29 مارس,2024

الشهيد زيد بن علي(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

من الشخصيات الثورية التي ذكرها التاريخ، شخصية زيد بن الإمام زين العابدين(ع)، حيث نص المؤرخون على خروجه ثائراً على الحكومة الأموية، حتى قتل ووقع شهيداً، وقد ثارت حول شخصيته مجموعة من التساؤلات والشبه، بعضها شخصي يرتبط به من حيث الوثاقة والاعتماد والمدح، أو الذم، وعدم القبول. وبعضها الآخر يرتبط بمبدأ الإمامة، والخلافة الإلهية، على أساس عدم معرفة الداعي لعدم استلامه هذا المنصب بعد الإمام السجاد(ع)، أو بعد الإمام الباقر(ع)، خصوصاً وأنه القائد الثائر الخارج على السلطان الظالم؟

ويظهر من شيخنا المفيد(ره) في الإرشاد، وجود جذور لهذه الشبهة في عصر زيد(رض)، حيث أشار إلى ذلك في حديثه عنه، قال(قده): وكان زيد بن علي بن الحسين(ع) عين إخوته بعد أبي جعفر(ع)، وأفضلهم، وكان عابداً ورعاً فقيهاً، سخياً شجاعاً، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويطلب بثارات الحسين(ع). واعتقد كثير من الشيعة فيه الإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو إلى الرضا من آل محمد(ع)، فظنوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها به لمعرفته باستحقاق أخيه للإمامة من قبله ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد الله(ع)، ولما قتل بلغ ذلك أبي عبد الله الصادق(ع)، كل مبلغ، وحزن له حزناً عظيماً حتى بان عليه، وفرّق من ماله في عيال من أصيب معه من أصحابه ألف دينار. وكان مقتله لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة، وكان سنه يومئذ اثنتين وأربعين سنة[1].

والحديث عن ما يثار حوله من تساؤلات، والقيام بالإجابة عنها، يستوجب دراسة النصوص التي وردت فيه، سواء ما كان منها مادحاً، وما كان منها ذاماً، كما يحتاج إلى معرفة المعيار المتبع في الإمامة، بعد الإحاطة بماهيتها.

والذي يدعو إلى استعراض الروايات، ما ألصق به من تهم من قبيل:

1-أنه لم يكن عارفاً بالإمام المعصوم في عصره.

2-أنه قد أدعى الإمامة لنفسه، وقام يطلبها.

3-أنه قد خالف إمام زمانه، وهو الإمام الصادق(ع)، وعصاه.

ومن الطبيعي أنه لا تندفع هذه الشبه إلا بملاحظة النصوص المتعرضة إليه، والنظر في مقدار دلالتها.

سيرته الذاتية:

ويلزم أن يتعرف القارئ على شيء موجز حول حياته، فقد ذكر في نسبه أنه زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، وأمه أم ولد اشتراها المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وقد أختلف في اسمها، فقيل أنها حوراء، وقيل أنها حورية، وأهداها للإمام زين العابدين(ع)، فولدت له ثلاثة ذكور، هم زيد، وعمر، وعلي، وأنثى وهي خديجة، وقد وقع الخلاف في سنة ولادته، فقيل أنه ولد في سنة 75 من الهجرة النبوية، وقيل أنها كانت في سنة 79 منها، وكما وقع الخلاف في تاريخ الولادة، وقع الخلاف أيضاً في سنة شهادته، فقيل أ نها كانت سنة 120 من الهجرة النبوية، وقيل أنها كانت سنة 121 منها. وقد قيل أن منشأ الخلاف في سنة ولادته، هو الخلاف في سنة شهادته، ذلك أنهم يتفقون تقريباً على أن له من العمر يوم شهادته 42 سنة، فإذا كانت سنة 120 هـ، فيلزم أن يكون تاريخ ولادته متناسباً مع عمره المذكور وقت شهادته، وكذا لو كانت بعد ذلك سنة 121 هـ، فلاحظ.

ويظهر من الألقاب التي أطلقت عليه مدى ما كان عليه من تقوى وإيمان، وطهارة وصفاء روحي، فقد لقب بحليف القرآن، كما سمي بزيد الأزياد، وفسرت هذه التسمية بأنه مقدم على كل من سمي بهذا الاسم، وأن له قصب السبق عليهم جميعاً[2]. وهذا ليس غريباً، خصوصاً عندما يحيط القارئ بمكان نشأته، ومن تولى تربيته، وإعداده، فقد نشأ في أحضان الإمامة والعصمة والطهارة، في حجر أبيه الإمام زين العابدين(ع)، ونهل من فيوضاته الروحية، وأكتسب من عشقه الإلهي، وارتباطه بالخالق سبحانه وتعالى، وتعلقه به.

ومن بعد شهادة الإمام زين العابدين(ع)، كان محط اهتمام أخيه الإمام الباقر(ع)، ومورد عنايته، فكان يفيض عليه من علومه ومعارفه، ويغذيه من نمير علاقاته مع ربه سبحانه وتعالى، ولما آلت الإمامة إلى صادق العترة الطاهرة(ع)، كان أحد أعضاء المدرسة الجعفرية، ينهل من غدير معارفها، ويتناول من فيوض بركاته، جالساً على مأدبة العلم الجعفرية، يتغذى دون كلل ولا ملل.

وقد ذكروا في صفته الخَلقية، أنه كان تام الخلقة، طويل القامة، جميل المنظر، وسيم الوجه، أبيض اللون، واسع العينين. وقد كان نقش خاتمه، اصبر تؤجر، أصدق تنج.

النصوص الذاكرة زيداً:

هذا وعند العود لقراءة النصوص التي عرضت ذكره، نجدها طائفتين:

الأولى: النصوص التي تضمنت مدحاً وذكراً حسناً له، واشتملت على الكثير من الثناء عليه. ويمكن تصنفيها لصنفين:

أحدهما: ما ورد عن الأئمة الأطهار(ع) في مدحه والثناء عليه.

ثانيهما: ما ورد عن زيد نفسه، وفيها يعرض لبيان ما يعتقده في مسألة الإمامة، ويشير إلى أنه لم يخرج إلا وهو على دراية بمن هو إمامه.

الثانية: النصوص التي تضمنت ذماً له، وأشارت إلى مؤاخذة عليه، وحالها كحال الطائفة الأولى، فتصنف إلى صنفين أيضاً:

أحدهما: ما صدر عن الأئمة المعصومين(ع) في هذا الجانب.

ثانيهما: ما صدر عن زيد نفسه.

وبحسب النظر البدوي، سوف يكون هناك معارضة ولو بدوية بينهما، ما يوجب البحث عن علاج لذلك، لكن هذا يتوقف على دخول الطائفتين دائرة الحجية، لما قرر في محله، من أن المعارضة فرع الحجية، فلو لم تكن الطائفتان، كذلك فلن تكون هناك معارضة كما لا يخفى. وهذا يستلزم القيام بالدراسة السندية، ودراسة متون النصوص، وبعد الفراغ عن قبولها، سوف يتوجه الأمر إلى ملاحظة مدى دلالتها على الأمرين المذكورين، إن كان المدح، أو الذم، وعليه سوف يكون البحث عن الطائفتين، وملاحظة وجود الأمرين، أعني أصالة الصدور، وتمامية أصالة الظهور.

ومما يدعو لملاحظة توفر أصالة الصدور في النصوص خصوصاً نصوص المدح، ما جاء عن الإمام الخوئي(ره) بشأنها، حيث ذكر أنها كلها ضعيفة، أو قابلة للمناقشة، قال(قده): وإن استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في إسنادها وإن كانت جلها، بل كلها ضعيفة، أو قابلة للمناقشة[3]. وسيأتي أن ما أفاده(ره) ممنوع، لوجود جملة من النصوص المعتبرة الأسناد، خصوصاً على مسلكه(قده)، بل هي من الصحيح الأعلائي.

