قال تعالى:- (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون)[1].
مدخل:
إن أحد الأمور التي قررها القرآن الكريم، أن الكون كله لله سبحانه وتعالى، ليس فيه شريك وهو سبحانه يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، قال تعالى:- (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً)[2].
وقال سبحانه:- (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء)[3].
والرب في هاتين الآيتين وأمثالهما يعني المالك، قال تعالى:- (له ملك السماوات والأرض)[4].
وقد سخر الله سبحانه الأرض والسماء للإنسان، قال تعالى:- (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)[5].
وقال أيضاً:- (وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبـين)[6].
كما أباح الله تعالى له التصرف في ملكه، فلاحظ قوله تعالى:- (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها)[7].
وقال أيضاً:- (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)[8].
لكن هذا التصرف الذي أباحه سبحانه لعباده في ملكه، لم يطلقه على عواهنه دون تحديد وتقيـيد، فلم يطلق أيديهم، وإنما حددهم بحدود عرّفها لهم، وأباح لهم التصرف ضمن هذه الحدود، وحرّم عليهم التصرف في ملكه خارجها، يقول تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)[9].
وقال عز من قائل:- (إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله)[10].
وقال أيضاً:- (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت…)[11].
وقد نهانا الله تعالى عن تجاوز حدوده، فقال سبحانه:- (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون)[12].
وقال كذلك:- ( ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه)[13]، وقال سبحانه:- (ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)[14].
الالتزام بحدود الله:
هذا والالتـزام بحدود الله تعالى، والعمل والتحرك داخل هذه الحدود وعدم تجاوزها هي التقوى، التي يعرفها إمامنا الصادق(ع) حينما سئل عنها فقال(ع):ألا يفتقدك الله حيث أمرك،ولا يراك الله حيث نهاك[15].
تجاوز حدود الله:
وفي المقابل يكون تجاوز حدود الله، هو العصيان، قال تعالى:- (ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها)[16].
وهو في مقابل التقوى، فإن التقوى هي الالتـزام بالحدود الإلهية، والعصيان هو الخروج من حدود الله، وهو الذنب والفجور والمشاقة.
رسالة الدين:
ثم إن رسالة الدين في حياة الإنسان هي تحديد منطقة الرخصة التي يجوز للإنسان أن يتحرك فيها، وبهذه الحدود يعرف الإنسان ما يجوز له وما لا يجوز في دين الله سبحانه، وهي حدود الله تعالى.
فعن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال:إن للدين حدوداً كحدود بيتي هذا، وأومأ بـيده إلى جدار فيه[17].
وعنه(ع):ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حدّ كحدود داري هذه، ما كان منها من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة[18].
وعن أبي لبـيد عن أبي جعفر(ع) أنه أتاه رجل بمكة فقال له: يا محمد بن علي، أنت الذي تزعم أنه ليس شيء إلا وله حدّ؟…
فقال أبو جعفر(ع):نعم، أنا أقول إنه ليس شيء مما خلق الله صغيراً وكبيراً إلا وقد جعل الله له حداً، إذا جوّز به ذلك الحد فقد تعدى حدّ الله فيه.
فقال:فما حدّ ما ئدتك هذه؟…
فقال:تذكر اسم الله حين توضع، وتحمد الله حين ترفع، وتقم ما تحتها[19].
فمهمة الدين إذن في حياة الإنسان هي تنظيم حياته ضمن الحدود والضوابط المقررة من قبل الشريعة.
وهذه الحدود هي الحرمات التي حظرها الله سبحانه وتعالى على الناس، فأباح لهم ما يقع ضمن هذه الحدود ورخص لهم فيه، وحرم عليهم أن يرتكبوا ما حرمه عليهم، وأن يتجاوزوا ويتعدوا حدود ما أباح لهم إلى ما حرمه عليهم.
الحدود والفرائض:
وإلى جانب الحدود، شرّع الله تعالى على عباده فرائض وواجبات، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:- (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)[20].
وقال سبحانه:- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)[21].
ومما فرضه الله على الناس من الكلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والتعليم والإرشاد الواجبـين، ثم أباح لهم أن يتكلموا وجعل للكلام الذي رخص فيه حدوداً:
منها: ألا يكون كذباً.
ومنها:ألا يكون غيبة.
ومنها:ألا يكون تشهيراً وتسقيطاً.
ومنها:ألا يكون همزاً ولمزاً.
ومنها:ألا يكون شتماً ولعناً.
وهذه هي الحدود التي رسمها الله تعالى للناس في الكلام، فأباح لهم الكلام الذي يقع ضمن هذه الحدود، وحرم عليهم الكلام الذي يخرج عن هذه الحدود، وهذا يعني أن في الكلام واجبات وفرائضاً وحدوداً ومحرمات.
شمولية الحدود والفرائض:
وتشمل الفرائض والحدود الإلهية كل ما يحتاجه الإنسان في تكامله وحركته إلى الله سبحانه.
وما من شيء يقرب الإنسان إلى الله ويـبعده عن(الأنا)و (الهوى)إلا وقد شرعه الله تعالى لعباده فيما شرع لهم من الحدود والفرائض، فعن أبي جعفر الباقر(ع) قال:قال رسول الله(ص) في خطبته في حجة الوداع:أيها الناس ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعد كم عن النار، إلا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به[22].
منطقتي الرخصة والحظر:
والنتيجة التي نصل إليها أن مساحة الحياة تنقسم إلى قسمين:منطقة(الرخصة) ومنطقة(الحظر).
فمنطقة الرخصة هي المساحة التي أباحها الله تعالى لعباده وحللها لهم، من الأكل والشرب والزواج والتمتع بالطيبات والتجارة والعلاقات الاجتماعية وما يتصل بذلك.
أما منطقة الحظر هي المنطقة التي حرمها الله تعالى ونهى عنها، كالربا والفحشاء والغيـبة واللهو المحرم والظلم والعدوان وأكل الميتة والدم ولحم الخنـزير وشرب الخمر والخيانة والغش وما يشبه ذلك مما حرمه الله.
ولكل من هاتين المنطقتين خصائص وآثار في حياة الإنسان، وهذه الخصائص والآثار تعم الدنيا والآخرة.
سياج الحدود الإلهية:
جرت العادة بأن يسيج الشيء الخطر بسياج، لكي يقي الناس من الدخول إليه، أو أنه يعلم بعلامات يهتدي بها الناس بحيث لا يقربوه.
وقد جعلت لحدود الله علامات ومعالم من جانب، وسياج واقٍ من جانب آخر.
أما معالم الهدى على هذه الحدود فهم الصالحون من عباد الله، الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهداية، فقد جعلهم الله تعالى أدلاء على صراطه وحدوده، ودعانا إلى أن نأخذ بطريقهم ونسير على صراطهم، قال تعالى:- (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[23].
وأما السياج الذي يقي الناس من السقوط في الحرام على هذه الحدود،فثلاثة أمور:
1-سياج في النفس.
2-سياج في المجتمع.
3-سياج في الدولة.
أما السياج في النفس، فالتقوى، فإنها تقي الناس من السقوط في المعاصي.
وأما السياج في المجتمع، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذه الفريضة تحفظ المجتمع من السقوط في الحرام، وتحفظ حدود الله سبحانه.
وأما السياج في الدولة، فهو نظام الرقابة الاجتماعية، والحسبة التي تضطلع بها الدولة في الإسلام.
خاتمة:
هذا ولنختم حديثنا بعد الإشارة إلى السياج الواقي للمكلف عن تعدي حدود الله سبحانه وتعالى بالإشارة إلى بعض العواصم والمزالق من خلال ما جاء عن أهل البيت(ع)، خصوصاً وأن معرفة العواصم والمزالق تنفع الإنسان في تقويم سلوكه والحذر من الوقوع في معصية الله، وتحصين نفسه من اغراءات الفتـن والشيطان.
المزالق:
من المزالق:
1-التفكير في الحرام:
وقد ورد النهي عنه، وذلك أن التفكير في الحرام يلوث جو النفس ويسلبها المناعة، ويمكّن الشيطان من استدراج الإنسان إلى الحرام.
فقد روي عن عيسى بن مريم(ع) أنه كان يقول: إن موسى أمركم ألا تقربوا الزنا، وأنا آمركم ألا تحدثوا أنفسكم بالزنا، فإن حدّث نفسه بالزنا كان كمن قد أوقد ناراً في بيت مزوّق، فأفسد التزاويق الدخان، وإن لم يحترق البيت[24].
ولا يخفى أن هذا التعبير يشير إلى تلوث جو النفس بالتفكير في الحرام، ومتى تلوثت النفس فقدت مناعتها من جانب، وفقدت صفائها من جانب آخر.
وعن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال:إن المؤمن لينوي الذنب فيحرم الرزق[25].
2-أصدقاء السوء:
فإن دور الصديق السيئ في استدراج الإنسان إلى الحرام، والسقوط في معصية الله ونقل الأمراض الأخلاقية مؤثر وقوي.
عن أمير المؤمنين(ع): لا تصحب الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه شراً، وأنت لا تعلم.
وعن أبي جعفر الجواد(ع): إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره.
وعن أبي الحسن علي(ع) قال:أمرنا رسول الله(ص) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة.
وجاء عن المصطفى الحبيب(ص) قوله:المرء على دين خليله.
3-الوسط الاجتماعي الفاسد:
فإن له دوراً كبيراً في إفساد الإنسان وتلويثه. ومن المعلوم أن قدرة الوسط الاجتماعي قدرة قاهرة تستهلك الكثير مما يملك الإنسان من حصانة وقيم، ولذلك ورد التحذير في النصوص من اختيار الأوساط الاجتماعية للسكن.
4-استصغار اللمم من الذنوب:
وهي الذنوب التي يستـصغرها الناس، فيتجرأ الإنسان إلى العصيان.
5-اختلال الموازنة بين الخوف والرجاء:
حيث يطغى الرجاء في النفس ليستهين الإنسان بالذنب ويتجرأ على المعصية.
6-الترف في المعيشة:
التي هي من الحلال، فإن الترف يضعف مقاومة الإنسان لضغوط الهوى واغراءات الفتن.
7-الخلوة بالمرأة الأجنبية:
ومحادثة النساء ومخالطتهن، وقد ورد النهي عن ذلك في الروايات، وورد أنه يورث قساوة القلب، ويسلب الإنسان حالة الرقة والشفافية والصفاء في النفس.
8-الغضب:
وسائر الانفعالات النفسية، وقد ورد التحذير عنه وعن الانفعالات النفسية الحادة في النصوص، وأنه الفرصة التي يقتحم فيها الشيطان نفس الإنسان.
العواصم:
وهي الأمور التي تعصم الإنسان من الانزلاق إلى الحرام، وتمكنه من السيطرة على الأهواء والفتن، وتمنع الشيطان عنه.
وهي كثيرة نشير لبعض منها:
1-الصلاة، قال تعالى:- (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
2-الصوم، وقد ورد في العديد من الأخبار أن: الصوم جنة، تحمي الإنسان وتحفظه من الشيطان.
3-ذكر الله.
4-مصاحبة الصالحين:
فكما أن مصاحبة أصدقاء السوء من المزالق، فإن مصاحبة الصالحين الذين يذكرون الإنسان بالله تعالى من العواصم التي تعصم الإنسان من الهواء والفتن.
5-قراءة القرآن:
وقد ورد التأكيد عليه، وأن قراءته تحفظ الإنسان من اغراءات الشيطان ووساوسه، ومن ضغوط الهوى.
6-الوسط الصالح:
والبيئة الصالحة، فكما أن الوسط الفاسد والبيئة الفاسدة من المزالق، فإن الوسط الصالح والبيئة الصالحة من العواصم التي تعصم الإنسان من المحرمات.
7-8-المحاسبة والمراقبة:
وقد حث عليه المعصومون، فقد جاء عنهم:ليس منا من لم يحاسب نفسه، وهما من أقوى عوامل الضبط في سلوك الإنسان.
9-مجالس الوعظ والتذكير.
10-ترويض النفس في الحلال، حتى لا تنقاد لصاحبها في الحرام.
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآية رقم 229.
[2] سورة المزمل الآية رقم 9.
[3] سورة الأنعام الآية رقم 164.
[4] سورة الحديد الآية رقم 2.
[5] سورة لقمان الآية رقم 20.
[6] سورة إبراهيم الآيتان رقم 32-33.
[7] سورة الملك الآية رقم 15.
[8] سورة البقرة الآية رقم 60.
[9] سورة المائدة الآية رقم 90.
[10] سورة البقرة الآية رقم 173.
[11] سورة النساء الآية رقم 23.
[12] سورة البقرة الآية رقم 229.
[13] سورة الطلاق الآية رقم 1.
[14] سورة النساء الآية رقم 14.
[15] بحار الأنوار ج 70 ص 285.
[16] سورة النساء الآية رقم 14.
[17] بحار الأنوار ج 2 ص 17 ح 6.
[18] المصدر السابق ح 8.
[19] المصدر السابق ح 10.
[20] سورة البقرة الآية رقم 43.
[21] سورة البقرة الآية رقم 183.
[22] بحار النوار ج 2 ص 171 ح 11.
[23] سورة الفاتحة الآية رقم 6-7.
[24] بحار الأنوار ج 14 ص 331.
[25] بحار الأنوار ج 73 ص 258.