الدور العلمائي

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
68
0

مع مرور أي حدث، وحصول أية قضية من القضايا ذات الارتباط بالنواحي الاجتماعية، تتجدد على السطح مطالبات أبناء المجتمع العلماء بإبراز رؤية واضحة حول ذلك، ومن الطبيعي أن هذا يكشف عن وجود معتقد عند المطالبين بقدرة العلماء على ذلك. كما أنهم لا يكتفون بذلك، بل يضيفون المطالبة منهم بتحديد الوظيفة والمسؤولية التي يلزمهم القيام بها.

وفي مقابل هذه الرؤية والأطروحة التي تعتقد قدرة علماء الدين على تولي القيادة الاجتماعية وامتلاك الأهلية للنهوض بالمجتمع والوصول به إلى أفضل المستويات من خلال تصديها لمسؤولياتها، تبرز فئة أخرى تحجم الدور العلمائي وتقلل من قدرته على مثل ذلك، وذلك من خلال حصرها لدورهم في خصوص الجانب الديني، وأنه ليس لهم التدخل في أبعد من ذلك، فينبغي عليهم الاقتصار على التصدي لبيان كل ما شأنه الارتباط بالدين، سواء في النواحي الفقهية، والعقدية، والتفسيرية، وقد يضاف لها الجانب التأريخي، وليس من شأنهم التصدي للجانب القيادي للمجتمع، والعمد للنهوض بمسؤولياته، بل ربما تعدى بعضهم المورد، ليحصر الشأن العلمائي ودورهم في خصوص عرض الأحكام الشرعية، من خلال تسطيحه لدورهم بوصفهم أنهم أبعد ما يكونوا عن الإحاطة بالقضايا والشؤون العامة.

ومن الواضح جداً أن أصحاب الرؤية الثانية بشقيها يقررون فقدان العلماء القدرة على تولي مسؤولية القيادة، نعم يفترقان في أن طرفها الأول يقرر وجود الموانع الموجبة لعدم التصدي، بخلاف ثاني الطرفين، فإنه ينفي وجود المقتضي للعلماء كما لا يخفى.

ومن الطبيعي جداً أن الحكم بصحة أي من الأطروحتين، سواء التي تقرر وجود المقتضي وفقدان الموانع عند علماء الدين، ومن ثمّ امتلاكهم الأهلية التامة للقيام بدور القيادة للمجتمع المسلم، أو التي تقرر فقدانهم لذلك، إما لوجود موانع تمنعهم من ذلك كعدم الثقافة السياسية مثلاً، أو لعدم وجود المقتضي لديهم على أساس افتقادهم لأركان الثقافة القيادية المؤهلة لمثل ذلك، يتوقف على ملاحظة جوانب والإحاطة بها، وهذا يستوجب الحديث ضمن محاور.

الأول: مسؤولية عالم الدين.

الثاني: أركان ثقافته.

الثالث: تحديد المراد والمطلوب منه.

مسؤولية عالم الدين:

إن أول ما ينبغي البحث عنه في مقام تحديد أي الرؤيتين السابقتين مقبولة وصحيحة من عدمها، هو تحديد المسؤوليات المناطة بعالم الدين، كي ما يتضح لنا أن القيام بالدور القيادي من الوظائف المناطة به، أم نه ممن قد تدخل في شأن ليس من شؤونه، ذلك أنه لو ثبت أن ذلك من ضمن مهامه وأولوياته، فعندها يبحث عن وجود الأهلية والقدرة له على ذلك، وبالتالي السبل البنائية التي يمتلكها، أو يلزمه تحصيلها كي ما يكون قائماً بهذا الدور.

وبعبارة ثانية، إن من ضمن الوظائف الموكلة إلى عالم الدين بيان الأحكام الشرعية، وهذا يعني أن تصديه لمثل ذلك لا يعتبر تدخلاً في شأن ليس من شؤونه، أو اختصاص ليس من مسؤولياته، ومن الواضح أن قيامه بهذا الدور يتوقف على توفير جملة من الأسس والقواعد التي تعطيه القدرة والأهلية للقيام بهذا الدور، ومقامنا من هذا القبيل، كما لا يخفى.

هذا ومن المعلوم أن رجل الدين يعد امتداداً طبيعياً للدور الرسالي الذي قام به الأنبياء والمرسلين، حتى نبينا الخاتم محمد(ص)، ومن بعده تصدي له الأئمة الهداة(ع)، فيكشف ذلك عن أن المهام والوظائف التي كانت موكلة إلى النبي الأعظم محمد(ص)، ومن بعده أئمة الهدى(ع)، والتي قاموا بها، هي نفسها المسؤوليات والوظائف التي يطلب من عالم الدين القيام بها، وتعتبر مسؤولياته التي عليه أن يؤديها.

وقد عرض القرآن الكريم تلك الوظائف النبوية، مما يسهل لنا معرفة الوظائف المناطة بعالم الدين، ويمكن حصر تلك الوظائف والمسؤوليات في أمور:

منها: البلاغ والإنذار:

ونقصد من البلاغ والإنذار الإفتاء، وليس ما كان عليه النبي الأكرم(ص)، وبعض اهل البيت(ع)، ويكون ذلك من خلال بيان الوظائف الشرعية المناطة بالمكلفين، وتعليهم ما يلزم عليهم وما لا ينبغي صدوره منهم، وتتجلى هذه المسؤولية في مواضع:

1-إحقاق الحق والعدل، ومواجهة الطغاة والمستكبرين، والمترفين، وكل من يود التحكم في رقاب الناس، فإن ذلك هو الهدف والغاية من رسالة السماء، ولهذا كان العتاة والجبابرة يقفون دوماً أمام كل حركة تصحيحية وإصلاحية للوضع الإنساني تنادي بإقامة العدل، ورفض الظلم والجور.

2-الدفاع عن مذهب أهل البيت(ع)، وهو الذي يمثل الامتداد الحقيقي للإسلام الأصيل، كما هو واضح لكل أحد.

3-الاصلاح، والتجديد وفق مذهب أهل البيت(ع)، ورؤيتهم، وعدم الانغلاق، ويمكننا أن ننظر لذلك بحركة الاجتهاد عند الطائفة، وتوجد نماذج من علماء الدين الذين حققوا هذا الأمر يمثلون شاهداً حقيقياً على مطلوبيته، كالإمام الحكيم(قده)، والإمام الخميني(ره)، والإمام الشهيد الصدر(قده)، واليوم نجد نماذج حية واضحة يمكن لكل أحد رؤيتها.

ووفقاً لما ذكر يتضح أنه لا ينبغي لعالم الدين أن يكون شخصية منطوية على نفسها منعزلة عن مجتمعها، على أساس أن ذلك هو الذي ينبغي حصوله، ظناً منه أن في ذلك تمسكاً بالتراث، وحفاظاً على الأصالة، بل قد عرفت أن ذلك يتنافى وما هو المطلوب منه، والمسؤولية الملاقاة على عاتقه، إذ أنه امتداد طبيعي لخط الأنبياء والمرسلين، وتحقيق لدور أهل البيت(ع)، كما يتضح ذلك جلياً من خلال التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة، وأضرابه من النصوص التي تعرضت لدور العلماء.

وفي تصوري أن عدم الإحاطة الحقيقة والوضوح عند كثيرين سببت الاعتقاد الخاطئ من عدم حقانية عالم الدين للتدخل في الشأن القيادي والدور السياسي، وربما ساعد على ذلك وجود بعض الحالات المنغلقة، أو أصحاب الأفهام محدودة التفكير.

ومنها: التـزكية:

فكما كان مطلوباً من الأنبياء(ع) القيام بهذا الدور، فأشار إليه القرآن الكريم، فقال تعالى:- ( هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)[1]، فهو مطلوب من عالم الدين أيضاً، وذلك من خلال قيامه بهداية الناس، وإرشادهم إلى التكامل وتقوية إرادتهم، ليتمكنوا من السيطرة على الشهوات، والحد من الرغبات، وكبح هوى النفس، ومحاربتها للوقوف أمام الإغراق في المصالح الشخصية، ومرض الأنا.

ويمكن التعبير عن هذا الدور بالدور التربوي والجانب الأخلاقي في إعداد المجتمع الإسلامي من خلال خلق الأجواء الروحية الخاصة في أبعاده وجوانب وإشاعة الأخلاق والقيم العالية في نواحيه، وتربيته تربية صحيحة على وفق الأطروحات الهاشمية الصادرة من أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، ووفقاً لما جاء في القرآن الكريم.

ومنها: تعليم الكتاب والحكمة:

من خلال تثقيف الأمة بتعليمها الإسلام الأصيل المتمثل في مذهب أهل البيت(ع)، والوقوف أمام التيارات المنحرفة وأصحاب البدع والضلالات، وعلاج الشبهات التي تترى من كل حدب وصوب، سواء على الإسلام الأصيل كأصل، أم على بعض جوانبه ونواحيه، ولعل القارئ العزيز يجد صورة جلية واضحة لهذا الدور في سيرة الأئمة(ع)، وكيف كانوا يقفون أمام تلك التيارات المنحرفة والأفكار الضالة، خصوصاً بعدما حصل الانفتاح في العالم الإسلامي على المجتمع الغربي، وبدأت عملية الترجمة للكتب الغربية ودخلت الثقافة الأجنبية للمجتمع المسلم.

ومن أهم ما يلزم عالم الدين في المقام وقوفه أمام تلك الرؤى التي بدأت تتسلل إلى الوسط الديني، والتي تعمد إلى تبسيط صورة المعصومين(ع)، وعرضها بصور عادية، متخذة من فهمها الخاطئ لأطروحة الغلو ذريعة، ومتمسكة بها وسيلة لتمرير سمومها ونفث أفكارها السيئة في الوسط الشبابي.

ومنها: القضاء:

وهو المنصب الخطير الذي يلزم أن يكون المتصدي له ممتلكاً صفات ومؤهلات، ودونها لا يمكنه التصدي له.

ومنها: قيادة المجتمع الإسلامي:

كما كان ذلك من وظائف النبي(ص)، وأمير المؤمنين(ع)، والأئمة(ع)، ومن الطبيعي أن لهذه القيادة ظروفها الموضوعية، إذ أن الحديث عنها إنما يتصور في ظل عدم قيام الدولة الإسلامية، وإلا فمع وجودها سوف تتجلى بصورة أوضح، وتبرز.

ولا يتصور أحد أننا عندما نذكر هذا الأمر من مسؤليات عالم الدين، ندعي ما ليس له، بل إننا نذكر بما سبق وذكرناه في مطلع الحديث من أنه شخصية امتدادية للأنبياء والمرسلين وأئمة الهدى(ع)، وإن رجوعاً سريعاً لسيرة أي واحد ممن ذكر توضح صحة ما ذكرنا من أن من مسؤولياته قيامه بهذا الدور، وتحمله مسؤوليته[2].

هذا وقد تحصل من العرض المتقدم، أن الرؤية الأولى في النظر لعالم الدين هي الرؤية الموافقة للقرآن الكريم، والنصوص المعصومية الشريفة، ولسيرة أهل البيت(ع)،و على ذلك جرت سيرة علمائنا الأبرار(رض).

أركان ثقافة عالم الدين:

ثم إنه وقد عرفنا ما على عالم الدين من مسؤوليات، يلزمنا الآن أن نتعرف على الأمر الأهم، وهو هل لعالم الدين القدرة والقابلية على ذلك أم لا.

وبكلمة موجزة، إن ما تقدم من تحديد للمسؤوليات المناطة به، أقرب ما يكون للبعد الثبوتي التصوري، ويبقى الحديث الآن عن البعد الإثباتي والخارجي. وهذا هو مربط الفرس، ذلك أن أصحاب الرؤية الثانية، قد لا ينكرون ثبوت هذه المسؤوليات لعالم الدين، إلا أنهم يدعون عدم وجود القدرة والقابلية له على القيام بذلك، فيلتـزمون بما قدمنا ذكره عنهم.

ولكي نستطيع دحض تلك المقولة، وبيان بطلان تلك الدعوى، ينبغي أن نسلط الضوء على عرض القدرة والقابلية لرجل الدين على قيامه بهذه المسؤوليات المناطة به، وذلك من خلال استعراض البعد البنيوي لشخصيته، ويكون ذلك بعرض الأركان والأسس التي تقوم عليها شخصيته وثقافته.

ومن المعلوم أن رجل الدين يستمد تلك الأركان من خلال المدرسة التي ينتمي إليها أعني الحوزة العلمية المباركة.

والأركان التي تقوم عليها ثقافة رجل الدين، هي:

الأول: المنهج والطريقة التي توصل إلى الحقائق:

وهذا الركن يعد واحداً من الميز التي امتازت بها الحوزات العلمية المنتمية لمذهب أهل البيت(ع)، عن بقية الحوزات الأخرى.

ولهذا الركن من أركان ثقافة عالم الدين عنصران يقوم بهما، وهما:

1-الاعتماد على العلم، وأخذه من المصادر الصافية النقية، وهي القرآن الكريم، والسنة المباركة. ولهذا العنصر معلمان واضحان يجدهما فيه كل من يتوجه إليه، وهما: الأصالة، والإتقان في الأخذ، والأصالة بمعنى أن العلوم التي تأخذ في الحوزات العلمية والتي تبنى من خلالها الثقافة العلمائية هي علوم ذات طبيعة أصيلة، لأن مصدرها هم أهل البيت(ع) دون غيرهم، وهم الذين كانوا أكثر التصاقاً برسول الله(ص)، وأقرب إليه من غيرهم، فيكون ذلك سبباً ومنشأ للامتياز كما لا يخفى.

وأما الإتقان في الأخذ، فيعني أن المعارف التي تبنى من خلالها ثقافة عالم الدين لا تقوم على الاستحسان، أو المصالح المرسلة، أو القياس، بل تقوم على أسس وضعها أهل البيت(ع)، تستند إلى الدليل والحجة والبرهان.

2-حرية الفكر، فلا يكون هناك قبول لمعرفة أو لرأي إلا نتيجة القيام بالتدقيق فيه، وملاحظة ما دل عليه، بعد الفراغ عن تحليله والتأمل فيه كثيراً.

ولا ينبغي أن يخلط الأمر فيتصور أن المقصود من الحرية هنا الخروج عن الحدود والتعدي على الأفراد، بل إن المقصود منها الحوار في إطار القواعد والضوابط والأصول المنهجية، الموضوعة للوصول إلى الحقيقة، مضافاً إلى أنه يلزم أن تكون الحوارات في ضمن الإطار الشرعي والتقوائي، مع المحافظة على مراعاة الآداب، والاحترام، وعفة اللسان، وفقاً لما تضمنته نصوص أهل البيت(ع)، وقامت عليه مدرستهم المباركة.

الثاني: التقوى:

وهذا يعني أنه لا يكتفى في البنية الثقافية لعالم الدين بمجرد أن يكون ممتلكاً للأبعاد المعرفية، وإنما يلزم أن يكون في ضمن بنيته الفكرية والثقافية شخصية تقوائية، ولزوم ظهور بعد سلوكي له في مجالات حياته يظهره في الخارج ويلمسه منه كل أحد، فيكون شخصاً صادقاً في أقواله وأفعاله بعيداً كل البعد عن البحث عن الظهور، وطلب الدنيا.

وطبيعي جداً أن تكون القداسة التي يكتسبها رجل الدين ناشئة من خلال ما يكشف عن تقوى عنده.

الثالث: الرؤية السياسية:

والتي تعتبر من أهم القضايا في المجتمعات البشرية، بل لعلها أصبحت اليوم من أول قضاياه، ويساعد على ذلك ما نلمسه من تطور ملحوظ لها في الواقع الاجتماعي، فبمجرد أن يقع حدث سياسي في أي منطقة من المناطق يتفاعل معه الوسط الإنساني بصورة سريعة جداً، خصوصاً وقد وجدت اليوم التقنيات ووسائل الإعلام، حتى أن كل واحد من البشر يجد نفسه مسؤولاً عن تلك الأحداث ويحاول إيجاد الحلول لها، فكيف لو كانت تلك الأحداث أحداثاً ترتبط بالمجتمعات الإسلامية؟!

وإذا كانت القضية السياسية بهذا المستوى، فهل يعقل ألا يكون لعالم الدين وهو الشخصية التي أنيط بها قيادة المجتمع، وأوكل إليها إدارة شأنه أن يكون بعيداً عن مثل هكذا معترك، ولا يكون ممتلكاً لرؤية وهوية فيها؟!

كيف وإحدى المسؤوليات المناطة به الدفاع عن الإسلام، وعن الأمة الإسلامية، والوقوف أمام الظلمة والمتجبرين، ومن يحاولون التسلط على رقاب العباد وإذلالهم.

وقد نقل لنا التأريخ مجموعة من المواقف التي كشفت عن رؤية سياسية ثاقبة في أوساط علماء الدين، فأقرأ عن حركة السيد اليزدي(قده) صاحب العروة في مقابل الأنكليز، وأقرأ عن ثورة العشرين، ودور الميرزا الشيرازي(ره) فيها، ولا يختلف أثنان في المشاهد الحية التي نراها اليوم واضحة لشخصية العلماء ودورهم السياسي الواضح في هذا المجال.

نعم يلزم التنبيه على أن هناك امتيازات يفرق بها عالم الدين في رؤيته وتعاطيه السياسي عن الآخرين، فهو يمتلك العقيدة السياسية، التي تبدأ من خلال الفهم الحقيقي للمبادئ الدينية، في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وما يتعلق بموقع النبي الأكرم محمد(ص)، وموقع الولاية للأئمة الأطهار(ع)، ومنصب المرجعية المبارك، وكل ما له ارتباط بالجانب العقدي. كما أنه يمتلك الأخلاق السياسية، مضافاً إلى الصدق في الطرح والواقعية في العرض، فلا يستند إلى تشويه، أو تضليل، أو ما شابه ذلك.

الرابع: الوصول إلى حالة التكامل:

فالعلم يمثل صفة تكاملية في الحركة الإنسانية، وهو وسيلة وضعها الباري سبحانه أمام الإنسان ليحقق من ورائها الأهداف التكاملية التي يسعى إليها[3].

ماذا نريد من عالم الدين:

ثم إنه بعدما تعرفنا على المسؤوليات الموكلة لعالم الدين، والوظائف التي يقوم بها، كما تعرفنا مقدار ما يملك من الأهلية والاستعداد وفقاً للأطروحة البنائية له من خلال أركان ثقافته، يأتي الدور الأبرز في هذا الموضوع، وهو: ماذا يريد المجتمع من عالم الدين، ويطلب منه؟

وفقاً لما سبق عرضه، لابد وأن يكون المطلوب من عالم الدين متناسباً جداً مع المسؤوليات الموكلة إليه، والقدرات التي يمتلكها، فلا يكون المطلوب منه أمراً خارجاً عن مسؤولياته، ولا يكون أمراً خارجاً عن قدرته وتخصصه.

ولعل التحديد السابق الذي قدمناه يكون معيناً لإيجاد التقارب بين المجتمع وبين عالم الدين، فإن المجتمع يغلب عليه المطالبة بأمور تعتبر خارجة عن صميم مسؤوليات عالم الدين، وليست داخلة في إطار وظيفته، فيعتبره المجتمع عند عدم تلبيته لها بأنه قد قصر في ما هو المطلوب منه، أو أنه لم يتفاعل مع الحاجة الاجتماعية، مع أن الأمر كما عرفنا على الخلاف تماماً. فمثلاً لو جاء رجل من المجتمع يشكو مرضاً لعالم الدين، وطالبه أن يوجد له حلاً لمرضه، أو وجدنا شخصاً آخر من المجتمع يقصد عالم الدين ليشكو له مشكلته الدراسية، وأنه لا يملك القدرة على التركيز أو الحفظ أو ما شابه، إن هذه الأمور ليست من شؤونه ولا من مسؤولياته وبالتالي لو لم يتفاعل معها لم يكن ذلك كاشفاً عن تقصير منه في أداء وظيفته، ويحسن أن نذكر في البين قصة هادفة، أوجزها بأنه يكثر أن تتصل بعض المؤمنات لتطلب من عالم الدين تفسير رؤية قد رأتها في الليلة السابقة، وعند عدم تجاوبه معها تبرز له الاشمئزاز منه، وربما جابهته بأنه ليس من أهل العلم، مع أننا نسأل: هل من اختصاص عالم الدين ومسؤولياته أن يتولى تفسير الرؤى والأحلام، ويقوم بتعبيرها!! أم يجدر أن يستفاد من عالم الدين في ما يملك من معارف ومفاهيم، والغريب أننا نجد أنه يقل أن يستفاد من عالم الدين في هذه الجوانب، وإنما يغلب أن يكون عالم الدين في بعض الأماكن شخصية غريبة تعيش منفردة.

وبالجملة، لابد وأن يعي أبناء المجتمع الدور الأساس الموكل لعالم الدين، ليكون خير معين له في القيام بهذا الدور على أكمل وجه، وعليهم أيضاً أن يتركوا بعض الأمور الهامشية التي لا يحسن أن يشتغل بها، وتكون سبباً لصرف الجهد والطاقة، نسأل الله تعالى للجميع الهداية والرشاد والسداد.

وهنا أود أن أنبه على أمر سبق وذكرته بصورة موجزة عند حديثي عن الجانب التقوائي لعالم الدين، فأشرت إلى القدسية التي يكتسبها نتيجة هذا الأمر، ويتحصل عليها، وما أريد الإشارة إليه أن ثبوت القدسية لعالم الدين لا يعني إعطائه صفة العصمة، وإخراجه من دائرة قابلية الخطأ منه، إذ نحن لا نعتقد إلا بعصمة من قام الدليل على كونه معصوماً، لكننا نقرر أن لرجل الدين مكانة يلزم أن تحترم وتراعى، فلا يسوغ لأحد التجرؤ عليه، أو العمد إلى التقليل من شأنه وانتقاصه، فضلاً عن أن يعمد إلى إهانته أو التنكيل به، وهذا يستوجب أن يكون شخصاً مسموع الكلمة محترم الفكرة، ويكون متبعاً في ما يصدر منه، ومتابعاً في ما يأمر به، ويبقى باب الحوار والنقاش والمطارحة العلمية المحاطة بالآداب والخلق الرفيع موجودة وقائمة.

والحاصل، لابد من توفير القدسية لعالم الدين وتحقيقها خارجاً، إلا أن القدسية التي نعنيها ليست كما قد تفهم، بل بما بيناه، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] سورة الجمعة الآية رقم 2.

[2] موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية ج 1 ص 73-85(بتصرف وتغيـير)

[3] موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية ج 1 ص 153-183(بتصرف وتغيـير)

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة