ع)الزيارة مؤسسة فكرية سياسية اجتماعية،أرادوا أن يجعلوا الإنسان الشيعي على صلة حية ومباشرة بمنابع إسلامه في الفكر والنظرية،في التطبيق والممارسة.
ثم إن هذا الذي ذكرناه بعيداً عن النصوص التعبدية الواردة في البين،فقد ورد عن رسول الله(ص)أنه قال لأمير المؤمنين(ع):
يا علي من زارني في حياتي أو بعد موتي أو زارك في حياتك أو بعد موتك أو زار ابنيك في حياتهما أو بعد موتهما ضمنت له يوم القيامة أن أخلصه من أهوالها وشدائدها حتى أصيره معي في درجتي .
قراءة في نصوص الزيارة:
فلو لاحظنا النصوص التي وردت في زيارة رسول الإنسانية محمد(ص)لوجدناها تسلط الضوء على الجهود التي قام بها في الدعوة إلى الإسلام،ونشره وتثبيته،إلى جانب ما تشتمل عليه من عبارات المدح والثناء لشخصه المبارك،وتعظيمه وتكريمه.
ولما نتأمل في النصوص التي وردت في زيارة أمير المؤمنين علي(ع)،نراها تتعرض لبيان جهوده الفكرية والعملية في سبيل الإسلام.
وهكذا يمكننا أن نلاحظ كل زيارة واردة في شأن أحد المعصومين(ع)،نجدها تتعرض لبيان شيء من حياته وسيرته الشريفة.
فالطهارة البدنية والطهارة النفسية،والطهارة الاجتماعية،والطهارة التربوية،وغير ذلك من أقسام الطهارات،كلها متقلبة في مختلف زيارات أهل البيت(ع)،فنقرأ في زيارة الحسين(ع):
أشهد أنك طهر طاهر مطهر طهرت وطهرت بك البلاد وطهرت أرض أنت بها وطهر حرمك.
طهارة في طهارة في طهارة،أية مدرسة هذه التي تكرر الطهارة بحيث تجعلها أساس في عملية التربية؟…
إن الطهارة هنا تعني البراءة من الذنوب الدينية والأخلاقية،مما يعني إثبات صفة القداسة للحسين(ع)،وتكون القداسة الثابتة له ناشئة من طهارته،وليست حاصلة من منبع آخر.
فالطهارة تنتشر متى حل الإنسان الطاهر،وإلا فالأمكنة لا تتمتع بذاتها بأية قداسة،وإنما تستمد قداستها من كونها مركزاً لعمل ونشاط ذلك الإنسان الطاهر.
فالحق أن الزيارات الوردة عنهم(ع)مدرسة جامعة لكل الكمالات الإنسانية،وحاوية لكل الفضائل فلم تترك واحدة منها إلا ودمجتها في قالب تعبيري رائع بديع.
ومن الواضح أن هذا النوع،يعطي الزائر تعريفاً عملياً واضحاً عن المزور،كما يظهر له شأنه ومكانته،فضلاً عن بيان مجهوداته الجبارة التي قدمها من أجل خدمة الإسلام،مع ما بذل في سبيل التضحية لإعلاء كلمة الحق.
هذا ولكي تؤثر الزيارة أثرها،لابد من أن تكون عن وعي لدور المزور في حركة الإسلام،وموقعه من الجهاد في سبيله.
ولعل هذا هو المراد مما ورد في العديد من النصوص بالتعبير بقولهم(ع):عارفاً بحقه.
فالمعرفة بحقه تعني الوعي لدوره الذي قام به في حياته،ولمركزه في قيادة حركة الإسلام في مجالي التشريع والتطبيق.
وبالجملة ليست زيارة النبي والأئمة الطاهرين(ع)تسلية،أو عملاً دنيوياً،يرغب فيه طلاب الدنيا،ويسعون لعمله،إنها عبادة روحية،عمل يراد به التقرب إلى الله تعالى.
ثم إننا متى عرفنا أن زيارتهم(ع)عبادة،أمكننا معرفة الوجه في تلك الوعود السخية بالثواب من الله تعالى،ومغفرة الذنوب والخطايا،وإسباغ البركات،لمن قام بأدائها.
ومتى تمت ممارسة الزيارة في ضوء هذا الوعي،فإنها تعزز في قلب الزائر وفي عقله صلة بالإسلام المتحرك الفعال،لأنها تربطه بالنماذج الرسالية الفعالة في تاريخ الإسلام.
من هنا يمكننا أن نعرف النموذج الصحيح في الزيارة،لأن هناك نموذجين من نماذج الزيارة التي يقوم بها الزائرون عند الأضرحة المقدسة:
النموذج الأول:الزيارة اللسانية التي لا تعدو عن أن تكون مجرد ترديد ألفاظ قد صفت إلى بعضها البعض،لا يعي قارئها من معانيها شيئاً أصلاً.
النموذج الثاني:هو الزيارة الفكرية التي يزور بها الزائر بكامل أحاسيسه ومشاعره،فيقرأ الزيارة بفكره وقلبه وعقله،قبل أن يرددها لسانه،فهو يعيش كل كلمة حينما يقرأها،فتراه يعيش مع المزور في عصره،ويقوم بقراءة سيرته ودراسة حياته ويستلهم منه الدروس والعبر.
تقوية الرابط بين الزائر والمزور:
ثم إن كل زيارة من الزيارات المعتمدة لأئمة الهدى(ع)تشتمل على تعهد أمام الله سبحانه وتعالى،ينشئه الإنسان الشيعي مع المزور بوجه خاص،ومع الرسول وأئمة أهل البيت(ع)بوجه عام،على أن يبقى أميناً على عهدهم وطريقتهم وسنتهم،فلاحظ مثلاً:
اللهم اجعلني في مقامي هذا ممن تناله منك صلوات ورحمة ومغفرة،اللهم اجعل محياي محيا محمد وآل محمد،ومماتي ممات محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله .
وأنظر إلى قوله(ع):
اللهم إني أشهدك بالولاية لمن واليت ووالته رسلك،وأشهد بالبراءة ممن برئت منه وبرئت منه رسلك .
ونرى في مورد ثالث يشهد الزائر الله سبحانه والمعصومين(ع)على كونه مؤمناً بهم ومتبعاً لهم:
وأشهد الله تبارك وتعالى وكفى به شهيداً،وأشهدكم أني بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي،وشرايع ديني،وخواتيم عملي،ومنقلبي ومثواي .
ويقدم في مورد آخر نموذج يغاير النموذج السابق في الإشهاد على نفسه فيقول:
اللهم إني أشهدك وأشهد من حضر من ملائكتك أني بهم مؤمن وبمن قتلهم كافر اللهم اجعل لما أقول بلساني حقيقة في قلبي،وشريعة في عملي.
والحاصل،إن الزيارة الواردة عن أحد المعصومين،ليزار بها معصوم منهم(ع)تمثل ما ذكرناه من المؤسسة الفكرية والثقافية والسياسية.
زيارة الحسين(ع):
ثم إن من بين الزيارات التي وردت عن أهل البيت(ع)،وجاء الحث والتأكيد عليها زيارة المولى الحسين(ع)،مع بيان ما لزائره(ع)من أجر وثواب،وأن أيام زوار الحسين حين زيارته،لا تكتب من أعمارهم وغير ذلك من النصوص الواردة في مثل ذلك.
كما أنه قد خصص(ع) بزيارات خاصة في خاصة أيام السنة زائداً على ما جاء في الحث المؤكد على زيارته المطلقة دون سائر الأئمة،بل لم يخصص سيد المرسلين محمد(ص)بمثلها.
