س: لقد تعرض القرآن الكريم لقصة الخضر(ع)، وقد جاء فيها أنه قد أقدم على قتل الغلام، لأنه سوف يرهق والديه عندما يكبر، فهل يجوز للمعصوم أن يطبق الأحكام الشرعية، استناداً إلى العلم الغيـبي؟…
ج: لقد أثير هذا التساؤل حول قصة الخضر(ع) مع نبي الله موسى(ع)، وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن تخرّج التصرفات التي صدرت من الخضر(ع) على وفق الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، ومن خلالها توجه التصرفات التي صدرت منه، فمثلاً بالنسبة للقضية الأولى، قالوا بأنها من صغريات الأهم والمهم، فقالوا بأن حفظ السفينة هو عمل أهم حتماً من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق، فدفع الأفسد بالفاسد، ويمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بالفحوى.
وأما بالنسبة للغلام، فقد أصرّ من سلك هذا الطريق على أنه كان بالغاً، مرتداً أو مفسداً، وبسبب أعماله الفعلية فإنه يجوز قتله، وأما حديث الخضر(ع) عن جرائمه المستقبلية، فإنه بذلك يريد أن يقول لنا بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية، وإنما هو سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإن قتله طبقاً للموازين الشرعية، وبسبب ما أقترفه من جرائم يكون جائزاً.
وأما الحادثة الثالثة، فلا أحد يستطيع الاعتراض على الآخرين فيما لو أرادوا أن يقوموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم، ومن دون أن يتقاضوا أجراً على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام به الخضر، وإذا كانت هذه الأعمال لا تصل إلى حد الوجوب، إلا أنه لا ريب في اعتبارها من السلوك الحسن، والصفات الإيمانية الرفيعة.
هذا ولا يخفى إمكانية المناقشة في هذا العلاج، والتوجيهات التي ذكرت فيه، حيث أنه لو قبل ما أفيد في قصة الحائط، إلا أنه في قصة الغلام ينافي ظاهر الآية، لأن المستفاد منها أن الداعي لقتل الغلام هو أعماله المستقبلية، وليست أعماله الفعلية.
وقد يناقش أيضاً فيما يخص السفينة، فهل يسمح الفقهاء بإتلاف شيء من مال الغير صوناً له من خطر أشدّ؟!!!
الثاني: هناك نظامان في هذا العالم، هما: النظام التكويني، والنظام التشريعي. وبالرغم من أن هذين النظامين متناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنهما قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.
على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى من أجل اختبار العباد بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأحبة، وفقدانهم حتى يتبين الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
من هنا نطرح السؤال التالي: هل بإمكان أي فقيه، أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص في الأموال والثمرات وفقدان الأحبة، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟…
وقد نرى الله سبحانه وتعالى، يقوم في بعض الأحيان بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر مثلاً، أو أن يصاب بهذه الأهوال، أو أن يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربه على نعمة السلامة.
فهل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب النعمة من الآخرين، أو ينـزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم، وبدعوى ابتلائهم؟…
إن هذه الأمور كثيرة للغاية، وهي تظهر بشكل عام، أن عالم الوجود، وخصوصاً خلق الإنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضع الله تعالى مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.
ولكنا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.
ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على هذين النظامين التكويني والتشريعي، لذا ليس من مانع في أن يأمر الله سبحانه مجموعة بأن تطبق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو من بعض البشر، كالخضر مثلاً، بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومن وجهة النظام التكويني، لا يوجد أي مانع من أن يبتلي الله طفلاً غير بالغ بحادثة معينة، ثم بموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، ذلك لعلم الله تعالى بأن أخطاراً كبيرة تحيط الوجود المستقبلي لهذا الطفل، كما أن وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم، يتم لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء، وغير ذلك.
ولا مانع أيضاً من أن يبتلي الله سبحانه شخصاً بمرض صعب، يقعده في الفراش، بحيث لا يمكنه الخروج من المنـزل، لعلمه تعالى بأن خروجه من البيت، لو حصل لواجهته حادثة خطيرة لا تليق به، فهو سبحانه يمنعه عنها.
وبعبارة أخرى: إن مجموعة من أوليائه تعالى وعباده مكلفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأخرى مكلفون بالظواهر، والمكلفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصة بهم، كما أن المكلفين بالظواهر لهم ضوابط وأصول خاصة بهم أيضاً.
ومما ذكرنا يتضح الجواب عن السؤال المذكور، في بيان ما صدر من الخضر(ع)، وإلى ما ذكرنا يشير تعالى على لسان الخضر:- ( وما فعلته عن أمري)، والله العالم.