وكيف ما كان، لن يتسنى لنا استعراض جميع النصوص الواردة في الطائفتين بصنفيها، فإن ذلك يخرج بالبحث عن الاختصار، لكننا سوف نعرض لبعضها من الصنفين، أو قد نشير لشيء من كل صنف، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع بعد ذلك للكتب المطولة التي عرضت للحديث عن شخصية زيد بن علي.

النصوص المادحة:

منها: خبر سليمان بن خالد، قال: قال لي أبو عبد الله(ع): كيف صنعتم بعمي زيد؟ قلت: إنهم كانوا يحرسونه، فلما شفّ الناس، أخذنا خشبته فدفناه في جرف على شاطئ الفرات، فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه، فوجدوه فأحرقوه، فقال: أفلا أوقرتموه حديداً، وألقيتموه في الفرات، صلى الله عليه، ولعن الله قاتله[4]. وتقريب دلالتها على المدح من خلال ذيلها، فإن صلاة الإمام(ع) على شخص كاشفة عن رضاه عنه، ولا يخفى أن رضا المعصوم(ع) عن شخص، يكشف عن حسن حاله، ذلك أن المعصوم لا يرضى إلا عن من يكون جديراً بالرضا، ومع كون الشخص حسن الحال، فإنه يستتبع حسن عاقبته، فيثبت المطلوب.

كما يمكن الاستناد في تحصيل المدح له، من خلال لعنه الإمام(ع) قاتليه، ضرورة أنه لا يتصور أن يصدر من الإمام(ع)لعن لشخص ما إلا وهو مستحق لذلك، وإذا عرف منشأ اللعن، وسببه، كشف ذلك عن أهمية من صدر اللعن بسببه، وأنه ذو منـزلة ومكانة مرموقة، فيثبت المطلوب.

ولا يخفى عدم تمامية الاستدلال، فإن صلاة المعصوم(ع) على شخص لا تخرج عن كونها دعاء، ومجرد الدعاء الصادر من المعصوم(ع) لا يكشف عن حسن حال، ولا اعتبار واعتماد، كيف وقد دعى الإمام الصادق(ع) لزوار الإمام الحسين(ع)، ولا يختلف أثنان أن بينهم من ليس جديراً بحسن الحال والوثاقة. وأوضح في المنع التمسك لإثبات المدح من خلال لعن قاتله، إذ يكفي أن يلتفت إلى أن اللعن قد يكون نشئ لأنه تضمن إبراز للظلامة التي وقع فيها زيد، فلاحظ. على أن في متن الخبر مشكلة تمنع من الركون إليه، فقد تضمن حصول الدفن لزيد مرتين، الأولى بعد استشهاده، وهو ما قام به بعض خواصه، لكن حكومة الأمويـين استخرجته، وقامت بصلبه، وأبقت جسده سنتين. والثانية بعد صلبه، وهذا مخالف للموروث التاريخي، ومقتضى ذلك سقوط الخبر عن الحجية والاعتبار، فتدبر.

ثم إن التعويل على تقريب الدلالة، فرع دخول الخبر دائرة الحجية، بإحراز صدوره، إلا أن هناك مانعاً، كون الرواية مرسلة، فإن سندها لم يتضمن ذكراً للواسطة بين ابن أبي عمير، وسليمان بن خالد.

ويعالج الإشكال المذكور، بأن ابن أبي عمير وأخويه لا يرويان ولا يرسلان إلا عن ثقة، وعليه فكل من روى عنه ابن أبي عمير تحرز وثاقته.

ومع التسليم بتمامية الكبرى، ولو بقيد كما فصل في محله، إلا أن ذلك لا يشمل المراسيل، وإنما يختص بما إذا كان الراوي المذكور مجهول الحال، أما المراسيل، فإن جعل المقام من صغريات الشهادة الصادرة عن شيخ الطائفة(ره)، يعدّ تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقة، فتأمل.

وبالجملة، لا يصلح الخبر المذكور لإثبات المدعى، بعد التسليم بعدم وجود المانع السندي، لتحرز أصالة الظهور، فتدبر.

ومنها: خبر الحسن بن علي الوشاء عمن ذكره، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الله عز ذكره أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهن زيداً بسبعة أيام[5]. والاستناد إليها على المدعى مبني على القول بكشفها عن وجود منـزلة خاصة ومقام من خلال أذنه تعالى بهلاك بني أمية بسبعة أيام بعد قتلهم إياها.

وبالجملة، إن هذا الإذن الصادر من الذات المقدسة، يكشف عن وجود منـزلة خاصة له عند الله تعالى، لذلك أذن بهلاكهم.

إلا أن الثابت تاريخياً أنه لم يهلك بنو أمية بعد مرور سبعة أيام من شهادة زيد، ما يكون منافياً لما تضمنه الخبر المذكور، وقد دعى ذلك البعض كالشيخ المازندراني(ره)[6] إلى تأويل ما تضمنه الخبر، بالقول بوجود فرق بين الإذن بالهلاك، وبين وقوعه خارجاً، وما تضمنه الخبر أنه تعالى قد أذن بهلاكهم، لا أنه سبحانه وتعالى أوجد ذلك خارجاً، فتدبر.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الخبر على المدح، إلا أنه ضعيف سنداً، فمضافاً إلى كونه مرسلاً لعدم ذكر الواسطة بين الوشاء، وبين الإمام(ع)، وليس الوشاء ممن شهد في حقه بأنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة، وقع في سنده سهل بن زياد، وهو محل خلاف بين الأعلام، والقول بضعفه، وسقوط روايته عن الاعتبار تساعد عليه الأدلة.

ومنها: صحيحة العيص بن القاسم –في حديث-قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: …والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون؟ ولا تقولوا خرج زيد، فإن زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه[7].

ودلالة الصحيح على المدح جلية لا تحتاج بياناً، فقد وصفه الإمام(ع) بصفات تكشف عن أعلى درجات المدح والتوثيق، فهو العالم، الصدوق، المجاهد الذي خرج يطلب الحق لأهله، من خلال دعوته للرضا من آل محمد(ص)، وأنه لم يكن طالباً الأمر لنفسه، وإنما كان يطلبه لإمام العصر، فلاحظ. وليس في سندها من يتوقف فيه، خصوصاً مع البناء على وثاقة إبراهيم بن هاشم-كما هو الصحيح-على أنه لو لم يحكم بوثاقته، لا أقل من البناء على مدحه، الموجب لدخول خبره دائرة الحجية، لأنه سيكون من الأخبار الحسان، وقد بني على شمولها لمثله.

ومنه يتضح عدم تمامية ما أفاده الإمام الخوئي(ره) في كلامه الذي أشرنا إليه في مطلع البحث، من ضعف جل النصوص، بل كلها، فلاحظ.

ومنها: ما رواه ابن عبدون عن أبيه، في شأن حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون، وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس، وهب المأمون جرمه لأخيه الإمام الرضا(ع)، وقد قال له: يا أبا الحسن لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج من قبله زيد بن علي فقتل، ولولا مكانك مني لقتلته، فليس ما أتاه بصغير، فقال الرضا(ع): يا أمير المؤمنين لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي(ع)، فإنه كان من علماء آل محمد، غضب لله عز وجل، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر(ع)، أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم الله عمي زيداً، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلما ولى قال جعفر بن محمد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه، فقال المأمون: يا أبا الحسن أليس قد جاء فيمن أدعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال الرضا(ع): إن زيد بن علي(ع) لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذاك إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، وإنما جاء ما جاء فيمن يدعي أن الله نص عليه، ثم يدعو إلى غير دين الله، ويضل عن سبيله بغير علم، وكان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية:- (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم)[8].

ودلالة هذا النص على حسن حال زيد، ومدحه لا تقل عن سابقه، من حيث الصراحة، مضافاً إلى نفيه(ع) أن يكون زيد(رض) مدعياً الإمامة لنفسه، وتأكيده على دفع هذه الشبهة ودحضها، كما أنه بيّن(ع) أنه كان عارفاً بإمام عصره، وأنه لم يقدم على ما أقدم عليه، إلا وقد خذ الإذن منه(ع)، فلاحظ. نعم قد تضمن سندها أشخاصاً وقعوا مورد كلام لعلماء الرجال، فقد اشتمل على أحمد بن يحيى المكتب، وهو لم يذكر في كتب الرجال، إلا أن الصدوق(ره) ذكره في كتابه كمال الدين، وترضى عليه، فإن بني على أن الترضي على شخص، يدل على وثاقته، لكونه من قبيل الترضي على أصحاب بيعة الرضوان، فلا مجال للتوقف فيه، وإلا فلا. كما وقع في سنده الصولي، وهو محمد بن يحيى، وليس له ذكر في كتب الرجال، إلا أن الصدوق(ره)، أكثر من الرواية عنه بواسطة الحسين بن أحمد، فلو سلم بكبرى أن رواية الجليل عن شخص، ولو بواسطة تكشف عن حسن حال المروي عنه، فضلاً عن دلالة إكثاره على ذلك، بني على وثاقته، وإلا فلا. وكذلك بقية من وقع في السند، أعني محمد بن زيد النحوي، وابن أبي عبدون، وأبا عبدون، فإنهم جميعاً ليس لهم ذكر في كتب الرجال.

نعم في البين احتمال أشير إليه في كلمات بعض أساطين العصر من المحققين(أطال الله في بقائه)، ربما ساعد على اعتبار الرواية محل البحث، محصله، إن تسمية الكتاب بعيون أخبار الرضا(ع)، يشير إلى أن المذكور فيه هو خصوص المنتخب والجيد، وليس كل شيء، ما يعني أن هناك عملية تمحيص وانتخاب واختيار، ولا ريب أن هذا لا يكون إلا للنصوص التي يطمأن بصدورها، فكأن في البين شهادة ولو ضمنية من الصدوق(ره) بوثاقة جميع من وقع في الكتاب، وصدور ما تضمنه من نصوص، ويدل على ذلك تمسية الكتاب، بالعيون، فتأمل جيداً.

ومنها: ما رواه جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) عن آبائه(ع)، قال: قال رسول الله(ص) للحسين: يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين يدخلون الجنة بلا حساب[9].

والإنصاف، تمامية دلالتها على حسن الرجل، وصلاحه، فإنه لا يتصور أن يدخل الجنة إلا من كان كذلك، بل حتى لو قيل بأن موجب دخوله الجنة نيله الشفاعة، وهو وإن كان بعيداً، إلا أنه يؤول لباً إلى صلاح وحسن حاله، كما لا يخفى. نعم قد يتوقف في دلالتها من جهة التعميم في شمول جميع أصحابه لدخول الجنة، مع أن المؤرخين قد نصوا على تعدد الخارجين معه(رض) بحسب المعتقد، لأن ثورته كانت ثورة عامة، فمن الطبيعي أن تشتمل على العديد من المذاهب الإسلامية، خصوصاً وأنها كانت ثورة على بني أمية، ولا يمكن الحكم بدخول جميع هؤلاء إلى الجنة، خصوصاً وأن بعضهم فاسد المعتقد، فيكون ذلك مانعاً من دخوله الجنة.

وقد عولج الإشكال المذكور بجوابين:

أحدهما: إن الإشكال المذكور يتوقف على إحراز أن الذين استشهدوا معه(رض) لا زالوا باقين على معتقدهم الديني الفاسد، وأنهم لم يعدلوا عنه، مع أن من المحتمل أن يكونوا قد عدلوا عن ذلك واتخذوا طريق الحق، فلا يرد الإشكال المذكور.

وضعف هذا الوجه واضح، ضرورة أن المحرز فساد عقيدتهم، وأما اتخاذهم طريق الحق واتباعهم، فدعوى عهدتها على مدعيها، يحتاج القائل بها إلى إقامة البرهان على تحقق العدول، وإلا فإن الأمر يستوجب بقائهم على ما هم عليه.

ثانيهما: إن من المحتمل في النص المذكور عدم إرادة الجميع، وإنما يقصد منهم خصوص من كان معتقداً بما كان يعتقد به زيد(رض)، وهذا يستوجب عدم شمول النص المذكور لمن لم يكن عارفاً طريق الحق، فلاحظ.

وما ذكر وجيه، لو لم يحمل لفظ أصحابه الواقع في النص على العموم والشمول لجميع الخارجين معه، بحيث كان مختصاً بمن كان ينطبق عليهم هذا المفهوم، وهم خصوص المتبعين له في الفكر والمنهج، وهذا وإن كان متصوراً، إلا أنه خلاف الظاهر، فتأمل جيداً.

نعم يمكن العمد إلى التفكيك في الحجية، فيلتـزم بجزء من النص دون غيره، وبالتالي يقال: بأن مفادها أنه من الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وترفع اليد عن الأصحاب، فيثبت المطلوب.

إلا أن الإنصاف، صعوبة البناء على مثل هذا، خصوصاً وأن الوارد لسان واحد، فتأمل جيداً. ثم إنه لو غض الطرف عن المناقشة في دلالتها، إلا أنها تعاني مشكلة سندية، فقد اشتمل سندها على أحمد بن هارون الفامي، وطريق توثيقه منحصر في خصوص ترضي الصدوق(ره) عليه، كما أنه تضمن الحسين بن علوان الكلبي، وقد بنى سيدنا الخوئي(ره) على توثيقه، والحق في خلافه، لعدم ظهور عبارة النجاشي في المدعى، وفي سندها أيضاً داود بن عبد الجبار، وليس له توثيق، كما أن راويها وهو جابر بن يزيد الجعفي محل كلام طويل الذيل بين الرجاليـين لا يسعه هذا المختصر.

ومنها: ما رواه أبو الجارود قال: كنت عند أبي جعفر(ع) جالساً إذ أقبل زيد بن علي(ع)، فلما نظر إليه أبو جعفر(ع) قال: هذا سيد أهل بيتي، والطالب بأوتارهم[10].

وقد يستفاد من هذا الخبر مضافاً إلى مدح زيد، والثناء عليه بتوصيفه بأنه سيد أهل بيته، شرعية ثورته، من خلال قوله(ع): الطالب بأوتارهم. وما ذكر وإن كان صحيحاً، إلا أن ما يوجب التوقف فيه ملاحظة الراوي له، فإنه أبو الجارود، وهو أحد رؤوس الزيدية في عصره، فقد يتوقف في إحراز أصالة الجد في النص المذكور، فتأمل. على أن سندها يعاني ضعفاً بوجود أبي يعقوب المقري، ووجود كلام في أبي عبد الله الشاذاني، مضافاً إلى أن أبا الجارود نفسه فيه كلام، فلاحظ.

ومنها: ما حدث به أبو حفص الأعشى عن أبي داود المدني، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي(ع): يخرج بظهر الكوفة رجل، يقال له زيد بن علي في أبهة-الأبهة يعني الملك-لا يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامير أو شبه الطوامير، حتى يتخطوا أعناق الخلائق تتلقاهم الملائكة، فيقولون: هؤلاء خلف الخلف ودعاة الحق، ويستقبلهم رسول الله(ص)، فيقول: يا بني، قد عملتم ما أمرتم به فادخلوا الجنة بغير حساب[11].

ودلالة النص المذكور على حسن حال زيد، بل وجلالته لا تنكر، فإن الأوصاف التي وصفها بها أمير المؤمنين تعطيه ذلك، حيث جعله في منـزلة لا تنال: لا يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، إلا من عمل بمثل عمله، وأنه يتخطى رقاب الناس يوم القيامة، هو وأصحابه، وأن الملائكة تتلقاهم وتصفهم إلى آخر ذلك. كما يستفاد من النص المذكور شرعية ما قام به زيد في ثورته، لأنه(ع) يؤكد على أن موجب ما أعطيه زيد من المقام، والمنـزلة إنما هو لما قام به من عمل، وثورة، فلاحظ.

وبالجملة، يستفاد من الخبر المذكور أمران:

أحدهما: حسن حال زيد، وصلاحه، وعلو منـزلته ومكانته يوم القيامة.

ثانيهما: شرعية ثورته التي قام بها.

هذا وقد يعترض على الخبر المذكور باعتراضات:

منها: إن مقتضى ما ذكر في الخبر من أنه لا ينال مكانة زيد إلا من عمل عمله، أن يكون زيد أفضل من بعض الأئمة الأطهار(ع) كأبيه السجاد، وأخيه الباقر، وابن أخيه الصادق(ع) على سبيل المثال، فإن أحداً منهم لم يقم بمثل عمله.

وقد دفع ذلك، بخروج الأئمة الأطهار(ع) من هذه الكبرى، وعدم شمولها لهم، لأنهم المصدر الأساس في معرفة من يمدح ومن لا يمدح، فلا يجعل كلامهم ميزاناً لهم، فلاحظ.

ومنها: إن الظاهر من النص محل البحث أن ما قام به زيد وصحبه، كان تكليفاً لهم، لقوله: قد عملتم بما أمرتم، وهذا يعارض نصوصاً عديدة تضمنت خلاف ذلك من النهي لزيد عن الخروج، مثل ما جاء في بعض مرويات الإمام الصادق(ع) بقوله له: أعيذك بالله أن تكون صليب الكناسة، فإذا كان ما قام به زيد هو تكليفه، فكيف يعيذه المعصوم(ع) من فعله؟

وقد أجيب عن ذلك باختلاف الموضوع في الموردين، فإن التكليف المشار إليه في النص محل البحث هو الوظيفة الشرعية المتمثلة في قيامه بالجهاد، والأمر بالمعروف، بينما الإعاذة مما سيؤول له أمره بعد ذلك من القتل والصلب، وبالتالي لا يكون بين الخبرين أدنى منافاة، فلاحظ.

والإنصاف، أن شيئاً من الإجابات التي ذكرت علاجاً لما أورد من إشكال في متن النص، لا يصلح جواباً، إلا أن الوقوف عند كل واحد منها يوجب خروج البحث عن ما جعل له،، ذلك أننا قد بنينا على الاختصار والتعرض لأهم ما يمكن التعرض إليه. على أننا لو رفعنا اليد عما قدم، فإن الضعف السندي للخبر يغني عن الكلام في متنه، فإن مصدره هو أبو الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب مقاتل الطالبيـين، وهو لم يوثق، كما أن سندها تضمن أحمد بن محمد بن قني، ولا ذكر له في كتب الرجال، وفي سندها محمد بن علي ابن أخت خلاد المقري، وقد ضعفه ابن الغضائري، وهذا يكفي لرد مروياته، وليس للأعشى الواقع في سندها ذكر في كتبنا الرجالية، ومثله المديني أيضاً.

ولنختم الحديث في هذه الناحية بنص يروى عن زيد نفسه، وهو يتضمن دفعاً للشبه والاتهامات الموجهة إليه، فقد روى عمار الساباطي، قال: كان سليمان بن خالد خرج مع زيد بن علي حين خرج، قال: فقال له رجل ونحن وقوف في ناحية وزيد واقف في ناحية: ما تقول في زيد هو خير أم جعفر؟ قال: سليمان، قلت: والله ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا، قال: فحرك رأسه وأتى زيداً وقص عليه القصة، قال: فمضيت نحوه فانتهيت إلى زيد وهو يقول: جعفر إمامنا في الحلال والحرام[12]. فإنها تدل على أن زيداً كان عارفاً بإمام زمانه، وأنه الإمام الصادق(ع)، فكيف يقال: بأنه لم يكن عارفاً بإمام زمانه، أو يقال بأنه خرج مدعياً الإمامة لنفسه.

إن قلت: إن أقصى ما تدل عليه الرواية هو الاعتراف بإمامة الإمام الصادق(ع)، وأن زيداً لا يدعي الإمامة لنفسه، لكنها لا تنفي أن يكون زيد خرج عاصياً للإمام(ع) في خروجه، وبكلمة، هل أن الإمام أذن لزيد في هذا الخروج، أم أن زيداً خرج من دون أذن الإمام، فإن كان الأول، فأين ما يدل عليه، وإن كان الثاني، كان زيد عاصياً للإمام(ع)، وبالتالي يكون مذموماً.

والإنصاف، أن الاعتراف الصادر من زيد بإمامة الإمام(ع) يوجب عدم المخالفة بين الإمام الصادق(ع)، وبين زيد، لأنه لو لم يكن زيد والإمام(ع) على وئام، لكان صدور هذا الكلام منه في وسط عسكره مدعاة إلى تضعيف موقفه حينئذ. اللهم إلا أن يقال، بأن التعبير المذكور كان يهدف من خلاله إلى استمالة أتباع الإمام الصادق(ع) الخارجون معه، وبالتالي لا ينفي أصل الإشكال، فتأمل جيداً.

وعلى أي حال، يمكن استفادة رضا الإمام(ع) عن زيد وعن فعله، وثورته، من خلال نصوص أخرى، وإن قصر الخبر محل البحث عن إثباته، فتدبر. نعم في سنده مشكلتان من جهة وجود محمد بن الحسن البرناني، أو البراني، ووجود عثمان بن حامد.

ولنكتفي بما عرض من نصوص، مع أن الموجود عندنا منها والتي ذكر دلالتها على مدح زيد وحسن حاله تبلغ ثلاثة وخمسين رواية كما قيل، عدّ بينها سبعة وأربعون رواية تامة الدلالة على ذلك، ولعل التأمل في تمامية العدد المذكور دلالة على المدعى له مجال، خصوصاً وأننا قد عرضنا جملة مما أشير لتمامية دلالته على المدح، وقد عرفت حاله، نعم ما لا ينكر أن هناك عدداً غير قليل، يمكن البناء على تحقيق التواتر به يفيد المدح، وحسن الحال، وبالتالي يغني عن النظر في أسناد النصوص، فلاحظ.

نعم يبقى في البين أمر يثير الاستغراب، وهو أنه مع وجود هذا العدد الكبير من النصوص، وإن لم يكن بأكمله تام الدلالة على المدعى، إلا أنه قد عرفت وجود عدد يفيد التواتر، ولو في أدنى مراتبه، إلا أننا نجد أن الإمام الخوئي(قده) قد عبر بالاستفاضة، ولم يعبر عن النصوص المادحة بالتواتر[13].

[1] الإرشاد ج 2 ص 171.

[2] زيد الشهيد ص 15.

[3] معجم رجال الحديث ج 8 ص 360.

[4] بحار الأنوار ج 46 ص 205 ح 80.

[5] بحار الأنوار ج 46 ح 81 ص 205.

[6] شرح أصول الكافي ج 12 ص 185.

[7] بحار الأنوار ج 52 ح 67 ص 301-302.

[8] بحار الأنوار ج 46 ح 27 ص 174-175.

[9] بحار الأنوار ج 46 ح 19 ص 170-171.

[10] رجال الكشي ص 498 رقم 419.

[11] مقاتل الطالبيـين ص 127.

[12] بحار الأنوار ج 46 ح 69 ص 196-170.

[13] معجم رجال الحديث ج 8 ص 360.