25 أبريل,2024

بشرية الإمامة(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة
  • بشرية الإمامة(2)

القائلون بنظرية العلماء الأبرار:

ولم أقف على من صرح بالقول بهذه النظرية بهذا الاسم، إلا أن الكاتب المذكور، وتبعه على ذلك بعض الأساتذة(حفظه الله) نسباها لبعض علماء الطائفة، والظاهر أن منشأ النسبة اسقاط المعنى المذكور للنظرية على ما تضمنته بعض كلمات هؤلاء، وهذا يوجب التشكيك في صحة النسبة، كما سيتضح.

 

وعلى أي حال، فقد نسب القول بهذه النظرية إلى كل من:

 

ابن الغضائري:

وهو أحمد بن الحسين بن عبيد الله المعروف بابن الغضائري، وقد استقى الكاتب نسبة النظرية إليه من خلال كتابه الضعفاء، وقد بنى قوله بذلك على أساس المنهج الذي فسر به الكاتب طريقته في التعاطي مع الرواة، حيث ذكر أنه كان يعتمد في التوثيق والتضعيف على ملاحظة البعد العقدي للراوي، ومن ثمّ يقرر أنه مقبول الرواية أو مردودها. وقد سبب هذا الأسلوب تضعيف العديد من الرواة، وقد كان منشأ تضعيفه لهم أنهم كانوا يتخذون الغلو منهجاً فكرياً وعقدياً، يتبعونه.

ومن الواضح، أن رفض ابن الغضائري لمنهج الغلو يعود لكونه يتبنى أن الأئمة(ع) بشر لا يختلفون عن غيرهم، وليس لهم شيئاً اضافياً على بقية الناس، وليسوا كالنبي(ص)[1].

 

ابن الجنيد الأسكافي:

وهو أبو علي محمد بن أحمد الكاتب، المشهور بابن الجنيد الإسكافي، أحد فقهاء الشيعة ومتكلميهم، له آثار عديدة، كالمختصر الأحمدي في الفقه المحمدي، وقد كانت له آراء تعرضت للنقد في عصره من قبل الصدوق والمفيد، والمرتضى(ره)، واختلف الحال في القرن السادس حيث أعيد طرح آراءه واعتنى بمؤلفاته ابن إدريس، والعلامة والشهيد الأول(ره).

 

ومن أهم آرائه، رأيان أساسيان، أحدهما في أصول الفقه، وهو عمله بالقياس في المسائل الفقهية، والثاني في العقائد، وبالخصوص في علم الأئمة، وهذا هو المربوط بمحل البحث، فإنه كان يقول بأن الأئمة(ع) يعملون بالرأي والاجتهاد والاستنباط، وقد نسب له القول بذلك المفيد في المسائل السروية، وأنه قال ذلك في المسائل المصرية، قال(ره): وجعل الأخبار فيها-في المسائل المصرية-أبواباً وظن أنها مختلفة في معانيها، ونسب ذلك إلى قول الأئمة(ع) فيها بالرأي[2].

 

كما نسب له ذلك السيد المرتضى(ره) أيضاً في كتابه الانتصار في منفردات الإمامية، في مسألة جواز حكم الأئمة وحكامهم بعلمهم في جميع الحقوق والحدود، قال(ره): ووجدت لابن الجنيد كلاماً في هذه المسألة غير محصل، لأنه لم يكن من هذا ولا إليه، ورأيته يفرق بين علم النبي(ص) بالشيء وبين علم خلفائه وحكامه، وهذا غلط منه، لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف[3].

 

ومقتضى ما نسب لابن الجنيد(ره)، التـزامه نفي علم الغيب عن الأئمة الأطهار(ع)، وأن علمهم كسبي وليس لدنياً، لأنه لو كان لدنياً لم يكن وجه لأن يعملوا الرأي والاجتهاد والاستنباط، وهذا يجعلهم عرضة للوقوع في الخطأ، فيستلزم نفي العصمة عنهم(ع)، ويساعد على ذلك ما حكاه السيد المرتضى(ره) عنه من أنه يرى فرقاً بين علم النبي(ص)، وغيره.

وحاصل، رأي ابن الجنيد(ره)، بناءه على أن الأئمة الأطهار(ع)، بشر لا يعلمون الغيب، وليسوا معصومين، وهذا يجعله من القائلين بنظرية العلماء الأبرار[4].

 

مشائخ قم:

ومن الذين نسب الكاتب لهم القول بنظرية العلماء الأبرار، مشائخ قم القدامى، كأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري(ره)، وأضرابه، وقد بنى الكاتب نسبته المذكورة إليهم على أساسين:

الأول: قولهم بعدم نفي السهو عن النبي(ص)، فيدل ذلك بطريق أولى على عدم عصمة الأئمة الأطهار(ع)، وأنهم بشر عاديون.

الثاني: أن علمهم اكتسابي، وليس لدنياً، شأنهم شأن بقية علماء الدين، بل مثل علم سائر الناس، فهم كغيرهم يبذلون جهدهم للوصول إلى الأحكام الشرعية من خلال الاجتهاد واستنباط الأحكام، وإرجاع الفروع إلى الأصول، فليس الأئمة(ع) سوى علماء أبرار قد نص النبي(ص) على إمامتهم، وأوصى بها[5].

 

ابن قبة الرازي، وآل نوبخت:

وقد حكى الكاتب المذكور عن كاتب آخر اعتبار ابن قبة وكذا آل نوبخت من القائلين بنظرية العلماء الأبرار، فقد ذكر المنقول عنه أن ابن قبة الرازي كان يعتبر الأئمة علماء أتقياء وعباداً صالحين، وعالمين بالقرآن والسنة فحسب، وينكر علمهم بالغيب، ومع عقيدته هذه إلا أنه كان يحظى بتقدير المجتمع العلمي الشيعي له في تلك العصور.

ويبدو أن آل نوبخت كانوا يفكرون بهذه الطريقة أيضاً[6].

 

وقد استند المنقول عنه في نسبته القول بالنظرية المذكورة إلى كلام حكاه الصدوق(ره) عن ابن قبة في رده على شبهات أبي زيد العلوي، قال:

إن اختلاف الإمامية إنما هو من قبل كذابين دلسوا نفسهم فيهم في الوقت بعد الوقت، والزمان بعد الزمان، حتى عظم البلاء، وكان أسلافهم قوم يرجعون إلى ورع واجتهاد وسلامة ناحية، ولم يكونوا أصحاب نظر وتمييز، فكانوا إذا رأوا رجلاً مستوراً يروي خبراً أحسنوا به الظن وقبلوه، فلما كثر هذا وظهر شكوا إلى أئمتهم فأمرهم الأئمة(ع)، بأن يأخذوا بما يجمع عليه، فلم يفعلوا وجروا على عادتهم، فكان الخيانة من قبلهم لا من قبل أئمتهم، والإمام أيضاً لم يقف على كل هذه التخاليط التي رويت لأنه لا يعلم الغيب، وإنما هو عبد صالح يعلم الكتاب والسنة، ويعلم من أخبار شيعته ما يُنهى إليه[7].

 

إلا أن الكاتب منع صحة نسبة النظرية المذكورة لابن قبة، لأنه قد صرح في مواضع أخرى حكاها الصدوق(ره) في كتابه عنه بما يفيد اعتقاده بعدم بشرية الأئمة الأطهار(ع)، لأنه قائل بأنهم منصوبون من قبل الله سبحانه وتعالى، وقد نص عليهم من قبل النبي الأكرم محمد(ص)، كما أنهم معصومون عن الخطأ[8]، ففي كتاب كمال الدين: بأن الحجة من العترة لا يكون إلا جامعاً لعلم الدين معصوماً مؤتمناً على الكتاب[9].

وجاء في الكتاب المذكور حكاية رأيه في الشروط المعتبرة في الإمام، أنه لا يسهو ولا يغلط، وأن يكون عالماً ليعلم الناس ما جهلوا، وعادلاً ليحكم بالحق[10].

كما توقف أيضاً في صحة نسبة القول بالنظرية المذكورة لآل نوبخت أيضاً، لأن المتابع لكلماتهم يجد أنهم يعتقدون في الأئمة(ع) أنهم فوق مستوى البشرية[11].

 

وقفة في صحة النسبة للقائلين بالنظرية:

ويلحظ القارئ العزيز عدم صحة نسبة النظرية المذكورة للمذكورين، لما عرفت أن النظرية تقوم على أركان ثلاثة مقومة لها، وهذا يعني لزوم توفرها عند كل من يقول بها، والمنسوب لهم القول بالنظرية ليسوا كذلك، فابن الجنيد، فإنه لم ينف وجود النصب الإلهي، والنص الشرعي، وإنما تعرض لمسألة الاختلاف الحاصل في النصوص الصادرة عنهم(ع).

 

على أنه قد يمنع من ثبوت النسبة لابن الجنيد، أنه لم يصل إلينا نص كلامه(ره)، وإنما الواصل هو تعقيب المفيد(قده) في المسائل السروية، وجوابه على ما ذكره.

ومن المحتمل جداً أن يكون لكلامه معنى آخر غير ما فهمه المفيد، كما احتمل بعض الأعيان المحققين من أساطين العصر(دامت أيام بركاته) في ما فهمه الأعلام حول كلامه في مسألة القياس. ومع وجود هذا الاحتمال، يصعب الجزم بصحة النسبة.

وأوضح من ذلك ابن الغضائري(ره)، فإن كتابه قد تضمن الحديث عن حال الرواة، ولا ربط لذلك بما يعتقد في الأئمة الأطهار(ع). مضافاً إلى أنه يلزم تحديد الغلو الذي جعله ميزاناً لرفض الرواة وكان ذلك سبباً لتضعيفهم، وسوف بيان مراتبه المنهي عنها في النصوص، فأنتظر.

هذا كله بعد التسليم بثبوت نسبة كتاب الضعفاء إليه(ره)، وإلا لو بني على عدم ثبوت النسبة كما أختار ذلك بعض الأعاظم(ره)، فلن يكون لما ذكره معنى.

 

وأما بالنسبة لمشائخ قم، فإن الأمرين الذين جعلهما الكاتب المذكور مستنداً له في النسبة المذكورة ليسا وضاحين، إذ أن مقتضى التسليم بالأمر الأول، هو نفي العصمة عن النبي(ص)، مع أن الكاتب المذكور يسلم بكون النبي(ص) معصوماً، وهذا يستدعي رفع اليد عن النصوص المذكورة بنحو من الأنحاء، ما يعني أن هذا يوجب تنـزيه القميـين من البناء على ذلك، ولا أقل  كما يظهر ممن الصدوق(ره)، من أن السهو يصدر منه(ص) في مجال التطبيق، لا في مجال التبليغ، ولو سلم بذلك جدلاً، فإنه يكون مختصاً به(ص)، ولا يسري في غيره، إلا أن يكون الكاتب ملتـزماً بثبوت حق التشريع للأئمة الأطهار(ع)، ليفرق بين مورد التبليغ، ومورد التطبيق، وهذا ما لا يمكن أن يقول به الكاتب جزماً لأنه يتنافى وما يريد الوصول إليه، وعليه لا مناص من البناء على اختصاص النصوص المذكورة به(ص)، فلا تصلح دليلاً على المطلوب في إثبات نسبة النظرية المذكورة للقميـين.

 

وأما الأمر الثاني، فإن بين القميـين من صرح بأن المقصود من عدم كون علمهم لدنياً نفي القدم عنه، وأنه حادث، ويحصل من خلال الإلهام، أو بواسطة الملائكة، أو بدون واسطة، ولا كسب بشري. وهذا يعني أن الخلاف الموجود لو فرض حصوله كان في ملاحظة معنى لدني، وأنه قديم، فيأتي اشكال تعدد القدماء، أو أنه حادث، مع ملاحظة أنه ليس كسبياً ككسب بقية البشر، وهذا ما يعتقده عامة الشيعة ما عدا الكاتب المذكور، ومن وافقه. وقد صرح بهذا المعنى الكاتب في كتابه[12].

ويساعد على ما ذكرنا، أنه لم ينقل الكاتب المذكور في معرض كلامه عن مشائخ قم، ما دل على نفيهم علم الأئمة اللدني بالغيب، وإنما اعتمد على كلام شيخنا المفيد(ره) في أوائل المقالات، والذي تضمن وسم بعض القميـين بالتقصير في الاعتقاد في الأئمة الأطهار(ع)، في مفردة علمهم بالغيب، قال(ره):

 

وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصّرون تقصيراً في الدين ويُنـزلون الأئمة(ع) عن مراتبهم ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه[13].

 

ولا يخفى أن كلامه(ره) تضمن الحديث عن صنفين من الناس، والأول منهما هو المربوط بالقميـين، وقد تضمن أنهم لا ينكرون علم الأئمة الأطهار بالغيب، وأن علمهم لدني، وإنما كما ذكرنا، هم يشيرون لكونه حادثاً، وهذا ما لم يقبله شيخنا المفيد(ره)، مع بناءه على أنه ليس قديماً بقدم الله سبحانه وتعالى، وهو لا يعني أن القميـين منكرون لعلم الغيب، كما توهمه الكاتب.

 

وبالجملة، إن ثبوت نسبة النظرية المذكورة لمن ذكر لو لم تكن في غير محلها، فلا أقل من كونها ليست واضحة، وهذا يعني عدم وجود القائل بها في العصور الأولى من التشيع.

وأما نسبة ذلك لبعض أصحاب الأئمة الأطهار(ع)، كما جاء في كلمات الكاتب، فإن ذلك لا يعني التسليم بالنظرية المذكورة، وإنما مرجع ذلك لتفاوت العقول في تقبل الأمور، والتسليم بها، وهذا أمر طبيعي في الشأن البشري.

 

أدلة نظرية العلماء الأبرار:

وقد تمسك الكاتب لإثبات نظرية العلماء الأبرار بأمرين:

 

الأول: النصوص، وقد ذكر ثلاثة منها:

 

أحدها: ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) حينما استجاب لبيعة الناس بوصفه خليفة للنبي(ص) أنه قال: أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كِظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها. فإن أقصى ما يستفاد من هذا التعبير تعريف الإمام علي بن أبي طالب نفسه أنه عالم دين، وليس انساناً معصوماً، ومنصوباً من قبل الله سبحانه وتعالى.

ثانيها: ما جاء في كلام الإمام الحسين(ع) في تعريفه للإمام، حيث قال: ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب الآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله. ولا نجد في هذه الكلمة شيئاً من الأوصاف الأربعة التي وضعها المتكلمون الشيعة للإمامة والإمام، من النصب الإلهي، والنص الشرعي، والعلم بالغيب، والعصمة.

ثالثها: ما ورد عن الإمامين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والإمام الحسين(ع)، في بيانهما لفلسفة الإمامة والحكومة، وقد ذكرا أنها: إصلاح أمور الناس، والدفاع عن المظلومين، وتوفير أمنهم في مواجهة الظالمين، وإظهار معالم الدين، وإقامة الحدود الشرعية.

ولم يتضمن حديثهما(ع) ما يشير إلى أنه يعتبر في الإمامة أن تكون بالنصب، والنص الشرعي، وأنه يعتبر في الإمام أن يكون معصوماً من الخطأ، وأن يكون عالماً بالغيب.

 

مراتب الغلو:

ويظهر أن دوافع الكاتب المذكور في تبنيه لنظرية العلماء الأبرار، السعي لرفض أطروحة الغلو التي تضمنت النصوص الشريفة الصادرة عن المعصومين(ع) رفضها، واعتقاده أن الالتـزام بثبوت علم الغيب لهم(ع)، وكذا العصمة مثلاً نحو من أنحاء الغلو، وفاته أن هذا ليس من الغلو في شيء، لأنهم قد ذكروا للغلو المنهي عنه في النصوص الشريفة مراتب أربعة، ليس منها شيء مما نعتقده نحن في الأئمة الأطهار(ع)، وتلك المراتب هي:

 

الأولى: دعوى الألوهية في أشخاص المعصومين(ع)، كما صدر عن بعض الأفراد في عصر أمير المؤمنين(ع)، وكذا ما حصل من دعوى أبي الخطاب في عصر الإمام الصادق(ع) من أنه كان يقول: إن جعفر بن محمد إله، وأنا رسوله إليكم.

وقد فسرت هذه المرتبة بأحد تفسيرات:

الأول: دعوى أن الإمام هو الإله المطلق، وهذا يتجلى في الغلاة الذين كانوا معاصرين للإمام أمير المؤمنين(ع)، وكذا في أبي الخطاب وأصحابه الذين كانوا في عصر الإمام الصادق(ع).

الثاني: البناء على كونهم(ع) آلهة مع الله سبحانه وتعالى.

الثالث: إن معنى ألوهيتهم أنهم وسائط عند الله سبحانه وتعالى، وهم الذين يتصدون للخلق والرزق، فيعطون ويمنعون.

الرابع: أن معنى ألوهيتهم أن الله تعالى قد حل فيهم، وتجسد وتقمص صورهم.

وتعتبر هذه المرتبة أعلى مراتب الغلو، وهي كفر بالله سبحانه وتعالى، وخروج من الدين الإسلامي.

 

الثانية: دعوى النبوة في أشخاص المعصومين(ع)، ويفسر هذا المعنى بأحد تفسيرات:

أحدها: البناء على ثبوت منصب النبوة للأئمة الأطهار(ع)، ونفيه عن النبي الكريم محمد(ص).

ثانيها: الاعتقاد بثبوت درجة أعلى للأئمة الأطهار(ع)، أعلى من درجة النبي محمد(ص).

ثالثها: البناء على عدم الفرق بينهم وبين النبي(ص)، فإنهم أنبياء كنبوة رسول الله(ص).

ومن الواضح أن جميع التفسيرات المذكورة كفر بالله سبحانه وتعالى، ومحالفة لضروري الاسلام.

 

الثالثة: البناء على ثبوت بعض صفات الخالق تعالى في أشخاص المعصومين(ع)، بحيث أن الغالي لا ينكر ألوهية الله سبحانه، ولا نبوة النبي(ص)، إلا أنه يعتقد بوجود صفات معينة من صفات الله في الأئمة، كصفة الخالقية، أو الرازقية، أو التدبير، أو الإحياء والإماتة، وما شابه ذلك.

ولا يختلف حال هذه المرتبة عن سابقتيها في كون الاعتقاد بها موجب للكفر الخروج من الإسلام.

 

الرابعة: ادعاء التفويض من الله سبحانه وتعالى إلى الأئمة المعصومين(ع)، لأن الله تعالى لا يحيط الإدراك به، ولا يقع عليه توجه، فهناك من خلقه من قد فوض إليه تدبير شؤون العالم يتصرف فيه طبقاً لهذا التفويض، فيلزم العباد التوجه إليه ذلك المفوض إليه أمر العالم، ويطلب منه الأمور.

ومع أن هذه المرتبة أضعف المراتب في الغلو، إلا أنها ممنوعة أيضاً، لأنها مخالفة للعقيدة الاسلامية، لأن المدبر هو الله تعالى، وكل الشؤون بيده، ولم يفوض تدبير العالم إلى أحد.

والحاصل، إن النهي الوارد في النصوص الشريفة عن الغلو ناظر لهذه المراتب الأربع، وهو الذي جهد الأئمة الأطهار(ع) إلى بيان فساده، ومحاربته.

أما الاعتقاد بأن الأئمة(ع) يعلمون الغيب بتعليم من الله سبحانه لرسول الله(ص)، وتعليمه(ص) إياهم، أو لكونهم محدثين، وكذا كونهم منـزهين عن السهو والاشتباه، وأن لهم ولاية تكوينية بإذن الله تعالى، فليس ذلك من الغلو في شيء، ولا يتنافي ما ورد في القرآن الكريم والسنة المباركة، بل إن جميع هذه الأمور مستفادة منهما[14].

 

التركيز على البشرية:

وقد عمد الباحث المذكور إلى التركيز على مسألة البشرية، وكأنه يوحي للقارئ بأن الاعتقاد بوجود النصب الإلهي، والنص الشرعي، وأن علم الأئمة(ع) لدني وأنهم يعلمون الغيب، ومعصومون من الخطأ، يتنافى وبشريتهم.

وقد فاته، أن الشيعة لا يدعون في أئمتهم الألوهية، ولا النبوة، وإنما يعتقدون أنهم بشر كبقية البشر، وأن بشريتهم(ع) مثل بشرية الأنبياء(ع) التي نصت عليها الآيات القرآنية، وهي لا تتنافى والعلم بالغيب، ولا العصمة، فضلاً عن النصب الإلهي والنص الشرعي. نعم إن كونهم بشراً لا يعني أنهم بشر عاديـون، كما يظهر ذلك من قول أمير المؤمنين(ع): لا يقاس بنا أهل البيت أحد من الناس. وكذا من قوله(ع): سلوني قبل أن تفقدوني.

 

ولو قيل: إن البناء على ثبوت ما ذكرتموه للأئمة(ع) يحول ويمنع من اتخاذهم أسوة، فإن الناس لا يمكنهم التأسي بمن هم بهذه الكيفية.

قلنا: لقد نص القرآن الكريم على كون رسول الله(ص) أسوة حسنة، فقال تعالى:- (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) مع أنه لا يختلف اثنان في ثبوت هذه المقامات له(ص)، وكذا أشير في القرآن أيضاً للتأسي بخليل الرحمن(ع) في قوله تعالى:- (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين كانوا معه)[15] وثبوت هذه المقامات له من الوضوح بمكان.

 

 

 

[1] القراءة المنسية ص 46-49(بتصرف).

[2] مجموعة مصنفات الشيخ المفيد ج 7 ص 74-76.

[3] الانتصار ص 236.

[4] القراءة المنسية ص 49-59.

[5] القراءة المنسية ص 68-76(بتصرف).

[6] القراءة المنسية 59-61 حكاية عن مقدمة على فقه الشيعة ص 33 للسيد حسين مدرسي.

[7] كمال الدين وتمام النعمة ج ص

[8] القراءة المنسية ص 63-65.

[9] المصدر السابق ص 95.

[10] المصدر السابق ص 61.

[11] القراءة المنسية ص 65-66.

[12] القراءة المنسية ص 75-76.

[13] تصحيح الاعتقاد ص 136.

[14] دراسات في العروة الوثقى ص 355-357.

[15] سورة الممتحنة الآية رقم 4.