لكي يتضح صحة ما ذكرناه في البحث السابق، ويثبت خلو التشيع والشيعة من هذه التهم الملصقة بهم، وأن وجود فضائل لأهل البيت(ع) لا يثبت غلواً، نحتاج بداية إلى التعرض لهذا المفهوم، أعني مفهوم الغلو من خلال بيان معناه، وبيان حركته التأريخية، وهل أن أول ظهور له في الوسط الشيعي-بحسب الاتهام-.
تعريف الغلو:
المذكور في الكلمات أن الغلو عبارة عن: التجاوز في الحد بادعاء رتبة للمخلوق أكثر من رتبته.
ويمكننا إيضاحه، بأن كل مخلوق له قدرات محددة مثلاً، أو له طاقة معينة، أو له مستوى علمي خاص، فإعطائه شيئاً أكثر من هذا الذي يوجد لديه، وثبت عنده، يعدُّ تجاوزاً للحد، لأنه إذا كان الحد لديه مثلاً ستين في المائة، فإعطائه نسبة تسعين في المائة، أو أكثر يعدُّ تجاوزاً في الحد، وهكذا أيضاً دعوى أن هناك خالقين، أو رازقين، أو متصرفين في الكون استقلالاً غير الله سبحانه وتعالى، بحيث ينسب لشخص من الأشخاص أنه يخلق مستقلاً، أو يرزق مستقلاً، أو يحيي أو يميت مستقلاً، فإن هذا من تجاوز الحد، وادعاء رتبة للمخلوق أكثر من رتبته.
وعلى أي حال، الغلو بهذا التعريف، يفرق عن التطرف، لأن الغلو وإن كان أعلى مرتبة من مراتب الإفراط، إلا أنه أخص من التطرف، لأن التطرف عبارة عن مجاوزة الحد، والبعد عن التوسط والاعتدال، سواء كان ذلك إفراطاً أم كان تفريطاً، سواء كان غلواً أم لا.
وهذا يعني أنه لا يعتبر في تحقق مفهوم التطرف وجود ادعاء رتبة للمخلوق أكثر من رتبته، وهذا بخلاف الغلو كما عرفت.
وعليه، فالتطرف يعني إنحيازاً إلى طرفي الأمر، فيكون شاملاً للغلو، وهذا يعني أن كل غلو تطرف، ولا عكس.
الحركة التاريخية للغلو:
هذا ولو أردنا أن ندرس تاريخ ظهور هذه الظاهرة، أعني ظاهرة الغلو، لوجدنا أنها تعود إلى قبل بعثة أول الأنبياء من أولي العزم، ولهذا يشير القرآن الكريم، يقول تعالى:- (لا تذرن آلهتكم وتذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً)[1].
وقد ذكروا أن هذه أسماء لعبادٍ صالحين كانوا قبلهم، وكانوا يعظمونهم، وازداد التعظيم لهم جيلاً بعد جيلٍ، حتى بلغ الأمر أن اتخذوا لهم تماثيل بأسمائهم وصاروا يعبدونها.
وبرزت هذه الظاهرة في الديانة اليهودية، والمسيحية، وقد أشار لذلك القرآن الكريم، قال تعالى:- (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)، وقال سبحانه:-
( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم)[2]، وقال عز من قائل:- (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل)[3].
وقد بدأت هذه الظاهرة في الظهور في أيام رسول الله(ص) من خلال قيام بعضهم بتقديس شخصيته المباركة، فقد روي أن رجلاً قال له: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟…قال(ص): لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله.
وهذا الرجل الثاني، ينكر وفاته(ص) وأنه حي لم يمت، وصار يصرخ في الناس بأن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات.
ولم تتوقف حركة ظاهرة الغلو، بل توالت في ما بعد وفاة الرجل الأول وكذا الرجل الثاني والثالث، حيث بدأ معاوية بن أبي سفيان باختلاق الأحاديث وتأليف الروايات على لسان رسول الله(ص) في فضائلهم، واستمر الوضع حتى أن المسلمين إلى اليوم، يذكرون من الفضائل التي لا أثر لها من قريب أو بعيد، وكذا من الكرامات إلى الرجل الثاني، ومن أراد الإطلاع في هذا المجال، فيمكنه الرجوع للعلامة الأميني(ره) في موسوعته الغدير، فقد ذكر شطراً من ذلك.
وكذلك، استمر ظهور حركة الغلو في عصر أمير المؤمنين(ع) من خلال ادعاء بعضهم أنه إله يعبد، وقد أحرقهم(ع)، وكان ذلك في عصر كل إمام من أئمتنا(ع)، ففي عصر الإمام الباقر(ع)، وكذا في عصر الإمام الصادق(ع)، وكذا في عصر الإمام الكاظم(ع)، وعصر الإمام الرضا(ع)، وعصر الإمام الهادي(ع)، وهكذا.
وبالجملة، ما نخلص إليه بعد هذا كله، أن ظاهرة الغلو، ليست ظاهرة بدأ ظهورها في الوسط الشيعي كما يدعى، ويتهم بذلك الشيعة بين فينة وأخرى، بل هي ظاهرة كانت موجودة على مر التأريخ، وقد تبعت الأمة الإسلامية فيها الأمم السابقة حذوى القذة بالقذة والنعل بالنعل.
أقسام الغلو:
وعلى أي حال، فقد ذكر أن الغلو على قسمين:
الأول: ويعبر عنه بالغلو البسيط، أو الساذج، وهو الذي ينشأ من خلال شحن عاطفية آنية، تنـتهي بزوال العاطفة والانفعال والحب أو البغض، وهذا يعني أنه لا يهدف إلى أي ثمرة أو نتاج علمي أو عقدي.
الثاني: ويعبر عنه بالغلو الواعي، وهو عكس القسم السابق، فهو يهدف إلى نتائج علمية مؤثرة في حركة المجتمع والتأريخ.
ويمكن تقسيمه أيضاً بلحاظ آخر إلى قسمين أيضاً:
الأول: غلو اعتقادي، وهو الذي يتعلق بكليات الشريعة، ومنشأ تسميته بالإعتقادي لكونه مرتبطاً بالمسائل الإعتقادية، وعادة ما يكون مرتبطاً بالجوارح، مثل تكفير جماعة، أو تكفير أفراد، أو البراءة من مجتمع، وهكذا.
ومن نماذج هذا الغلو، ما صدر من الخوارج في حق أمير المؤمنين(ع).
الثاني: غلو جزئي، وما يكون مرتبطاً بقضية جزئية، أو بعدة قضايا من الشريعة، لكنها قضايا جزئية، لكنه يفرق عن الأول في أن هذا ليس ناتجاً من عقيدة فاسدة، بخلاف الأول، ولذا قد يغلو من يقوم الليل للعبادة، بحيث يعدّ قيامه للعبادة في الليل من الغلو العملي.
أسباب الغلو:
لا ريب في أن هناك أسباباً تؤدي إلى ظهور هذه الظاهرة وانتشارها في الأوساط الاجتماعية وبين الأفراد، فما هي تلك الأسباب التي تؤدي إلى ذلك؟…
الصراع السياسي:
الظاهر أن أقوى الأسباب التي تؤدي إلى ظهور فكرة الغلو وزيادتها في الأوساط الدينية هي القضية السياسية، بمعنى أن أي مجتمع يعيش حالة من الصراع السياسي يكون ذلك سبباً يؤدي إلى نشوب هذه الفكرة في أوساطه، وتغلغلها بين أفراده.
موقف المعصومين تجاه ظاهرة الغلو:
بعدما تعرفنا على مفهوم الغلو، وبيان أقسامه، ثم أشرنا إلى أسباب ظهور ظاهرة الغلو.
نود الآن أن نتحدث عن الموقف الذي أتخذه المعصومون من أهل البيت(ع) تجاه ظاهرة الغلو التي كانت موجودة في عصر كل واحد منهم(ع)، فكيف واجه النبي(ص) ظاهرة الغلو في عصره، وكذا كيف واجه الأمام أمير المؤمنين(ع) هذه الظاهرة، وبقية الأئمة المعصومين(ع)، فهل أنهم واجهها بقبول ورضى، أم أن موقفهم منها كان موقفاً رافضاً وحازماً.
ولا يخفى أنه متى ما عرفنا موقف أهل البيت(ع) من ظاهرة الغلو، يتأكد عندنا براءة الشيعة الإمامية من تهمة الغلو في أئمتهم(ع) ضرورة أن الشيعة الإمامية يتبعون نهج أئمتهم، ويسيرون على خطاهم، ومن البعيد جداً أن يكون موقف أهل البيت(ع) موقف الرافض لظاهرة الغلو، ويـبقى الشيعة الذين يتبعونهم يغالون فيهم، ويخالفون أوامرهم.
وعلى أي حال، فما هو موقف أهل البيت(ع) من هذه الظاهرة؟!!!
موقف أهل البيت(ع) من الغلو والغلاة:
هذا وقد أتخذ أهل البيت(ع) منهجاً مكوناً من خطوتين في الوقوف أمام هؤلاء، وأمام حركتهم الباطلة، وهاتان الخطوتان هما:
الأولى: الرد على أفكار الغلاة من خلال بيان أن ما يدعيه هؤلاء فيهم(ع)، ليس صحيحاً، وبيان العقيدة الحقة.
الثانية: اتخاذ موقف عملي وحاسم منهم، وإصدار تعليمات بهذا الأمر للشيعة.
الرد على أفكار الغلاة وبيان العقيدة الحقة:
وقد وردت في هذا المجال نصوص عديدة، تضمنت الإشارة إلى أنهم عباد مكرمون، معصومون لا يعصون الله سبحانه ما أمرهم، وأنهم لا يحيـيون ولا يميتون، ولا يقدرون آجال العباد ولا يقسمون أرزاقهم، وأن كل من نسب إليهم شيئاً من هذا فهو كذاب مفتر على الله سبحانه وتعالى، وعلى رسوله، وبالتالي هم منه براء.
وقد ذكر شيخنا المجلسي(ره) غواص بحار الأنوار في موسوعته المباركة بحار الأنوار جملة وافرة من النصوص في هذا المجال.
والمستفاد من هذه النصوص أمران أساسيان:
أولهما: بيان بطلان ما يدعيه هؤلاء، وينسبونه إلى أهل البيت(ع).
ثانيهما: بيان العقيدة الحقة، من خلال بيان حقيقة أهل البيت(ع)، وما هي منـزلتهم الحقيقية، ومكانتهم الواقعية، ولنشر إلى جملة من هذه النصوص:
منها: ما روي عن أبي عبد الله(ع) سمعته يقول: لعن الله المغيرة بن سعيد، إنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا[4].
ولا يخفى أن قوله(ع): لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، يثبت أنه لا يرضى بأن يقال فيه ما لا يدعيه هو لنفسه، وواضح أن لعنه لمن يدعي ذلك فيه دعاء منه عليه، ورفض منه لمنهجه وطريقته. بل أكثر من ذلك ما جاء في ذيل الحديث من خلال بيانه إلى شيء من دعوى الغلاة فيهم(ع) وبرائته(ع) من ذلك، فلاحظ قوله: ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا، وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.
ومنها: عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله(ع): يا أبا محمد، أبرأ ممن يزعم أنّا أرباب، قلت: برئ الله منه، فقال: أبرأ ممن يزعم أنّا أنبياء، قلت: برئ الله منه[5].
ودلالة هذا الحديث على المدعى واضحة، إذ أنه(ع) أظهر البراءة من كل من أدعى فيهم مقام الألوهية والربوبية.
ومنها: المرفوع إلى أبي عبد الله(ع) قال: جاء رجل إلى رسول الله(ص)، فقال: السلام عليك يا ربي، فقال: مالك لعنك الله، ربي وربك الله، أما والله لكنت ما علمتك لجباناً في الحرب لئيماً في السلم[6].
ومنها: عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إن قوماً يزعمون أنكم آلهة، يتلون علينا بذلك قرآناً:- ( يا أيها الرسل كلوا من الطيـبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) قال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، برئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، والله لا يجمعني وإياهم يوم القيامة إلا وهو عليهم ساخط.
قال: قلت: فما أنتم جعلت فداك؟ قال: خزّان علم الله وتراجمة وحي الله ونحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض[7].
ودلالة هذا الحديث على الأمرين واضحة، إذ بعدما أشار سدير إلى أصل الشبهة والظاهرة الموجودة من الغلو فيهم(ع) وادعاء أنهم آلهة، فأجابه(ع) بأنه منهم برئ، وأنهم مارقون من الدين، وليس دينهم دينه ودين آبائه(ع)، وأنهم يجتمعون يوم القيامة وقد سخط الله عليهم لدعواهم الباطلة. أشار(ع) إلى بيان من هم، فذكر أنهم: خزّان علم الله وتراجمة وحي الله ونحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض.
ومنها: عن عبد الله بن شريك عن أبيه، قال: بينا علي(ع) عند امرأة له من عنـزة، وهي أم عمرو إذ أتاه قنبر، فقال: إن عشرة نفر بالباب يزعمون أنك ربهم، فقال: أدخلهم، قال: فدخلوا عليه، فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: إنك ربنا وأنت الذي خلقتنا، وأنت الذي رزقتنا.
فقال: ويلكم لا تفعلوا، إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا أن يفعلوا فقال لهم: ويلكم ربي وربكم الله، ويلكم توبوا وارجعوا، فقالوا: لا نرجع عن مقالتنا أنت ربنا ترزقنا وأنت خلقتنا.
فقال: يا قنبر، إيتني بالفعلة، فخرج قنبر فأتاه بعشرة رجال مع الزبل والمرور فأمر أن يحفروا لهم في الأرض، فلما حفروا خدّاً أمر بالحطب والنار فطرح فيه حتى صار ناراً تتوقد، قال لهم: توبوا، قالوا: لا نرجع، فقذف علي بعضهم، ثم قذف بقيتهم في النار[8].
ومنها: عن ابن مسكان قال: دخل حجر بن زائدة وعامر بن جذاعة الأزدي على أبي عبد الله(ع) فقالا له: جعلنا فداك إن المفضل بن عمرو يقول: إنكم تقدّرون أرزاق العباد.
فقال: والله ما يقدّر أرزاقنا إلا الله، ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري وأبلغت إليّ الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم، فعندها طابت نفسي، لعنه الله وبرئ منه، قالا: أفنلعنه ونتبرأ منه؟ قال: نعم، فلعناه وبرئنا منه، برئ الله ورسوله منه[9].
ومنها: ما عن مرازم قال: قال لي أبو عبد الله(ع): تعرف مبشر وبشير؟-يتوهم الاسم-قال: الشعيري، فقلت: بشار؟ فقال: بشار، قلت: نعم جار لي، قال: إن اليهود قالوا ما قالوا ووحدوا الله، وإن النصارى قالوا ما قالوا ووحدوا الله، وإن بشاراً قال قولاً عظيماً، فإذا قدمت الكوفة قل له: يقول لك جعفر: يا كافر يا فاسق يا مشرك، أنا برئ منك.
قال مرازم: فلما قدمت الكوفة فوضعت متاعي وجئت إليه فدعوت الجارية، فقلت: قولي لأبي إسماعيل: هذا مرازم، فخرج إليّ فقلت له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر يا فاسق يا مشرك، أنا برئ منك، فقال لي: وقد ذكرني سيدي؟ قال: قلت: نعم ذكرك بهذا الذي قلت لك، فقال: جزاك الله خيراً وفعل بك، وأقبل يدعو لي[10].
هذا وقد أشار شيخنا المجلسي(ره) إلى مقالة بشار، إذ أنه يقول بأن علياً هو رب، وظهر بالعلوية والهاشمية وأظهر أنه عبده ورسوله بالمحمدية[11].
وبالجملة، حاصل دعوى بشار أن علياً رباً ومحمداً عبداً رسولاً منه.
هذا والروايات في هذا المجال عديدة، وكثيرة جداً يمكن لمن أراد المراجعة الرجوع إليها في المصدر الذي سبق وأشرنا إليه.
