25 أبريل,2024

الانتظار الموجه

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى ]ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين[[1].
من المسائل المهمة التي تختلج في صدور البشرية جميعاً مسألة انتظار المنقذ وهي مسألة غير مختصة بالشيعة فقط بل الروايات متواترة من طرق أبناء السنة بل تعم حتى الاتجاهات غير الدينية كالماركسية مثلاً ولما كانت هذه المسألة على هذه الدرجة من الأهمية لا بأس بالحديث عنها .
هذا ويقع الحديث في ضمن محاور :-
الأول :-ما هو الانتظار:-
إن معرفة مفهوم الانتظار لها أكبر الأثر على الجوانب الفكرية لحياة الناس فلو فُهِمَ الانتظار بإسلوب سلبي سيتحول هذا المفهوم إلى عامل للتخدير والإعاقة من الحركة . أما لو فهم بإسلوب إيجابي فسيجعل منه عاملاً من عوامل التحريك والبعث والإثارة في حياة الناس .
خصوصاً وأن هذا المفهوم من المفاهيم التي تناولتها عدة رؤى وتصورات وتم التلاعب في مضمونه ومحتواه بحيث غير الكثير من دلالته وسلب جانباً كبيراً من صفاته
ولذا نحتاج إلى تقديم تصور دقيق لمسألة الانتظار…
معنى الانتظار :
توجد عندنا مجموعة من التصورات لمفهوم الانتظار سوف نقوم بملاحظتها والتعقيب عليها :

التصور الأول :
إن الانتظار عبارة عن الإكثار من الدعاء بتعجيل الفرج فيقصر مفهومه على الدعاء فقط.
ومن الواضح أن هذا التصور لا يملك بعدا وعمقا في فهم الانتظار مضافاً لكونه لا يملك رؤية شمولية لأبعاد الانتظار بحيث لا يضع المؤمنين في المسار الواقع له.
والحاصل هذا الفهم السطحي لمفهوم الانتظار لكونه لا يتجاوز إطار الدعاء فيبقى في ضمن محدودية الكلمات لا يعكي للانتظار واقعيته وفاعليته وحركته.
وهذا الذي ذكرناه لا يعني إنكار أهمية الدعاء بل إننا نؤمن أن الدعاء بعد هام من أبعاد الانتظار وإنما ناقشنا في أن الدعاء كل الانتظار إذ أن هذا يعني تضييق مضمون الانتظار وتفريغ دلالاته الكبيرة ومحتواه الاصلية.
هذا مضافا إلى التأكيدات الكثيرة والصادرة من المعصومين (ع) حول الانتظار إلى حد اعتبرت هذه التأكيدات أن الانتظار أفضل العبادة ومنحت أصحابه درجات عالية من التقييم واعتبرتهم بمنزلة المجاهدين بين يد الرسول الأكرم (ص) وأثنت عليهم ثنائاً لا حدود له ، لا تنسجم مع كون الانتظار هو مجرد الدعاء.
ثالثاً : نحن بحاجة إلى إيجاد وتهيئة كوادر مؤهلة للالتحاق بركب الإمام القائد حينما يظهر وهذا بحاجة إلى جهد قياسي وكبير لا يتحقق بالدعاء وحده.
نعد الدعاء يملأنا بالاستعداد النفسي للحركة في خط الانتظار كما يخلق فينا الالتحام الروحي به (عج) ويحفزنا لتحصيل بقية العناصر التي تشكل مضمون الانتظار الحقيقي.

التصور الثاني :
إن الانتظار يعني اعتزال الساحة والتخلي عن كافة المسؤوليات الرسالية والقيام بعملية التغيير في زمن الغيبة وقد نشأ هذا الفهم نتيجة وجود خلل في الرؤية وفهم طبيعة الدور الذي سيمارسه الإمام الحجة (ع) وكذلك لوجود خلل في فهم طبيعة العلاقة بين هذا الدور والأدوار التمهيدية قبل ظهوره (عج).
ونتيجة لذلك وجد هذا التصور الذي يحاول تعطيل جميع مهام الرسالية في عصر الغيبة.
ويرى أصحاب هذا الفهم أن مسؤولية التغيير وإنهاء الانحراف من الوجود والتصدي لكل ظواهر الفساد وظيفة الامام المنتظر (عج) فهي مناطة به وهو الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كمت ملئت ظلما وجورا ، وسوف ينهي كل ضلال وانحراف وفساد.
ولذا لا بد من إرجاء وتأجيل عملية التغيير إلى حين ظهوره المبارك فلسنا مسؤولين في فترة غيبته أن نمارس أي عمل تغييري سواء في مواجهة الانحرافات في الساحة أم الارتقاء بالمستويات الفكرية والثقافية.
ولا يخفى أن هذا التصور يدعو إلى تعطيل مجموعة من التكاليف الشرعية كالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومحاربة الفساد ومواجهة الظلم فيكون منافيا بشكل صريح للنصوص الإسلامية المؤكدة على استمرار تلك التكاليف في كل عصر وزمام ومكان وفي كل حال.
كما أنه يعبر عن حالة من انعدام الرؤية الإسلامية ووجود جهل فاحش ، جهل بمفاهيم الإسلام وبمسؤولية الإنسان وبقضية الإمام المنتظر (عج).

التصور الثالث :
وهو الذي يوضح بأن خروجه (ع) لن يتحقق حتى تملأ الأرض بالجور والظلم والإفساد والانحراف فهنا شرط موضوعي لظهوره (ع) ألا وهو امتلاء الأرض بالمفاسد والانحرافات فأي محاولة لإيقاف حركة الامتلاء هذه ، أو أي محاولة لإيقاف اتساع المساحة الانحرافية في المجتمع تستدعي تأخير لتحقق الشرط الموضوعي الضروري لظهور الحجة المنتظر (عج).
بل قد يتمادى أصحاب هذا الفهم فيقولون بضرورة تهيئة الأجواء للانحراف والفساد التي تساهم في التعجيل بتحقق شرط الظهور الموضوعي.
وهذا التصور تشويه لقضية المولى (روحي لتراب مقدمه الفداء) لأنه بالإيمان بعدم المسؤولية في مواجهة الانحرافات والمفاسد يفسح المجال لأن ترسخ هذه الانحرافات ووجودها داخل مجتمعاتنا الإسلامية وأن تمتد فيها بكل حرية في كافة المواقع والمجالات لتصبغ حياة المسلمين بطابعها وأفكارها وقيمها.
مضافا إلى ذلك يستدعي إقصاء الإسلام بعيدا عن الحياة وإفراغ الساحة منه ومن قيمه ومفاهيمه وتوجهاته ونقصر تلك القيم والمفاهيم في مساحات ضيقة لا تتجاوز المسجد والحسينية ولا تتجاوز حدود القضايا الشخصية من زواج وطلاق وميراث.
وهذا يتنافى مع شمولية الإسلام وصلاحيته للامتداد لكل زمان ومكان.

التصور الرابع:
إن الانتظار ثقافة ومفهوم حضاري يدخل في تكوين عقليتنا وإسلوب تفكيرنا ومنهج حياتنا ورؤيتنا إلى المستقبل والذي يقرأ (دعاء الندبة) وهو الدعاء الذي يدأب المؤمنون أيام الجمع على قراءته يعرف عمق هذه المسألة ونفوذها في نفوس المؤمنين وعقليتهم ومنهجهم في التفكير والحركة .
ثم إن هذا الفهم للانتظار يتحقق من خلال العناصر الآتية :
الأول : الترقب الدائم لظهور الإمام الحجة (عج) :
ويعني ذلك أن يعيش المؤمن حضورا مستمرا لتوقع ظهوره في كل لحظة فلا أن نعيش هذا الشعور باستمرار في داخلنا.

الثاني : الاستعداد الدائم :
وهذا يفرضه الترقب الدائم فما دام المؤمن مترقبا دائما فلا بد أن يكون مستعداً ويتحقق الاستعداد بحصول إعدادات أهمها :
1-الإعداد الروحي :
وهو يعني الصعود بالمستوى الروحي عندنا إلى درجة كبيرة لأن لقائه (ع) يحتاج إلى مستوى عالي وكبير من الروحية والعمق الإيماني والعلاقة بالله سبحانه والإخلاص للمبدأ والعقيدة.
فمن لا يملك الإعداد الروحي لا يعيش الاستعداد والترقب والانتظار حتى وإن بحت حنجرته من الدعاء والابتهال.
2-الاعداد الفكري :
فلا بد من التوافر على مستوى من الوعي والفهم والثقافة والمعرفة بمفاهيم الاسلام وأحكامه تؤهل الإنسان ليكون من الكوادر الصالحة للالتحاق بركب القائد المنتظر (عج) لأن المستفاد من النصوص أن أنصاره يملكون درجات عالية من البصيرة والفقاهة في الدين.
3-الإعداد السلوكي :
بأن نعيش التقوى والورع والالتزام بأحكام الله عز وجل ونصوغ أنفسنا عملياً صياغة تنسجم مع التعاليم الإلهية ومنسجمة مع منهجه سبحانه.
الثالث : الارتباط الفعلي بقيادة الإمام المنتظر (عج) :
وهي متمثلة في هذا الوقت في فقهاء الطائفة ومراجعها فلا بد من الارتباط بهم ارتباطاً فعلياً.
الرابع : التوطئة العملية لظهور الإمام المنتظر (عج) :
فنحتاج تهيئة قاعدة صالحة تدعم حركته الإصلاحية وتهيئة الكوادر المؤهلة للانضمام لحركته وتهيئة الأجواء الفكرية والنفسية لاستقباله (عج).

الثاني :-أنحاء الانتظار:-
إن الانتظار يكون على نحوين :-
النحو الأول :- انتظار الإنقاذ في ما ليس بوسع الإنسان أن يقدمه أو يؤخره كمن ينتظر شخصاً لإنقاذه فإنه لا يستطيع أن يقدم وصوله إليه . إلا أن هذا الانتظار يبعث في نفس الشخص أملاً قوياً في النجاة ، وهذا الأمل يمنحه روح المقاومة حتى يصل له المنقذ . فنخلص إلى معادلتين :-
الأولى :-أن الانتظار يبعث على الأمل .
الثانية :-إن الأمل يمنح الإنسان المقاومة .
النحو الثاني من الانتظار :- وهو ما يستطيع الإنسان أن يقرّ به ويدّعي به كإنجاز مشروع عمراني أو علمي أو تجاري فإن أمر تعجيل هذه الأمور وتأخيرها بيد الإنسان نفسه . وبهذا التقرير يتضح الفرق بين الانتظار من النحو الأول والانتظار من النحو الثاني . إذ أن الانتظار من النحو الثاني يشتمل على معادلة ثالثة مضافاً للبعث على الأمل ومنح المقاومة وهي الحركة وهي مختصة بهذا النحو من الانتظار فهذا النوع من الانتظار يعطي :-

1-أملاً في النفس يمكّن الإنسان من اختراق الحاضر ورؤية المستقبل .
2-مقاومة تمكن الإنسان من مواصلة الصمود ومقاومة الانهيار والسقوط حتى وصول المدد .
3-حركة تمكن الإنسان من تحقيق الخلاص والنجاة وتحقيق القوة والغنى .
وهذا الانتظار يمكننا تسميته (بالانتظار الحركي) أو (الانتظار الإصلاحي) وهو أفضل أنـواع الانتظار ، وإلى هذا المعنى أشار سبحانه وتعالى بقوله ]إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ [2].
صحيح إن التغيير من الله لكن بشرط أن يتحرك الإنسان لتحقيق هذا التغيير فلابد من اقتران هذا الانتظار لحصول التغيير من الله بالحركة والفعل من الإنسان. فليس الانتظار رصداً سلبياً للأحداث المتوقعة من دون أن يكون لنا دور فيها إما سلباً أو إيجاباً . بل التفسير الصحيح للانتظار أنه حركة وفعل وجهد وعمل .
الثالث :-سبب تأخير الفرج:-
وهنا نواجه سؤالاً وهو ما هو السبب في تأخير الفرج ؟..سؤال نحن بحاجة للإجابة عليه .
الجواب يتضح من فهم المعنى الصحيح للانتظار…فهل هو بمعنى (الرصد) أو أنه بمعنى (الحركة) ؟..
فإذا كان السبب في تأخير الفرج بظهوره (عجل الله تعالى فرجه) هو أن تُملَئَ الأرض ظلماً وجوراً فلابد من أن يكون الانتظار بمعنى (الرصد) فلا يجوز لنا أن نوسع رقعة الظلم والجور في الأرض كما لا يجوز لنا أن نكافح الظلم والجور لأنه يؤدي إلى إطالة زمن الغيبة .
وهذا الرأي لا يقبله أحد . إذ ليس معنى امتلاء الأرض جوراً وظلماً هو جفاف نبع التوحيد والعدل من عليها فلا تبقى رقعة يعبد الناس عليها الله تعالى .
وإنما المقصود منها هو طغيان الباطل على الحق في الصراع القائم بينهما . ولقد كانت غيبته (روحي لتراب مقدمه الفداء وأقل الفداء) بسبب طغيان الفساد والباطل فكيف يكونان سبباً لظهوره وخروجه .
أما إذا كان السبب في تأخير الفرج هو عدم وجود الأنصار الذين يعدون المجتمع لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) فإن الأمر يختلف ويكون الانتظار بمعنى (الحركة) فلابد من الإعداد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الرأي الصحيح .

الرابع :-واجبات مرحلة الانتظار ومسؤولياتها:-
بعد أن عرفنا ما هو الوجه الصحيح في تأخير الفرج صار لازماً علينا أن نسأل عن الواجب علينا في هذه المرحلة وبعبارة أخرى كيف يمكننا الاستعداد والتوطئة لظهوره عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه .
في مقام بيان ذلك نقول : إن أهم واجبات مرحلة الانتظار ومسؤولياتها هي :-
الأول :-الوعي وهو على أنحاء :-
1-وعي التوحيد .
2-وعي دور الإنسان المسلم على وجه الأرض . وهو القيمومة والشـهادة
والإمامة للبشرية .
3-وعي دور الدين في الحياة البشرية في إزالة الفتن والـعوائق من طريق الدعوة .
الثاني :-الأمل .
الثالث :-المقاومة لأجل التغلب على الفساد ونشر الحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع :-الدعاء لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه) .
وهذا الانتظار الذي تحدثنا عنه بمفهومه الإيجابي هو الذي يستحق الأجر الكبير الذي نصت عليه النصوص الكثيرة كقوله : أفضل أعمال أمتي الانتظار[3]. وأيضاً قوله : المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه[4].
عجل الله تعالى له الفرج وسهل له المخرج وجعلنا من أنصاره وأودائه المقاتلين والمستشهدين بين يديه وتحت لوائه آمين رب العالمين .
والحمد لله رب العالمين

[1] سورة القصص الآية رقم 5
[2] سورة الرعد الآية رقم 11