العصمة المحمدية, الهدى بعد الضلال

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
2
0

العصمة المحمدية, الهدى بعد الضلال

 

من الآيات التي تمسك المخطئة بظاهرها للبناء على نفي العصمة عن النبي الأكرم محمد (ص), آية الهداية بعد الضلال، وهي قوله تعالى:- (ووجدك ضالاً فهدى)[1]، فإن نسبة الضلال فيها للنبي الأكرم محمد (ص) تكشف عن نفي العصمة عنه (ص) في بعض الآنات, فيثبت المطلوب.

بل لو سلم بدلالة الآية على المدعى لزم من ذلك نسبة الضلال ونفي العصمة عن بقية الأنبياء(ع) بطريق أولى، لأنه إذا كان خير الخلق(ص) ضالاً فغيره من باب أولى. ومثل ذلك يجري أيضاً في شأن الأئمة الطاهرين(ع).

 

معنى الضلال:

وقد فسرت نسبة الضلال له ببيان منشأ ذلك الضلال، فذكرت أقوال نذكر بعضاً منها، ويمكن للقارئ المتابعة في كلمات المفسرين:

أحدها: ما ذكره الكلبي من أنه كان كافراً في قوم ضلال حتى هداه الله سبحانه إلى التوحيد.

ثانيها: ما قاله مجاهد من أنه كان ضالاً عن الهدى لدين الله تعالى.

 

ومن الواضح عودهما إلى معنى واحد، وهو أنه (ص) لم يكن موحداً قبل البعثة المباركة، من دون فرق بين كونه متعبداً على ملة إبراهيم(ع) أم على رسالته (ص).

وقد تمسك القائلون بنفي التوحيد عنه (ص) قبل البعثة بمجموعة آيات، مثل قوله تعالى:- (وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) وَ (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) وَ (لئن أشركت ليحبطن عملك)، وسوف يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.

 

علاج الشبهة:

وقد عرض العلماء من الفريقين أجوبة بغرض دفع الشبهة المذكورة ونفي الضلالة عن الرسول الأكرم محمد (ص) حتى قبل البعثة، وأنه كان على التوحيد، وإن اختلفوا في أنه كان على الحنفية السمحاء وهي ملة إبراهيم الخليل(ع)، أم كان على شريعة الإسلام وهي رسالته(ص)، وعلى أي حال لنشر لبعض الإجابات:

نقصان العقيدة:

منها: ما ذكره سيد قطب، ويظهر من بعض الأعلام(قده) استحسانه، وحاصله: إن المقصود بالضلال في الآية هو ضلال العقيدة[2]. وقد قربه بمقدمتين:

الأولى: لقد كان رسول الله (ص) قبل نزول الوحي شخصاً عادياً وغير مسدد، وإنما حصل له التسديد بعد نزول الوحي.

الثانية: إن العقيدة السائدة في ذلك الوقت تعتبر ضلالاً بالنسبة إلى الإسلام، وذلك لأن اليهودية منسوخة والمسيحية ممحوقة، والحنيفية مختصرة تشتمل فقط على بعض أصول الدين كالتوحيد، وبعض فروعه كبعض المحرمات، وهي لا تكفي لا بشكل مفهومي، ولا بشكل سلوكي كما تبين ذلك بعد الإسلام. ونسبة هذه العقائد للإسلام كنسبة الحجر إلى جنب الانسان، فتكون بمنزلة الضلال، بل هي ضلال عن كثير من المفاهيم والتشريعات التي جاء بها الإسلام من جديد[3].

ومقتضى هذا الجواب البناء على كون رسول الله (ص) موحداً ولم يكن على شيء من دين قومه وهو الشرك فضلاً عن الكفر. نعم لازمه أنه (ص) كان يتعبد بواحدة من الديانات السماوية السابقة عليه، سواء اليهودية أم المسيحية أم الحنيفية، ولما كان جميعها غير تامة وناقصة، لذا عدّ التعبد بها ضلالاً.

 

وعليه ليس المقصود من الضلال في الآية هو الانحراف، بل التعبد بديانة ناقصة والاعتقاد بعقيدة غير تامة.

ويمنع من القبول بهذا الجواب، أمور نشير لبعضها:

أحدها: أنه قد ثبت في محله أن النبي (ص) كان يعبد الله تعالى وفقاً لشريعته ولم يتعبد بشيء من الشرائع السابقة.

ثانيها: إن اللازم مما ذكر شرعية التعبد بالشريعتين اليهودية والمسيحية لمن كان في الجزيرة العربية من غير اليهود والنصارى، وهذا يجعل رسالتي موسى وعيسى(ع) عالميتين وهو خلاف المشهور.

 

الضعف الإنساني:

ومنها: ما ذكره بعض الأعلام(قده) من أن المقصود منه الإشارة إلى الضعف الإنساني الموجود في رسول الله (ص) بنحو المقتضى، فيكون المعنى أنك ضال لولا التسديد الإلهي، وهذا التسديد موجود دائماً وهو لا ينافي المقتضي المضاد، نظير التطهير المستفاد من قوله تعالى:- (ويطهركم تطهيراً)[4]، فإن مقتضى النجاسة الإنسانية موجود فيكم كبشر، إلا أنه سبحانه شاء تطهيركم أساساً ومن أول الخلقة[5].

وحاصل هذا الوجه، أن القابلية موجودة عندك للضلال والانحراف، إلا أن الله تعالى أوجد المانع عن ذلك من خلال التسديد الحاصل للنبي(ص) من خلال الوحي.

 

البعد البشري:

ومنها: إن المقصود من الضلال هو الحيرة وعدم الاهتداء، توضح ذلك:

لابد من التفريق في شخصية النبي (ص) بين بعديه البشري والملكوتي، فالثاني منهما لا يتصور فيه نسبة الضلال له، بخلاف الأول، فإنه ليس عالياً  كالبعد الملكوتي، ويؤيده العديد من الآيات التي تحدثت عن بعده البشري، كقوله تعالى:- (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ)، فإنه (ص) مثلنا إلا ما خرج بدليل، وعليه لا يستبعد حصول الحيرة له (ص) في بعض الأمور الدنيوية كعدم الاهتداء إلى الرسالة، كما نسب للجمهور، أو عدم تخطيطه لبثها ونشرها. ويؤيد ذلك ما ورد عنه (ص): اللهم زدني حيرة، لكي تزيدني ثواباً.

ومعه لن تكون الآية دالة على المطلوب لأنها لا تنفي عنه العصمة ولا تثبت له الذنب كما هو واضح.

 

حقيقة الضلال:

والصحيح في الجواب عن الآية يعتمد على ملاحظة المقصود من مفردة الضلال لغة وبيان حقيقته، فنقول:

إن الرجوع لكلمات اهل اللغة يفيد استعمال هذه المفردة في موارد:

الأول: أن تكون مأخوذة من الضلالة فتكون ضد الهداية والرشاد.

الثاني: أن تكون مأخوذة من الضال بمعنى الضائع، كما يقال: ضل البعير، وضل الطفل إذا لم يعرف مكانه.

الثالث: أن تكون مأخوذة من ضئل الشيء بمعنى صغر وخفي ذكره.

 

والبناء على أي واحد من الاستعمالات المذكورة لا يوجب نفي العصمة عنه (ص)، توضيح ذلك:

الهداية التكوينية:

أما لو بني على الاستعمال الأول، وهو كون الضلالة مقابل الهدى والرشاد، كما هو المقصود في كثير من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى:- (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فإن الضلالة على نوعين:

الأول: أن تكون الضلالة أمراً وجودياً:

في النفس يوجب ظلمة فيها، كما يوجب منقصتها، مثل: الكفر والشرك والنفاق، وهي بهذا المعنى قابلة للزيادة والنقصان.

الثاني: أن تكون الضلالة أمراً عدمياً:

وذلك عندما تكون النفس فاقدة للرشاد، فيكون الانسان عندها ضالاً بمعنى أنه غير واجد للهداية من عند نفسه، وذلك كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير والشر، ويميز بين الصلاح والفساد، فهو عندها ضال بمعنى أنه غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا أن المقصود منه كينونة ظلمة الكفر والفسق في نفسه وروحه.

 

ولو كان المقصود من الضال في الآية محل البحث ما يقابل الهداية والرشاد، فسوف يكون المقصود منها هو النوع الثاني، فيكون المعنى أنك في أول عمرك كنت غير واجد للهداية من عند نفسك، فهداك الله إلى أسباب السعادة وعرفك عوامل الشقاء، وهو إشارة إلى قانون إلهي في حياة البشر أنبياء وأناساً ماديين، وهو أن هداية كل إنسان، بل كل ممكن مكتسبة من الله تعالى، قال سبحانه:- (قال ربُنا الذي أعطى كل شيء خلقَه ثم هدى).

وحاصل هذا الجواب هو الإشارة إلى الهداية التكوينية التي جعلها الله تعالى لكافة الموجودات بما في ذلك الإنسان.

 

وعليه لن تكون الآية دالة على نفي العصمة عنه (ص)، بل سوف يكون مفادها ذكر النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى على نبيه وحبيبه محمد (ص) منذ أن استعد للهداية فآواه بعد ما صار يتيماً، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها بحسب ذاته وبحكم طبيعته.

 

الضياع:

أما لو كان المقصود هو المعنى الثاني، من الضياع والفقدان، فسوف يكون نظر الآية لما نقله أهل السير والتواريخ من أنه (ص) ضاع في أيام صباه وهو صغير في شعاب مكة، ومنّ الله تعالى عليه بأن رده إلى جده عبد المطلب(ع)، والقصة في ذلك معروفة يمكن مراجعتها في المصادر التاريخية ولو لا رحمة الله سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الإلهية.

 

خفت الذكر:

أما لو بني على المعنى الثالث، المأخوذ من خفت الذكر، فالإنسان الضال هو المخفي ذكره، المنسي اسمه، والذي لا يعرفه إلا القليل من الناس ولا يهتدي كثير منهم إليه.

ولو كان هذا هو المقصود من الضال في الآية المباركة، فسوف يكون المعنى أنه تعالى قد رفع ذكر رسوله (ص) وعرفه الناس بعد ما كان ذكره خاملاً واسمه منسياً. ويؤيد هذا الاحتمال قوله تعال:- (ورفعنا لك ذكرك).

 

ويشير لذلك ما جاء عن الإمام الرضا(ع) في خبر ابن الجهم، قال الله عز وجل لنبيه محمد(ص):- (ألم يجدك يتيماً فآوى) يقول: ألم يجدك وحيداً فآوى الناس، (ووجدك ضالاً)يعني عند قومك(فهدى)، أي هداهم إلى معرفتك(ووجدك عائلاً فأغنى)، يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً[6].

 

 

 

———————

[1] سورة الضحى الآية رقم 7.

[2] في ظلال القرآن ج 6 ص 3927.

[3] منة المنان في الدفاع عن القرآن ج 2 ص 86-87(بتصرف).

[4] سورة الأحزاب الآية رقم 33.

[5] منة المنان في الدفاع عن القرآن ج 2 ص 86.

[6] بحار الأنوار ج 16 في معنى كونه(ص) يتيماً وعلة يتمه ح 5 ص 142.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة