العفة مفهومها، مجالاتها، آثارها

لا تعليق
محرم الحرام 1446 هـ
304
0

العفة مفهومها، مجالاتها، آثارها

 من أهم الصفات الحسنة التي يُعنى بها كثيراً في علم الأخلاق صفة العفة، لأنها تسهم في حفظ الإنسان من الإنزلاق في الشهوات بحيث يفقد إنسانيته وكرامته، ولذا عدّها أمير المؤمنين(ع) من الفضائل الأربع، قال(ع): الفضائل أربعة أجناس: أحدها: الحكمة، وقوامها في الفكرة، والثاني: العفة، وقوامها في الشهوة، والثالث: القوة، وقوامها في الغضب، والرابع: العدل، وقوامها في اعتدال قوى النفس.

حقيقة العفة:

العفة مفهوم له معنيان، في اللغة، وفي الاصطلاح، أما معناها في اللغة، فهي تعني الكف عما لا يحل. وأما في اصطلاح علماء الأخلاق، فهي: ملكة نفسانية تردع الإنسان وتحجزه عن الفجور، وتمنحه اقتداراً عالياً على التـزام جادة التقوى، واجتناب كل ما يشين وكل محذور. وقد تضمن التعريف أموراً:

الأول: أن العفة ملكة نفسانية، ما يعني أنها شيء راسخ ثابت، وليس أمراً عابراً، ولهذا عبر عنها بالملكة.

الثاني: أنها تردع الإنسان وتحجزه.

الثالث: أنها تمنح الإنسان قدرة عالية لالتـزام جادة التقوى.

الرابع: أنها تدعو الإنسان إلى اجتناب كل ما يشين، وكل محذور.

ويمكن توضيح ذلك بهذا البيان:

من المعلوم أن الإنسان مخلوق مركب من مجموعة من القوى، وإحدى تلك القوى هي القوة الشهوية، والتي تدفعه لطلب الطعام والشراب والنكاح، وهو بهذه القوة يطلب الزواج لدوام النسل، ويطلب الطعام والشراب لدوام الحياة، إلا أن لهذه القوة حالات:

إحداها: الميل نحو الخمود والإنطفاء بحيث يعزف الإنسان عن الطعام والشراب، ويرفض الزواج، فيؤذي جسده، كما يفعل ذلك الرهبان.

ثانيها: أن تتجه نحو الإفراط، فتغالي في الملذات والشهوات بكل الطرق ولو كان ذلك من الحرام، ومن الواضح جداً أن هذه الحالة لا تقل عن سابقتها من حيث الرفض وعدم القبول، بل هي أشدّ منها في ذلك.

ثالثها: الاعتدال في تلبية الشهوات من دون افراط ولا تفريط، وهذا ما يعبر عنه بالعفة.

ووفقاً لما تقدم، يمكن عرض تعريف آخر للعفة، أخصر من سابقه، وإن كان لا يخرج عنه من حيث النتيجة، وهو أن العفة عبارة عن الاعتدال والوسطية في تلبية الشهوات، وهي بهذا تكون بمنـزلة التقوى في الأهمية والآثار.

مراتب العفة:

وللعفة مراتب وليست مرتبة واحدة:

الأولى: العفة عن المحذورات الشرعية المرتبطة بالشهوة:

فعفة البطن مثلاً أن يرتدع المكلف عن كل شيء محرم، سواء في مجال الأكل، أم في مجال الشرب، أم في مجال الاكتساب، أم في مجال العمل، فلا يأكل الإنسان شيئاً محرماً، كما لا يشرب شيئاً كذلك، ولا يكتسب من جهة محرمة، ولا يطلب كسباً، حراماً، ولا يفعل فعلاً محرماً من خلال النظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى، أو قول شيء محرم، وهكذا.

الثانية: التورع عن المذمومات والمكروهات في الشريعة:

وذلك أن يعمد الإنسان إلى اجتناب فعل أي شيء مكروه يكون مرتبطاً بالبطن والفرج، فإن من المكروهات المرتبطة بالبطن مثلاً الأكل على الأكل ومن ذلك أيضاً الأكل حتى الامتلاء، وما شابه ذلك.

الثالثة: أن يتورع عن الأشياء المشتبهة:

والتي يحتمل وجود حرمة ومنع عنها، وإن كانت محللة شرعاً، فيترك ما اشتبه من الطعام، فلو اشتبه عليه لحم مثلاً أنه مذكى أو لا، فإنه يتركه ولا يأكله، وكذا لو اشتبه في المكسب أنه حلال أو لا، فإنه يجتنبه ولا يأخذه، وبالجملة، يعمد الإنسان إلى أن يتورع ويتعفف عن كل ما يكون مشتبهاً، فيجتنبه.

مناشئ العفة:

ولا يخفى أن العفة عند الإنسان تنشأ من أمور متعددة، عمدتها أمران:

الأول: العقل:

فإن العاقل عندما يدرس عواقب الفجور، يعرف أنه يخدش الحياء، ويسقط المروءة، يقول أمير المؤمنين(ع): من عقل عفّ.

الثاني: الغيرة:

فقد جاء عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: قدر الرجل على قدر همته-إلى أن قال-: وعفته على قدر غيرته. فالغيرة تحجز صاحبها وتعفه، ولهذا يقول أمير المؤمنين(ع): ما زنى غيور قط.

مجالات العفة:

والظاهر أن مجالات العفة عديدة، ومختلفة، نعم لا يبعد أن يكون أهمها مجالين:

الأول: حفظ الفرج:

من أن ينجرف بالإنسان، ويفقده تقاه، واستقامته، قال تعالى:- (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله)، فغض البصر مثلاً عما حرم الله تعالى، مظهر من مظاهر العفة.

الثاني: حفظ البطن:

فلا تملأه من الحرام، وأعظم الحرام هو أكل أموال الناس.

ولا تقف عفة البطن بصاحبها عند اجتناب أكل الحرام، بل إن الإنسان العفيف لا يرضى أن تُذل نفسه بالسؤال والطب حتى مع فقره وحاجته، كما قال تعالى:- (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف).

آثار العفة على الفرد والمجتمع:

لا يختلف اثنان أن هناك آثاراً نافعة ومفيدة للعفة تعود على الفرد والمجتمع، نشير لبعضها:

الأثر الأول: وهو القيام بعملية التحصين:

فإن العفة تكسب الفرج فضيلة عظيمة، وتعينه على التـزام خط التقى، كما أنها تحصن المجتمع وتحميه أمام موجات الفجور الطاغية. وقد تضمنت بعض النصوص أن من لم يعف فإنه يبتلى، فقد ورد في صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع)، قال: أما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم. وما تضمنه الصحيح من الابتلاء في نسائهم، يعود لأحد أمرين، أو هما معاً[1]:

1-أن هذا من باب الأثر التكويني عقوبة، ليكون من صغريات ما ورد: كما تدين تدان.

2-أن يكون ذلك بسبب فقدانه الغيرة، لتركه العفة، فلا يربي أهله عليها منذ البداية.

الأثر الثاني: أنها تكسب صاحبها مرضاة الله سبحانه وتعالى:

وثوابه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من عفّ خفّ وزره، وعظم عند الله أجره.

وقد عدّت بعض النصوص العفة عبادة، بل من أفضل أنواع العبادات، فعن الإمام الباقر(ع)، قال: ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج.

الأثر الثالث: أنها توجب زكاة الأعمال:

بمعنى نموها وزيادتها، يقول أمير المؤمنين(ع): بالعفاف تزكوا الأعمال. والظاهر أن هذا الربط بينهما يشير لأمر معنوي، بحيث يكون هناك ترابط طبيعي بين تزكية النفس، بكون الإنسان عفيفاً، وبين زكاة أعماله، والتي هي بمعنى الزيادة، لأن العفة لا تتجزأ، فالعفيف هو الذي يزكي نفسه، ومن زكت نفسه زكا عمله.

نماذج للعفة:

إن أكثر ما نعانيه اليوم هو تحدي السقوط أمام شهوة الغريزة الجنسية، حيث يتذرع الكثيرون بأن وجود المغريات تجعل الإنسان سيما الشباب، يصعب عليهم حفظ شهواتهم، فيعفوا أنفسهم.

إلا أن هذا ليس ممتنعاً، بل تبقى العفة خياراً ممكناً، ولنا في أنبياء الله(ع) مثال يحتذى به:

النبي يوسف(ع):

تعدّ قصة نبي الله يوسف(ع) مع امرأة العزيز من النماذج النافعة جداً للشاب المؤمن والذي يسعى لكبح جماح الشهوة، والسيطرة عليها، فمع ما قد حباه الله تعالى من الجمال، وما توفرت له من الإغراءات التي مارستها عليه زوجة العزيز، وتوفر الظروف الموضوعية لأن تغلبه الشهوة البشرية، إلا أنه(ع) استعصم، وأبى أن ينساق لذلك، مع علمه بما سوف يترتب عليه من آلام جسدية في مستقبل الأيام حين رفضه لطلب زوجة العزيز والتي كانت تمثل جزءاً من السلطة الحاكمة.

ويستفاد من بعض النصوص، أن الله تعالى سوف يحتج يوم القيامة على الشباب بنبيه يوسف الصديق(ع) الذين أغراهم جمالهم، فانحرفوا، وسوف تكون السيدة مريم(ع) حجة على النساء الجميلات التي اجرفنا وراء الشهوة وانحرفن بسبب إغراء جمالهن لهن بذلك، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: تؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها، فتقول: يا رب حسّنت خَلقي حتى لقيت ما لقيت، فيجاء بمريم(ع)، فيقال: أنت أحسن أو هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه، فيقول: يا رب، حسّنت خَلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت، فيجاء بيوسف(ع)، فيقال: أنت أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن.

الكليم موسى(ع):

وقد مثل نبي الله موسى(ع) نموذجاً آخر للشاب العفيف، وذلك في موقفه مع ابنتي نبي الله شعيب(ع)، فقد تحركت فيه الغيرة والشهامة عندما وجدهما تقفان جانباً والرعاة متكالبون على الماء، فسقى لهما بكل عفة وحشمة، غيرة منه(ع) عليهما أن تكونا وسط الرجال وبينهم.

وقد تحدث القرآن الكريم عن محادثة تمت بين النبي شعيب(ع) وابنته، ووصفها إياه بالقوي الأمين، وقد تضمنت بعض النصوص أن منشأ وصفها إياه بالأمانة، يعود لما وجدت فيه من العفة، فقد روى صفوان عن أبي الحسن(ع) في قول الله عز وجل:- (يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)، قال: قال لها شعيب: يا بنية هذا قوي برفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبت إني مشيت قدماه، فقال: امشي من خلفي، فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق، فإنا قوم لا ننظر إلى أدبار النساء.

اعفاف الأولاد:

وقد دعت النصوص الشريفة أن يعفّ الأباء أبنائهم، ويكون ذلك من خلال تزويجهم، فقد ورد: من حق الولد على والده أن يزوجه إذا بلغ.

والظاهر أن الاعفاف للولد لا يكون بمجرد مساعدته في تهيئة الظروف المناسبة للزواج حين وصوله لتلك المرحلة، ما يوجب تحصينه من الوقوع في الحرام، ويبعده عن الانحراف، كما يتصور ذلك البعض، بل إن الاعفاف يكون منذ البداية وذلك من خلال تهيئة الأجواء التربوية الصالحة له منذ البداية، وتنشأته على العفة، ورفع مستوى الجانب الروحي والمعنوي عنده في العلاقة مع الله تعالى[2].

 

 

[1] هذا بمثابة الجواب على سؤال مقدر، إذ قد يطرح السامع لهذا النص، فيقول: ما هو ذنب النساء حتى يقع عليهن هكذا أمر.

[2] المتقون ذروة الكمال البشري ص 133-138، الأخلاق في القرآن ج 2 ص 289-298(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة