أميّة النبي

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
414
0

قال تعالى:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[1]

مدخل:

عرض القرآن الكريم أدلة وبراهين متعددة على صدق دعوة النبي الأكرم محمد(ص) وحقانيتها، وقد كان واحداً من تلك الأدلة والبراهين المعروضة، الحديث حول أميته (ص)، فأشار القرآن إلى أن أحد الأمور الدالة على صدق مقالته(ص) وأنه رسول مرسل من قبل السماء كونه شخصاً أمياً، إذ لو لم يكن كذلك لكان ذلك سبباً للتشكيك في صدق مقالته ورفض دعوته، وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة، إذ يجد المتأمل فيها عرضها لموضوعين وهما:
الأول: بيان أن النبي محمد(ص) شخص أمي، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لقوله تعالى:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك).

الثاني: بيان الموجب لعدم امتلاكه هذه الصفة، أعني صفة القراءة والكتابة، فقال سبحانه:- (إذاً لارتاب المبطلون).

أمية النبي:

وإذا كان أحد الأدلة الدالة على صدق دعوة النبي(ص)، وأحد براهين إثباتها صفة الأمية التي امتلكها فهذا يستوجب البحث عن حقيقتها وبيان المقصود منها، فإن الباحثين لا يتفقون على حقيقتها، والأقوال فيها متعددة، أحدها ما أشرنا لكونه واحداً من موضوعين في الآية الشريفة، بينما يبني آخرون على أن الموضوع الأول فيها ليس ما ذكرناه، والحاصل، نحتاج أن نتعرف المقصود من هذا المفهوم، وبيان المراد منه.

معنى الأمي:

توجد عندنا أقوال ثلاثة في معنى أمية النبي(ص):
الأول: الالتـزام بعدم كونه(ص) أمياً حين البعثة الشريفة، بمعنى أنه لم يكن يقرأ ويكتب، وإنما يقصد من الأمية شيء آخر.
الثاني: الالتـزام بأنه(ص) كان قبل البعثة الشريفة يقرأ، إلا أنه لم يكن كاتباً.
الثالث: البناء على أنه(ص) لم يكن قبل البعثة الشريفة قارئاً ولا كاتباً.
ولا يذهب عليك مدى الفرق بين الأقوال الثلاثة، فإن القول الثالث ينفي عنه القراءة والكتابة، وهذا بخلافه على القولين الأول والثاني، فإنهما يشتركان في أنه(ص) كان قارئاً، وإن اختلفا في كونه كاتباً كما يثبته القول الأول، أو نفي ذلك عنه كما يقرره القول الثاني.

وعلى أي حال، فقد افترق القائلون بالقول الأول على ثلاثة مشارب وفقاً لما بني عليه من كونه(ص) قارئاً وكاتباً قبل البعثة:

أحدها: الالتـزام بكونه قارئاً وكاتباً فعلاً، وما تسميته بالأمي إلا بلحاظ نسبته إلى أم القرى وهي علم من أعلام مكة، وعليه يكون الأمي هو المكي ليس إلا كما يشير لذلك قوله تعالى:- (ولتنذر أم القرى ومن حولها).

ثانيها: إن المقصود من أميته ليست نسبته إلى أم القرى، وإنما يقصد منه عدم قراءته وكتابته، لكن ليس المنفي عنه(ص) مطلق القراءة والكتابة، وإنما المنفي عنه هو خصوص القراءة والكتابة للكتب السماوية، بحيث لم يكن قارئاً للتوراة، ولا الأنجيل، ولا للزبور، ومن ثمّ لم يكن كاتباً لشيء من تلك الكتب، ولا بلغتها، وهذا هو المنفي في الآية التي افتتحنا بها المقام، إذ المقصود من نفي قراءته للكتاب وتلاوته، وخطه بيمينه ليس نفي القراءة والكتابة عنه بقول مطلق، وإنما ينحصر ذلك في خصوص الكتب السماوية ليس إلا.

ثالثها، وهو ما يظهر من غواص بحار الأنوار، العلامة المجلسي(قده)، وحاصله: إن المنفي عنه(ص) الفعلية، بمعنى عدم المباشرة للقراءة والمتابة، وليس المنفي عنه الاستعداد والقابلية، توضيح ذلك: تارة يكون المنفي عدم قابلية الشيء لأن يكون متصفاً بصفة ما، كالجدار مثلاً، فإنه لا يتصور فيه الاتصاف بكونه زوجاً، أو كونه أباً لا الآن ولا في المستقبل، ولذا يعبر عنه في المنطق بفقد الملكة والاستعداد والقابلية. وأخرى يكون النفي لشيء عن فرد بمعنى عدم وجوده عنده الآن، لكن قد يتحصل عليه في المستقبل، كالشخص الأعزب، فإنه يمكن أن يتصف بكونه زوجاً، وبكونه أباً في المستقبل، وهذا الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب يمكن أن يتعلم فيكون قارئاً وكاتباً في المستقبل، ومعنى أمية النبي(ص)، أنه لم يكن مباشراً فعلاً للقراءة والكتابة، لكنه يملك القابلية والاستعداد لأن يكون قارئاً وكاتباً ولو في المستقبل.

ولا يخفى مدى الفرق بين المشارب الثلاثة، إذ أنه على وفق ثالثها لا يقرر كونه قارئاً ولا كاتباً بالفعل، وإنما هو مالك للقدرة والاستعداد، وهذا بخلافه على المشربين الثاني والأول، كما أن الفرق بين المشرب الثاني والأول، أنه على وفق المشرب الثاني تنحصر قراءته(ص) في خصوص اللغة العربية، بينما وفقاً للمشرب الأول، فهو يملك القدرة على القراءة والكتابة بكافة اللغات، فلاحظ.

أدلة القول الأول:

هذا وقد يتمسك القائلون بالمشرب الأول من القول الأول، وهو نفي الأمية التي هي بمعنى عدم القراءة والكتابة عنه(ص)، وإثبات أن المقصود منها نسبته إلى أم القرى، بروايتين رواهما شيخنا الصدوق(ره) في كتابيه علل الشرائع، ومعاني الأخبار:

الأولى: عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا(ع)فقلت: يا ابن رسول الله لم سمي النبي الأمي؟ فقال: ما يقول الناس؟ فقلت: يزعمون أنه سمي الأمي، لأنه لم يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول(ص)يقرأ ويكتب باثنين وسبعين، أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً، وإنما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قوله تعالى:- (لتنذر أم القرى ومن حولها)[2].

ولا يخفى أن المستفاد منها نفي الأمية عنه بمعنى عدم المعرفة للقراءة والكتابة، وبيان أن المقصود منها عبارة عن الانتساب إلى مكة المكرمة من خلال أحد أسمائها وهو أم القرى. نعم ما يلحظ أن الخبر المذكور لم يعمد إلى التفصيل في نسبة النبي(ص) لعدم معرفته(ص)للقراءة والكتابة ما بين قبل البعثة أو بعدها، بمعنى أن الخبر المذكور يشير إلى نفي معرفته(ص) بقول مطلق، فلاحظ.

الثانية: مرفوعة علي بن أسباط إلى أبي جعفر(ع)قال: قلت:إن الناس يزعمون أن رسول الله(ص)لم يكتب ولم يقرأ، فقال: كذبوا لعنهم الله أنى يكون ذلك وقال الله عز وجل:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)فكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به؟قال: قلت: فلم سمي النبي الأمي؟ قال: لأنه نسب إلى مكة، وذلك قول الله عز وجل:- (ولتنذر أم القرى ومن حولها)فأم القرى مكة فقيل أمي لذلك[3].
وهي تفيد عين ما أفادته الرواية السابقة من حيث الدلالة والمعنى، فلاحظ.

مناقشة الاستدلال بالروايتين:

لكن هذا التفسير والتوجيه لمعنى الأمي مردود، لأن النسبة إلى أم القرى كما هو مذكور في النحو تكون بالنسبة إلى الكلمة الثانية فيقال: قروي، لا أن النسبة تكون للكلمة الأولى، ليقال أمي، هذا أولاً.

ثانياً: إن الآية الواردة في سورة العنكبوت والتي جعلناها مفتتح حديثنا، ترفض هذا التفسير، كما أشرنا لذلك إجمالاً، إذ أنها تصرح بأنه(ص) لم يكن قارئاً للكتاب ولا كاتباً له من قبل أن يوحى إليه، وإلا لكان ذلك سبباً في تكذيبه ورفض دعوته، قال تعال:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون)[4].

ثالثاً: بالنسبة للروايتين، فإنهما تعانيان مشكلة من ناحية السند، إذ أن الأولى منهما تشتمل على الصوفي وهو ممن أهمله أصحاب المعاجم، ولم يتعرضوا لذكره، وأما الرواية الثانية فضعيفة السند أيضاً لكونها مرفوعة، مما يمنع عن الاستدلال بهما لثبوت الدعوى المذكورة.
وأما من ناحية الدلالة، فقد ذكرت الرواية الأولى أنه(ص)كان يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، وهذا المعنى خلاف المتواتر من حياته(ص)إذ لو كان كذلك لذاع صيته واشتهر بين الناس، ولم يخف أمره على أحد. نعم كون ما ذكر في الخبر من باب الإمكان والتعليق بمعنى أنه(ص)كان قادراً على القراءة والكتابة بذلك المقدار لو شاء وأراد، أمر حسن، لكنه(ص)لم يشأ فلم يقرأ ولم يكتب.

ومع ذلك فإن هذا التوجيه خلاف ظاهر الرواية، إذ أن المستفاد منها أن ذلك كان بنحو الفعلية، بمعنى أنه كان يقرأ ويكتب بذلك العدد فعلاً.

ثم لو سلمنا ورفعنا اليد عن التأمل الذي ذكرناه، فإننا نجد نصوصاً أخرى تثبت أنه(ص)لم يكن يكتب وهو معنى الأمي، فقد ذكر الصدوق في العلل بسند صحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع)قال: كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب[5].

وذكر(ره)خبراً آخر لكنه ضعيف[6]، عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله(ع)يقول:كان مما من الله على نبيه(ص)أنه كان أمياً لا يكتب ويقرأ الكتاب[7].
ومن المعلوم أن هذا يوجب المعارضة، وقد عرفت أن ما دل على كونه قارئاً وكاتباً ضعيف سنداً بخلاف ما تضمنه كونه قارئاً فقط، فعندها يكون التقديم له، ورفع اليد عن تلك النصوص، فتدبر.

فتحصل إلى هنا عدم صلوح المشرب الأول من هذا القول ودليله للاعتماد والقبول، فلاحظ. على أن هناك روايات أخرى نقلها شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار في كتابه البحار فمن أراد فليراجعها[8]، وقد تضمنت أنه(ص)كان أمياً قبل البعثة بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب، لكنه بعد البعثة صار يقرأ ولا يكتب. وعليه تكون هذه النصوص معارضة للنصوص الأخرى، ولقد قدم العلماء النصوص الدالة على أنه كان بعد البعثة يقرأ ويكتب على الخبرين الذين نقلناهما.

ثم إنه من المحتمل أن يكون الخبران اللذان نقلهما شيخنا الصدوق(قده)وهما يثبتان أنه(ص)كان يقرأ ويكتب بألسنة متعددة ناظرين لمرحلة ما بعد البعثة الشريفة، لا ما قبلها، ويمكننا تأكيد هذا التوجيه من خلال النصوص التي تشير إلى أنه(ص)صار قارئاً بعد البعثة الشريفة. على أن هناك قرينة واضحة جداً فيهما، وهو استشهاده(ع) بالآية الشريفة، وبيان أنه(ص) كيف يتولى التعليم مع عدم كونه قادراً على ذلك، وهذا يعني أن هذا حصل بعد البعثة الشريفة التي ستولى فيها التعليم، فتدبر.

أما القائلون بالمشرب الثاني منه، فقد تمسكوا لدعواهم بالآية الشريفة التي افتتحنا بها مقامنا، فقالوا بأنها لا تنفي عنه مطلق القراءة والكتابة، وإنما هي بصدد نفي معرفته بالقراءة والكتابة  للكتب السماوية السابقة، فهو لا يعرف قراءة التوراة، ولا قراءة الإنجيل، ولا الزبور، ومن ثمّ لا يعرف كتابة شيء منها.

ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، لأنه قد تقرر في علم الأصول، وكذا في علم اللغة أن النكرة إذا جاءت في سياق النفي فإنها تفيد العموم، وهذا ما تضمنته الآية محل البحث، فإن المنفي فيها نكرة في سياق النفي مما يعني أنه يفيد العموم، فما هو الموجب لتخصيصه بخصوص القراءة للكتب السماوية الأخرى وكتابتها، هذا أولاً.

ثانياً: إن المتبادر إلى الأذهان من لفظ الأمي متى ما أطلق هو الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة، وقد تقرر في الأصول أن التبادر علامة الحقيقة.
ثالثاً: لقد قرر في علم التفسير أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وقد جاء فيه قوله تعالى:- (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب)، وهو تفسير لمعنى الأمي بأنه لا يعلم الكتاب، فيثبت نفي القراءة عن الأمي، ومن ثمّ الكتابة بطريق أولى.

وقد يتمسك لنفي هذا القول أيضاً بما ورد عنه(ص): نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، على أساس أنه ينفي عنه(ص) الكتابة، وبالتالي يكون مخالفاً لهذا المشرب، فتأمل.
أما المشرب الثالث من هذا القول، وهو نفي مباشرته(ص) للقراءة والكتابة لا نفي قدرته عليهما، واستعداه لهما، وبرر ذلك بأن هاتين الصفتين من صفات الكمال، فكيف يفتقدهما(ص)، ونحن نعلم أنه لابد وأن يكون النبي المرسل من السماء حاوياً لجميع صفات الكمال.
وجواب هذا التقريب سهل جداً، لأن المدعى المذكور فيه يحتاج دليلاً يسنده، ليلتزم بأنه(ص) كان يملك القدرة على القراءة والكتابة لكنه لم يباشرهما حذراً من ارتياب المبطلين، فما لم يكن لهذا المشرب ما يسنده سوف يكون مجرد دعوى عهدتها على مدعيها، هذا أولاً.
ثانياً: إن القول بأن القراءة والكتابة صفتا كمال إنما هو بلحاظ كونهما وسيلة للعلم والمعرفة، لمن كان حصوله على ذلك يتوقف على هذا الأمر، وهو الإنسان العادي، لكنه لا جري في حقه(ص) وهو الذي يتلقى علمه من مصدر سماوي رباني. مضافاً إلى أميته(ص) كانت بالنسبة له كمال في الصفات ودليل على إعجازه القرآن.

أدلة القول الثاني:

وقد يستدل للقول الثاني، وهو أنه(ص) كان يقرأ قبل البعثة لكنه لا يكتب بالروايتين اللتين قدمنا ذكرهما عند مناقشة القول الأول، وهما معتبرة هشام بن سالم، ورواية الحسن بن زياد الصيقل، فإنهما قد تضمنتا أنه(ص) كان يقرأ ولا يكتب، مضافاً لمرسلة ابن أبي نصر البزنطي عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله(ع) قال: كان مما منّ الله عز وجل على رسول الله(ص) أنه كان يقرأ ولا يكتب، فلما توجه أبو سفيان إلى أحد كتب العباس إلى النبي(ص) فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة، فقرأه، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة، فلما دخلوا المدينة أخبرهم[9].

وهذه النصوص وإن كانت تامة الدلالة على ثبوت القراءة له(ص)، إلا أن الكلام في أنها هل كانت قبل البعثة الشريفة، أم أنها كانت بعدها، وبعبارة أخرى نحن أمام محتملين:
الأول: أن يحكم بوجود إطلاق لهذه النصوص خصوصاً النصين الأول، معتبر هشام وخبر الصيقل، وأنهما يفيدان ثبوت القراءة له قبل البعثة وبعدها.

الثاني: الالتـزام بأن ثبوت ذلك له(ص) مختص بما بعد البعثة الشريفة، لا ما قبلها.
لا يخفى أن البناء على المحتمل الأول، لازمه مخالفة هذين النصين للقرآن الكريم، لما عرفت فيما تقدم أن الآية الشريفة من سورة العنكبوت تنفي ثبوت القراءة والكتابة له(ص) قبل البعثة الشريفة، ولا ريب أن ما خالف كتاب ربنا لم نقله، وهو زخرف، ليضرب به عرض الجدار، كما ورد ذلك عنهم(ع). ومع سقوط المحتمل الأول، يتعين المحتمل الثاني، فيقرر أنهما ناظران لما بعد البعثة الشريفة، وعليه لن يصلحا دليلاً للقول الثاني، فتدبر.

أدلة القول الثالث:

ثم إنه بعدما انتفى القولان الأول والثاني تعين القول الثالث بمقتضى القسمة الحاصرة كما قرر في المنطق، وهذا يعني أن المقصود من أميته(ص) هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، ويشهد له الآية التي ذكرناه في البداية، وهي قوله تعالى:- (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[10].

وقد سبق منا تقريب دلالتها أثناء جوابنا على المشرب الثاني من القول الأول، ونعيد ذلك ببيان أوضح، فنقول: إن مجيء النكرة في سياق النفي يفيد انتفاء الحكم عن كل أفراد الموضوع ويعطي شمول السلب، وهنا نجد أن النفي قد دخل على النكرة وجعلها في سياقه، فيكون المراد من التلاوة المنفية، تلاوة مطلق الكتاب، كما أن المراد من الخط المنفي عنه، أي خط أو تسطير أو ترسيم لصحيفة يتصورها ذهن السامع.

وهذا هو الصحيح الذي تؤيده كلمات اللغويـين في معنى الأمي،كما يشهد له الوضع العام الذي كانت عليه الأمة التي بعث فيها النبي(ص)،مضافاً للقرآن الكريم.
ولعل هذا هو السبب في ذكر صفة الأمي في عداد الصفات والأدلة الدالة على نبوته(ص)في غير آية من القرآن الكريم، لأنه لو كان الرسول الكريم(ص)في بعض عمره تالياً للكتب، وممارساً للكتابة لساغ للسذج من الناس أن يرتابوا في رسالته وقرآنه.

أمية الرسول بعد البعثة الشريفة:

ثم إن الأمية التي كان عليها رسول الله(ص)قبل أن يبعث منقذاً للبشرية، أما بعدما أرسل لهداية الناس، فقد وقع ذلك مورداً للخلاف: فقال جماعة من المحققين من علمائنا كالشيخ المفيد(ره) أنه تمكن بإذن من الله تعالى اسمه أن يقرأ ويكتب بعدما نـزل عليه الوحي. وأيدوا كلامهم ببعض الأدلة، نشير لبعض منها، ونترك البقية اتكالاً على متابعة القارئ العزيز ذلك:

قال الشيخ المفيد(ره)في كتابه أوائل المقالات:

1-إن الله تعالى لما جعل نبيه(ص)جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منـزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل ،والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

2-إن الله تعالى جعل النبي(ص)حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه،فلابد أن يعلمه الحكم في ذلك،وقد ثبت أن أمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتـثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البينات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنها فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه، وإذا صح أن الله جل اسمه قد جعل نبيه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

3-أن النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك منافٍ لصفاته ومضاد لحكمة باعثه،فثبت أنه(ص)كان يحسن الكتابة.

4-إن الله سبحانه يقول:- (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[11]. ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال أن الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلا بدليل،لا سيما على قول المعتـزلة وأكثر أصحاب الحديث.

5-يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:- (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)، فنفى عنه إحسان الكتابة وخطه قبل النبوة خاصة، فأوجب إحسانه بذلك لها بعد البنوة، ولولا أن ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حاله(ص)في فقد العلم بالكتابة بعد النبوة كحاله قبلها، لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذ ذاك،ولا في الحال.

ثم قال بعد ذلك: وإذا كان الأمر على ما بيناه ثبت أنه(ص)كان يحسن الكتابة بعد أن نبأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه[12].

لكن ما ذكره شيخنا المفيد(قده)يمكن أن يناقش بعدة مناقشات:

أولاً: إن كون الكتابة كمالاً إنما هو للإنسان العادي الذي ينحصر طريق اكتسابه المعارف من خلالها، فلا يوجد له طريق إلى المعارف سواها. أما من لا يحتاجها، بأن كان له طريق آخر لدرك الحقائق ومعرفتها كما هو الحال بالنسبة لنبينا(ص)فلا تعد الكتابة له كمالاً،كما لا يعد فقدها منه نقصاً. كيف وقد عرف(ص)حقائق الكون ودقائقه من طريق الوحي وهو أوثق الطرق وأسدها،لا يخطئ ولا يشتبه، فلا يحتاج بعد ذلك إلى أي من الطرق العادية غير المصونة عن الاشتباه والخطأ.  بل قد يقال أن بقاء أمية النبي(ص)حتى بعد البعثة فيه نوع تحقيق للغاية التي بعث من أجلها لأن كونه كذلك يوجب تصديق الناس البسطاء به وقبولهم لدعوته. وبناء على هذا التوجيه لا معنى لما ذكره(ره)من أن الله تعالى قد جعل نبيه بحيث وصفناه من الحكم والفضل الخ…

وأما التمسك بقوله تعالى:- (ويعلمهم الكتاب والحكمة)فلا ينفع في إثبات المدعى،لأنه إذا قيل أن المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر والمتبادر إلى الذهن،فإن تلاوة آياته لا تحتاج إلى الإحاطة بالكتابة ومعرفتها،لأنه يتلقاه من خلال الوحي ثم يحفظه للناس.
أما لو قيل أن المراد من الكتاب هو الكتابة وهو وإن كان بعيداً وخلاف الظاهر، فلا يعني أنه(ص)يعلم قومه الكتابة،حيث لم يعهد ذلك منه، ولم نجد ما يشير إلى ذلك،من أنه(ص)جلس إلى أفراد وقام بتعليمهم الكتابة. نعم الوارد أنه(ص)أمر بعضهم بتعليم بعض أولاد المسلمين الكتابة مقابل فك أسره.

وأما التمسك بقوله تعالى:- (وما كنت تلوا من قبله من كتاب)فغير مقبول، لأن الغاية من ذكر القيد الوارد فيها هو إثبات أنه(ص)كان أمياً قبل نزول الوحي عليه،وهذا يساعد على صدق مقاله ودعوته فإن الأمي إذا جاء بكتاب أسكت بفصاحته فرسان البلاغة،كان شاهداً على أنه وحي إلهي[13].

هذا وتوجد وجوه أخرى تعرضها أعلامنا لإثبات أنه(ص)كان كاتباً بعد بعثته الشريفة،فلاحظ ما ذكره الشيخ المجلسي(قده)في كتابه البحار[14].
ومقابل هذا القول القول الآخر الذي يدعي أنه(ص)كان بعد البعثة الشريفة قارئاً فقط لكنه لا يحسن الكتابة. وهذا القول يمكن التمسك له ببعض الأخبار التي وردت عن طريق الأئمة(ع)التي تشير إلى أنه(ص)كان بعد البعثة الشريفة قارئاً، ولكنه لا يكتب، وقد قدمنا ذكر بعضها وأحلنا من أراد الزيادة إلى مراجعة كتاب البحار.

[1] سورة العنكبوت الآية رقم 48.
[2] علل الشرائع ب 105 ج 1 العلة التي من أجلها سمي النبي(ص) الأمي ص 151، معاني الأخبار ص 20.
[3] علل الشرائع ب 105 ج 1 العلة التي من أجلها سمي النبي(ص) الأمي ص 152.
[4] سورة العنكبوت الآية 48.
[5] علل الشرائع ج 1 ب 105 العلة التي من أجلها سمي النبي الأمي ص 153.
[6] لا يخفى أن ضعف هذا الخبر على بعض المباني الرجالية لوجود الصيقل، بينما على بعض المباني الأخرى كما يستفاد من الإمام الراحل(ره) في كتابه المكاسب المحرمة البناء على وثاقته، فليلاحظ.
[7] المصدر السابق ص 153.
[8] بحار الأنوار ج 16ص 131-135.
[9] علل الشرائع ج 1 ب 105 العلة التي من أجلها سمي النبي الأمي ح 5 ص 152-153.
[10] سورة العنكبوت الآية رقم 48.
[11] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[12] المقالات ص 111-113.
[13] مفاهيم القرآن ج 3 ص 318.
[14] بحار الأنوار ج 16 ص 136.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة