سُنة الابتلاء
قال تعالى:- (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
من خلال الآية الشريفة نتحدث ضمن محاور:
المحور الأول: في رحاب الآية المباركة:
يخبر الله سبحانه أن كل ما يواجه الانسان من الآلام والمكاره والأسقام وذهاب الأموال وتبدل الغنى إلى الفقر وقلة الوسع وذهاب الثمرات والبركات، هو عمل عمدي لله سبحانه وتعالى يصلح به عباده، وهو يجري على طبق قضاء الحكيم سبحانه ووفقاً لمناهج سنته الصالحة.
وهذا الأمر منه سبحانه في عباده من أجل اختبارهم وجعلهم في مختلف الحالات والتقلبات للعبر والتذكر, لأن من العباد من لا يصلحه إلا الفقر, ومنهم من لا يستيقظ من غفلاته إلا بالخوف, ومنهم من يحتاج إلى إزعاج شديد حتى يسلم من سكر الغنى والبطر وغير ذلك من الأمور, وقد أشير إلى هذا المعنى في بعض النصوص فعن النبي الأكرم محمد (ص) عن جبريل(ع) عن الله عز وجل, قال: قال الله تبارك وتعالى: وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك; إني ادبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير.
ولا يستثنى من هذه السنة الإلهية والابتلاءات الموجودة أحد، لأن القضية ليست قضية شخصية خارجية حتى تشمل جميع الأفراد في الخارج، فقد يبتلى فرد في واحدة من هذه الأمور كما قد يبتلى بها جميعاً أو يبتلى ببعضها.
والحاصل، إن ذلك كله من مظاهر الاختبار الإلهي بمظاهره المختلفة، وهو سنة كونية لا تقبل التغيير.
وقد تضمنت الآية الشريفة طرقاً للاختبار كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت، إلا أن سبل الاختبار لا تنحصر فيها فقد تضمنت الآيات الشريفة طرقاً أخرى مثل، الأبناء، وأحكام الله، بل حتى بعض الرؤى والأحلام، والخير والشر، قال تعالى:- (ونبلوكم بالشر والخير).
أقسام الناس من حيث الابتلاءات:
وينقسم الناس إزاء هذا الابتلاءات إلى قسمين:
١- فائز.
2- خاسر.
لأن هناك جماعة تصمد أمام الابتلاءات والامتحانات وتزداد توكلاً على الله تعالى وإيماناً به، وهناك آخرون يتراجعون ويبتعدون، بل ربما ينقلبون، فيفشلون في هذه الابتلاءات ويخسرون فيها.
المحور الثاني: سنة الابتلاء والعدل الإلهي:
عرفنا في المحور الأول أن الابتلاء سنة كونية يجريها الله سبحانه وتعالى في جميع خلقه من دون استثناء، لكن هل ينسجم ذلك مع العدل الإلهي؟ بمعنى: هل من العدل ان يبتلي الله سبحانه وتعالى عبده بنعمة أو نقمة، فإذا كفر او جزع حاسبه الله على ذلك في يوم الجزاء؟
من المعلوم ان كل ما يحدث في عالم الوجود من أمور كونية كهطول المطر، وهبوب الريح وثوران البركان وزلزال الأرض وتعاقب الليل والنهار، وما يحصل للإنسان من أطوار خلقه وتكوينه في بطن أمه، وما يحدث له من شقاء وسعادة ورفعة وسقوط، لم يحصل ويقع صدفة أو خبط عشواء، وإنما وقع ذلك وحدث وفق قانون عام ودقيق، ولهذا القانون وجهان:
الأول: وهو الذي تخضع له جميع الموجودات الحية بوجودها المادي، وكذلك الحوادث المادية وكذلك كيان الإنسان وما يطرأ عليه من نمو وحركة أعضاء ومرض وهرم وما شابه ذلك، وقد دل على ذلك جملة من الآيات القرآنية، قال تعالى:- (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وهذا قانون ثابت وأحكامه سارية على الحوادث التي يحكمها هذا القانون، ويعتبر هذا القانون من أهم الأدلة على وجود الخالق سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني لهذا القانون: ما يتعلق بخصوص التصرفات البشرية سواء كانوا أمماً وجماعات أم أفراداً، وبأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكون عليه من أحوال، وما يترتب على ذلك من نتائج من الرفاهية أو الضيق في العيش والسعادة والشقاء والعز والذل والرقي والتأخر، وغير ذلك من الأمور الاجتماعية في حياة الدنيا وما يصيبهم في نعيم أو جحيم في عالم الآخرة، كل ذلك قد أشير إليه في مجموعة من الآيات القرآنية.
الإجابة عن التساؤل:
وفقاً لما تقدم نجيب عن السؤال، بأن الغرض من الابتلاء هو إتمام الله تعالى الحجة على الخلق بإعلامهم ما هم عليه من السعادة والشقاء، لأن الإنسان لا يعلم حقيقة نفسه من حيث السعادة والشقاء، قد أوجده الله تعالى وابتلاه بالتكاليف وأرسل له الأنبياء والرسل ليتعرف الإنسان على حقيقة نفسه. فالله تعالى عالم بكل أحد وبأحواله لكنه يمتحنه لإخراجه من جهله بحال نفسه إلى العلم بها فيعلم أنه سعيد أو شقي، صالح أو فاسق لتتم الحجة له أو عليه. فالامتحان الإلهي يأتي لإعلام الانسان بحال نفسه. ولنقرب ذلك بمثال:
قلنا إن الابتلاء ليعرف الانسان حقيقة نفسه, وذلك بأن يعطيه الله تعالى أشياء أو يمنعه من أشياء فيخرج ما هو كامن في وجوده, وهذا مثل امتحان الانسان بالتكاليف الإلهية, فإن الانسان إذا ما امتثلها يكون قد ترجم ما في باطنه من خير إلى سعادة في الخارج، أما لو طغى وعصى فيكون قد ترجم ما في باطنه إلى شقاء في الخارج, فالشريعة قد تكون مفتاحاً للسعادة للإنسان وقد تكون سبباً لشقائه وإلى ذلك يشير قوله تعالى:- (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)، وذلك باختباره بالتكاليف حتى يتضح أنه من السعداء أو من الأشقياء.
اختلاف درجات الابتلاء:
ومع اشتراك البشر كافة في عملية الابتلاء، إلا أن ابتلاءهم على درجات فقد يبتلى البعض في العمر مره، وآخر في كل سنة مرة، بينما ثالث في كل يوم، ويختلفون في نوع البلاء فقد يبتلى شخص في ماله، وآخر في ماله وولده، وثالث في ماله وولده وصحته. وهذا التفاوت يعود لما علمه الله تعالى من حال الإنسان، وهذا يفسر الحديث المروي عن الإمام الباقر(ع): إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وغته بالبلاء.
المحور الثالث: فوائد الابتلاء:
إن مقتضى الحكمة الإلهية يستدعي أن تكون هناك فوائد للابتلاء الذي يصيب الانسان نشير إلى بعضها:
الأولى: يمثل الابتلاء أحد أسباب العودة إلى الله سبحانه وتعالى فالعاصي الغافل عن الله تعالى والمتمادي في طغيانه وضلالته عندما يصطدم بالبلاء يشعر عندها بذنبه وحاجته إلى الله تعالى فيرجع عما هو فيه إلى طريق الهداية ليتكامل روحياً وأخلاقاً, قال تعالى:- (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقال:- (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
الثانية: يعد البلاء في الدنيا سبباً لتكامل الانسان وعلو درجته في الآخرة، ويشير لهذا ما ورد عن رسول الله(ص) في حديثه مع الإمام الحسين(ع) قبل خروجه من المدينة المنورة، حيث قال له(ص): إن لك درجات لن تنالها إلا بالشهادة.
الثالثة: يعتبر البلاء كفارة لما ارتكب من الذنوب والمعاصي ويعدّ عقوبة معجلة تنقذ الانسان من عقوبة أشد في البرزخ أو يوم القيامة، يقول الإمام الباقر (ع): ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
الرابعة: الابتلاء من أسباب معرفة النعم وتقديرها، فالإنسان لا يحس بلذة الطعام إلا إذا أحس بالجوع والحاجة إلى الأكل، ولا يعرف نعمة الراحة إلا إذا أصابه التعب، ولا يعرف قيمة الصحة إلا عند المرض، ولا يعرف قيمة المال إلا إذا خسره ولا قيمة النعمة إلا عند فقدها.
الخامسة: إن الابتلاء سبب لرفع همة الإنسان وزيادة عزيمته وتفجير طاقته.
السادسة: يكون الابتلاء سبباً للتمييز بين درجات المؤمنين أنفسهم حتى يتنافسوا على درجات الجنة ومقاماتها المختلفة، لأن المؤمن كلما ازداد إيماناً اشتد البلاء وازداد ثواباً وارتفعت درجته في الجنة، يقول الإمام الباقر (ع): أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأوصياء، ثم الأقل فالأقل.