هذا وقد يكون السر في ذلك يعود إلى تسليط الضوء على ثورة الإمام الحسين(ع)لكونها أعظم الأحداث مأساوية ونبلاً في التاريخ الشيعي،بحيث أنها تختلف عن جميع العمليات الحربية التي قام بها غيره،فأمير المؤمنين(ع)خاض عدة حروب،إلا أنها كانت من موقع السلطة،بخلاف أبي عبد الله(ع)حيث خاض حرباً من خارج السلطة،بل ضد السلطة،قدم فيها نفسه الشريفة وثلة مباركة من أهل بيته وأنصاره.
كما أن خلو ثورته المباركة عن أي أمل أو غرض دنيوي،جعلها تتمتع بإيحاء عظيم،وقدرة على التأثير،مع رسم النموذج الفدائي للإنسان الشيعي،بل المسلم،في مواجهة الصعوبات،والوقوف أمام الحكم الظالم.
نموذج من زيارة الحسين(ع):
ورد عن الإمام الصادق(ع)زيارة لأبي عبد الله الحسين(ع)معروفة بزيارة وارث،قال فيها:
السلام عليك يا وراث آدم صفوة الله،السلام عليك يا وارث نوح نبي الله،السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله،السلام عليك يا وارث موسى كليم الله،السلام عليك يا وارث عيسى روح الله،السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله،السلام عليك يا وارث علي وصي رسول الله،السلام عليك يا وارث الحسن الرضي،السلام عليك يا وارث فاطمة بنت رسول الله.
قد يستوقف هذا التعبير الزائر للإمام الحسين(ع)فيسأل عن الدواعي التي دعت الإمام الصادق(ع)إلى أن يزور جده الحسين(ع)بمثل هذه العبائر،حيث لا يشك أحد في كون الحسين متصفاً بجميع ما ذكره الإمام لكونه إماماً مفترض الطاعة.
لكن الصحيح أن هناك غاية كان يتوخاها الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)من الزيارة بمثل هذه التعابير،وذلك لأن السلطة الحاكمة في ذلك الوقت كانت تتهم قيام الحسين(ع)بأنه خروج عن الخط وتمرد على السلطة الشرعية،وشق لعصا المسلمين وجماعتهم،فهي شذوذ في حركة سير الإسلام،فتكون فاقدة للشرعية.
وقد جند الأمويون لترسيخ هذه الفكرة في أذهان الأمة أجهزتهم الإعلامية،من وعاظ السلاطين وأمثالهم.
من هنا فقد تصدى الأئمة(ع)للوقوف أمام هذا التيار،فبدل أن توضع حركة الحسين خارج الشرعية،وضع النظام الأموي بأكمله خارجها،بل يوضع خارجها أيضاً كل نظام يعتبر امتداداً للنظام الأموي بحمله لنفس شعاراته.
فحين يعرض الإمام(ع)ثورة الحسين بهذه الصورة يقرر أنها متصلة بالإسلام،وبحركة التوحيد من أول وجود الإنسانية بوجود أبي البشر آدم(ع)،مارة بنوح،ثم بإبراهيم ،ثم بموسى،ثم بعيسى،ثم بمحمد،ثم بعلي والحسن(ع).
فليست الثورة على هذا حدثاً لا سابقة له،بل هي جزء من حركة الإسلام في التاريخ،لكونها امتداداً إلى حركة الأنبياء والأوصياء في الزمان والمكان والإنسان.
وعلى هذا ستكون متمتعة بالشرعية،فمن حقها أن تنال تأييد المسلمين،ويكون النظام المعارض لها هو النظام الذي يفتقد إلى الشرعية،وعلى الناس أن يقفوا أمامه ويحطموه.
هذا ويمكننا أن نخرج بغاية أخرى تنفعنا اليوم،ونحن نزور الإمام الحسين(ع)،وهي إحساس الشيعي وهو يزور الحسين(ع)بأنه متصل من خلال نهضته المباركة بالإسلام في امتداده إلى أبعد الآماد.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بدلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام.