29 مارس,2024

المقصود من أهل البيت في آية التطهير(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

هذه هي النقطة الخامسة والأخيرة في حديثنا حول آية التطهير،وسيكون محورها حول المراد من البيت الذي ورد في الآية المباركة،فهل هو البيت العتيق أي الكعبة المقدسة،وجميع المسلمين الذين هم أهل القبلة أهله،أو أنه بيت رسول الله(ص)وأهله هم عشيرته وعائلته.

أو أن البيت هو بيت رسول الله(ص)وأهله كل من يمت إلى النبي(ص)بصلة أو قرابة أو نسب ممن لا يستقبح اجتماعهم تحت غطاء واحد،ويصح تواجدهم وعيشهم في نفس البيت،فيشمل هذا العنوان نساء النبي(ص)وأبنائه بالإضافة إلى أمير المؤمنين(ع).

أو يكون المراد من البيت هو بيت النبي(ص)لكن ينصرف المراد من الأهل إلى المعنى العرفي المتداول الذي يطلق على عيال المرء وأزواجه،فلا يعدو بذلك نساء النبي(ص).

أو أن يقال بوجود معنى آخر صرفت هذه العبارة إليه.

كل هذه المحتملات التي ذكرناها وردت على ألسنة المفسرين،إلا أننا لا نرى شيئاً منها ينطبق مع المعنى الواقعي لكلمة (أهل البيت)الواردة في الآية الكريمة.

إن كلمة(أهل البيت)في الآية عنوان مشير وتحكي عن حادثة معينة قد وقعت.

وبعبارة أخرى:إن كلمة البيت في الاية تشير إلى بيت من بيوت نساء النبي(ص)،والألف واللام عهدية،وأهل البيت هم الذين كانوا مجتمعين في الزمان والمكان المعينين،حين نزول الآية وفي بيت أم سلمة كما دلت على ذلك الروايات.

فنـزلت الآية في شأن ذلك الجمع تقريراً لفضلهم ومنـزلتهم وفقاً لمفادها كما تقدم بيانه،فصار ذلك الجمع يعرف بـ(أهل البيت).

وعلى هذا الفرض فإن(أهل البيت)إشارة إلى الخمسة المجتمعين في بيت أم سلمة.

وفي بداية الأمر حين نزول الآية لم تكن هذه العبارة تحمل إلا معنى الإشارة،ولكن بمرور الزمن صار لها معنى علمي حتى غدت عنواناً خاصاً للخمسة المجتمعين في ذلك البيت.

ويمكن القول:إن هذا الفرض هو الأرجح والأكثر تطابقاً مع الواقع من بين جميع الإحتمالات التي افترضها المفسرون،وها نحن نعرض مزيداً من التوضيح.

المدعى:

إن المدعى هو أن(أهل البيت)هم الخمسة أصحاب الكساء الذين كانوا مجتمعين في بيت أم سلمة،والحدث وإطلاق المصطلح هو نظير(يوم الدار)الذي يشير إلى اليوم الذي جمع فيه رسول الله(ص)عشيرته في دار أبي طالب(ع)ليعلن نبوته ودعوته،وأصبحت كلمة(يوم الدار)عنواناً خاصاً لتلك الواقعة وذلك اليوم،وكلمة الدار تشير إلى دار أبي طالب(ع)،وهكذا أصبحت عبارة(أهل البيت)تحمل وتـتضمن معنى علمياً للخمسة الذين دخلوا تحت الكساء في دار أم سلمة.

الدليل على المدعى:

1-إن الآيات التي ذكر فيها لفظ(البيت)التي سبقت آية التطهير أو لحقتها جاءت على صيغة الجمع المحلى بنون النسوة(بيوتكن)،وهذا مما يعني أن(البيت)إشارة إلى بيت معين من تلك البيوت(بيوت الزوجات)أو حجرة من تلك الحجرات،وحيث أن المراد من (بيوتكن)هو بيوت زوجات النبي(ص)فلابد من أن يكون(البيت)من ذلك النسيج أيضاً،وبدخول(ال)التعريف على أحد تلك البيوت تعين أن المراد هو بيت أم سلمة،خصوصاً وقد تظافرت واتفقت عليه وشهدت به الروايات من الفريقين أن الآية نزلت في ذلك المكان التاريخي.

وبملاحظة ما سلف بيانه وإثباته في قضية ترتيب الآيات وانتظام النصوص القرآنية،وأن ذلك من الوحي ومما أمر به النبي الأكرم(ص)وأمضاه،فإن هذا الدليل سيحتل موقعه وستـتجلى حجته.

2-إن مبادرة واندفاع أم سلمة رضوان الله عليها وحرصها الشديد على الإستفهام من النبي(ص)وسؤاله عن مدلول الآية فور نزولها وهل هي مشمولة بها أو لا؟…والجواب السلبي الذي تلقته منه(ص)عن سؤالها يدل على أنها كانت تعيش وهماً،وأن شبهة اعترتها وجعلتها تستفهم،وما لذلك الوهم وتلك الشبهة من مدخل وعلة إلا كونها انتـزعت من عبارة(أهل البيت)المجتمعين في بيتها فقد ظنت أن الخطاب شملها أيضاً.

فإن قيل:إن منشأ سؤال أم سلمة هو انتـزاعها معنى زوجات النبي(ص)من عبارة (أهل البيت)وإن استفهامها كان من هذا المنطلق.

قلت:إن هذا مدفوع بكون احتمال شمول الاية لعموم الزوجات كان منـتفياً لدى أم سلمة،إذ استفهمت عن حالها فقط،ولم تفرض بأي وجه أن تكون بقية الزوجات مشمولات أيضاً.

3-إن آية التطهير وفقاً للنصوص المعتبرة والمشهورة،ومما تسالم عليه الجميع تشمل شخص النبي الأكرم(ص)أيضاً،وحيث إن معنى عبارة(أهل البيت)وفقاً لجميع الوجوه الأخرى غير قابل للإنطباق على رسول الله(ص)،فلا مناص من الإذعان بالمعنى القائل:أنها تقصد المجتمعين في ذلك البيت المعين،أعني بيت أم سلمة.

4-لقد ذكرت عبارة(أهل البيت)في موضع آخر من القرآن الكريم،وقد استعملت في ذلك الموضع أيضاً بمعنى المجتمعين في أحد بيوت النبي إبراهيم(ع)،إذ كان إبراهيم(ع)مختلياً بزوجته سارة في الحجرة،فهبطت الملائكة المرسلة إلى لوط النبي في مهمة ما وجعلت طريقها على دار إبراهيم،لتبشرهما بمولود عزيز وهو إسحاق وبحفيد عزيز يأتيهم من إسحاق،فتذهل سارة من هذه البشارة وكيفية تحققها في زوجين بلغا سن اليأس،فتجيب الملائكة عن سؤالها وتعجبها:- (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت)[1].

ومن البديهي جداً أنه لا يمكن أن يصرف المقصود من(أهل البيت)الوارد في هذه الآية إلى أهل القبلة،أو زوجات إبراهيم(ع)أو أقربائه.

5-هناك شواهد من الأحاديث الشريفة تثبت المدعى:

منها:ما جاء في رواية أحمد بن حنبل أن أم سلمة قالت:كان النبي(ص)في بيتي وكنت أصلي في مخدعي إذ نزلت آية التطهير،فأدخلت رأسي في البيت فقلت:وأنا معكم يا رسول الله[2].

ويتضح من هذا المقطع أن البيت كان فيه مخدع،وأن أم سلمة كانت منشغلة بالعبادة فيه حين نزول الآية،فأطلت برأسها من المخدع وسألت انضمامها وشمولها بالعناية الإلهية.

وهذا يعني أن أم سلمة انتـزعت من عبارة (أهل البيت)الواردة في الآية أن المجتمعين تحت ذلك السقف حظوا بالمكرمة،فأرادت غيضاً من فيض،فأطلت برأسها وسألت النبي(ص):وأنا معكم؟…فلو لم تكن آية التطهير تشمل كل من كان في ذلك البيت،وتحت ذلك السقف ما كانت أم سلمة لتطمح وتطمع في أن تشملها الآية هي أيضاً.

إذن فكلمة(البيت)في الرواية تعد قرينة على أن المراد من (أهل البيت)في الآية هو عنوان أهل البيت المجتمعين في دار أم سلمة والمتواجدين تحت ذلك السقف.

ومنها:جاء في رواية ابن جرير أن أم سلمة قالت:وأنا جالسة على باب البيت فقلت: أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت؟[3].

لو تأملنا،لماذا كان سؤال أم سلمة هذا،هل كانت تشك في كونها إحدى زوجات النبي(ص)؟…

الجواب بالنفي،ولكن وجه الإستفهام في سؤالها يفهم من كلامها(رض)حيث قالت:وأنا جالسة على باب البيت،فقلت:يا رسول الله ألست من أهل البيت؟…تعني الساكنين والمجتمعين في تلك الدار وتحت سقف واحد.

وعلى هذا الأساس فهمت أم سلمة(رض)من كلمة(أهل البيت)هذه المجموعة المتواجدة تحت غطاء واحد،وبما أنها كانت قريـبة منهم ومجاورة لهم،استفسرت بأن الآية التي نزلت في هذه المجموعة تشملها.

خروج أم سلمة عن مورد الآية:

هذا ويستفاد من الروايتين السابقتين أن خروج أم سلمة(رض)عن مورد الآية لم يكن خروجاً تعبدياً،بل التقدير الإلهي والمشيئة الربانية اقتضت أن تكون هذه المرأة خارج الدار في وقت نـزول الآية المباركة محل البحث،وبالفعل فقد كانت المرأة في ذلك الوقت خارج الدار،أو مجاورة لها،الأمر الذي دعاها أن تبذل جميع الجهود وتتوسل بكل شيء لعلها تحظى بهذا الشرف العظيم وتدخل ضمن عداد المجتمعين تحت الكساء.

ولكن لا راد لقضاء الله،حيث لم تكن أم سلمة رغم عظمتها مؤهلة لحمل هذا الوسام الفاخر،ولذا كان الأجدر بها أن تنسحب من هذا الميدان وتـتوجه إلى الدعاء والتوسل،والشاهد على ما نقول حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال:نزلت هذه الاية على النبي(ص)وليس في البيت إلا فاطمة والحسن والحسين وعلي(ع)،(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)فقال النبي(ص):اللهم هؤلاء أهلي[4].

والحاصل،فليست هذه المرأة الصالحة السيدة أم سلمة من (أهل البيت).

تسمية جديدة:

لقد كان مفاد عبارة(أهل البيت)عند نزول الآية هو:النازلون في دار أم سلمة،المجتمعون في بيتها،ولكن بمرور الزمان وتقادم الأيام أخذت العبارة لنفسها عنواناً تاريخياً.

فالحادثة في يومها الأول،وقعت باتفاق جميع العلماء المحققين من السنة والشيعة،عندما اجتمع أربعة أشخاص بدعوة من النبي(ص)في دار زوجته الفاضلة،ولم تكن لائحة المدعوين تـتجاوز الأسماء المباركة لـ(علي وفاطمة والحسن والحسين(ع).

ولم يكن سبيل لتحديدهم وتعريفهم إلا إطلاق هذه الأسماء النورانية عليهم،ولكن مع نـزول الآية بأمر من الله تعالى،وإرادته فقد خلع على هذه الثلة المباركة أعظم فضيلة ومنقبة،وصارت الألسن تـتناقل تسميتهم الجديدة(أهل البيت)شيئاً فشيئاً حتى تعين كعنوان أساسي لهم.

لقد تحولت عبارة(أهل البيت)التي انبثقت كمعنى تاريخي لحادثة معينة إلى عنوان ولفتة مفعمة بالفخر والفضيلة،وأصبحت متعينة في النبي وصهره وأبنائه،ومن مختصات ألقابهم صلوات الله عليهم أجمعين.وما هذا وذاك إلا لأهمية الموقف والعظمة التي سجلتها آية التطهير.

إن عبارة(أهل البيت) بحد ذاتها وبصرف النظر عن مدلولها المقترن بالمناسبة،لا تحمل أية فضيلة ولا تعني أي تفوق وكمال،لكن مفاد آية التطهير المتدفقة نوراً وفضيلة هو الذي خلع الفخر والعظمة على مصطلح(أهل البيت)وبلغ به قمة تحكي معنى أكثر رقياً وسمواً،حتى تحولت هذه الكلمة علماً إلى هذه الثلة المباركة.

هذا والشيء الذي قد يجده المتتبع،أنه لم تجر كلمة أهل البيت على لسان النبي(ص)كعنوان لأسرته قبل نزول آية التطهير في نطاق ما تحريناه،نعم بعد نزولها تكرر إطلاقه(ص)هذا اللقب عند إرادته ذكر علي وفاطمة والحسن والحسين(ع).

وكأنه(ص)كان من البهجة والسرور بنـزول الاية بحيث صار يتحين الفرصة ليستعيد ذكراها ويجدد العهد بها.

وقد نقل التاريخ أنه(ص)من حين نزول آية التطهير ولمدة ستة أشهر أو أكثر،حينما كان يخرج لأداء صلاة الصبح يجعل طريقه على دار فاطمة(ع)وينادي بذلك النداء العظيم(الصلاة يا أهل البيت).

لقد كان الرسول الكريم(ص)يهدف من خلال ترديده الآية المباركة إلى تحقيق عدة أغراض:

1-أن لا يطمس هذا العنوان الذهبي والوسام الإلهي.

2-صيانة هذا العنوان من سطو الطامعين ولصوص السياسة الذين يحاولون أن يتزينوا بهذا الوسام العظيم والشرف الرفيع،الذي لم يكونا أهلاً له.

3-تعريف الناس بمن هم أهل البيت الوارد ذكرهم في الآية.

4-بيان من هم قادة الإسلام الحقيقين الذين ورد ذكرهم في الاية المباركة.

——————————————————————————–

[1] سورة هود الآية رقم 73.

[2] مسند أحمد ج 10 ح 26570.

[3] جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري ج 22 ص 7.

[4] شواهد التنـزيل ج 2 ح 648.