هذا ومن خلال ما ذكرناه من النصوص تتضح أيضاً الخطوة الثانية التي عمد إليها أهل البيت(ع) في مواجهة الغلاة والوقوف أمامهم باتخاذ مواقف عملية حاسمة، وإبراز ذلك للشيعة، ويتجلى هذا واضحاً في رواية أبي بصير التي تقدمت، أو في رواية مرازم التي ذكرناها، بل أيضاً في الرواية التي تضمنت دعوى مفضل أنهم(ع) يقدرون أرزاق العباد، فإن هذه النصوص لم تتضمن رفضه(ع) لمن يدعي مثل هذه الدعاوى فقط، بل أيضاً تضمنت الدعوى لشيعته بإظهار البراءة ممن يتبنى مثل هذه الأفكار، إذ من البين أن برائته من شخص تدعوا شيعته لرفض ذلك الشخص أيضاً كما لا يخفى.
نماذج في بيان العقيدة الحقة:
هذا ولكي يتضح ما ذكرناه في الخطوة الأولى، والدور الذي قام به أهل البيت(ع)، وكيفية بيانهم للعقيدة الحقة، نشير إلى جملة من المفردات التي أدعيت في أهل البيت(ع) مما يأبوه هم أنفسهم، ولا يرضوا بنسبته إليهم، وتلك الأمور هي[12]:
التأليـه:
إذ يجد المتابع للنصوص الواردة في هذا المجال أن هناك جملة من الناس قد أدعوا في أهل البيت(ع) الربوبية، أو الألوهية، ففي عهد النبي(ص) جاءه رجل، وقال: السلام عليك يا ربي[13].
وكذا هؤلاء الذين جاءوا لأمير المؤمنين(ع)، وسلموا عليه، وقالوا له: السلام عليك يا ربنا. فإن هذه النصوص تشير إلى وجود مدعي هذا الأمر فيهم(ع)، وفي المقابل نجد أنهم(ع) رفضوا هذا المبدأ، فأشاروا إلى لعن من أدعى فيهم الألوهية، والربوبية، وأعطاهم هذا المقام، وأشاروا أيضاً إلى أنهم حجج الله سبحانه كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
التفويض:
وهذه المفردة من المفردات التي تعارضت النصوص فيها، إذ وردت بعض النصوص متضمنة أنهم قد فوض إليهم أمر الخلق، وهناك جملة كبيرة من النصوص تنفي هذا المعنى، وكلا الطائفتين من النصوص معتبرتان من حيث السند، نعم هناك طائفة ثالثة تصلح للجمع والتوفيق بين هاتين الطائفتين، وسيأتي منا إن شاء الله تعالى الحديث عن هذه المفردة بصورة مفصلة مستقبلاً، فانتظر.
المهدوية:
وهذا المفهوم العقدي، قد استغله الغلاة استغلالاً كبيراً جداً، وحاولا الاستفادة منه، وتجيـيره لصالحهم، فعمدوا إلى دعوى المهدوية بين الفينة والأخرى، وكانوا يصرون على أن صاحبهم هو الغائب المنـتظر، الذي يعود فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
وقد وقف أهل البيت(ع) أمام هذه العقيدة المنحرفة، وأوضحوا زيفها أمام الملأ في غير موقف، وأشاروا إلى حقيقة الإمام المنـتظر(عج)، وأنه متى يولد، ومتى وابن من يكون.
البداء:
وهي من المفاهيم العقدية أيضاً التي عمدوا إلى الاستفادة منها وجعلها تصب في مصلحتهم وفق ما يرتأون هم، فصاورا كما كشف أمرهم وافتضح، يأولون ذلك بأن ها من البداء.
ومن الواضح أن هذا يغاير مفهوم البداء الذي وردت الإشارة له في القرآن الكريم، ونصت عليه روايات أهل البيت(ع)، ولذا عمدوا(ع) إلى بيان زيف هذا المدعى، وفضح هذه الأكذوبة.
نتيجة:
هذا ومن خلال ما قدمنا من بيان لموقف أهل البيت(ع)، وشيعتهم أيضاً الذين يتبعونهم ويقتدون بهم، يتضح أن ما ينسبه بعض المنـتمين لبعض الفرق الإسلامية، للشيعة من تهمة الغلو في أهل البيت(ع) عري عن الصحة، ضرورة أنه لاحظ جانباً وترك الجانب الآخر، فهو كمن نظر بعين واحدة، أو بعين عوراء، لأنه نظر إلى الروايات التي تضمنت وجود ظاهرة الغلو بين من كان معاصراً لهم(ع)، لكنه لم يلتفت أو تعمد إغفال النصوص التي تضمنت بيان موقفهم(ع) من هذه الظاهرة، وفي عصر كل واحد منهم، فإن ملاحظة موقفهم الذي أشرنا إليه، يجعل المنصف يقرّ بأن شيعتهم المنـتمين إليهم، لا يمكن أن يقولوا فيهم ما ليس لهم، ولا يجعلونهم فيما لم يجعله الله سبحانه وتعالى إليهم.
خاتمة:
هذا ولنشر في ختام حديثنا حول أصل الظاهرة، وقبل التعرض لبعض مفرداتها، إلى بيان الحديث الذي افتـتحنا به المقام، خصوصاً وأنه من الأحاديث التي ربما أدعي أنها تؤكد ظاهرة الغلو في الوسط الشيعي، وذلك بملاحظة أنه ربما فهم منه أنه يفيد أفضلية أمير المؤمنين(ع) على النبي محمد(ص)، وأفضلية الزهراء(روحي لها الفداء)على النبي وعلى أمير المؤمنين(ع)، وذلك لأن المستفاد من الحديث بحسب الظهور الأولي أن المصطفى الحبيب(ص) هو العلة الغائية لإيجاد الكون، وأن العلة الغائية لإيجاده(ص) هو أمير المؤمنين(ع)، والزهراء(روحي لها الفداء) هي العلة الغائية لإيجادهما.
لكن هذا المعنى بعيد، خصوصاً إذا لاحظنا تفسيراً أنيقاً ذُكر في المقام، وحاصله:
أن العلة الغائية لإيجاد الكون هو النبي محمد(ص) لكي يتولى القيام بهداية الأمة، وإخراجها من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى الهدى، لكن رسالة النبي(ص) سوف تبقى ناقصة غير تامة، لأنه بعدما يرحل الحبيب محمد(ص) من عالم الدنيا، لابد من وجود من يتولى عملية إكمال الرسالة وإتمام المهمة بعده، وهذا لن يكون إلا بوجود خليفة منصوب من قبل الله سبحانه وتعالى، ومشاراً إليه على لسان نبيه الكريم محمد(ص)، فخلق علي(ع) لأجل أن يكون مكملاً لرسالة محمد(ص)، وهذا يعني أنه لما أرسل الله سبحانه وتعالى محمداً، فصار داعياً إلى خلق علي(ع)، فيكون: ولولا علي لما خلقتك، يعني لولا أن علياً سوف يتولى عملية إكمال الرسالة التي أتيت بها من خلال تبيان أحكامها وتـثبيت تعاليمها للأمة، وتنفيذها، لما كان هناك أي داعٍ لخلقك يا محمد، لأنه لن يكون الداعي لخلقك وهو هداية الأمة متحققاً.
وهذا بنفسه أيضاً ينطبق على خلق الطاهرة فاطمة(روحي لها) ضرورة أن خلافة أمير المؤمنين(ع) تحتاج امتداداً واستمراراً، ولا يحصل هذا إلا من خلال وجود الزهراء(روحي لها الفداء).
وبعبارة أوجز، إن الحديث الشريف ليس في مقام بيان الأفضلية، وإنما هو في مقام بيان الوظيفة المناطة بكل واحد منهم(ع)، وعليه لا يشتمل على أي غلو، أو علو، أو شيء لا يستقيم مع الأطروحة الإسلامية، التي تتضمن أفضلية النبي الأكرم محمد(ص) على كافة الخلق.
——————————————————————————–
[1] سورة نوح الآية رقم 23.
[2] سورة النساء الآية رقم 171.
[3] سورة المائدة الآية رقم 77.
[4] بحار الأنوار ج 25 ص 297 ح 59 باب نفي الغلو في النبي والأئمة(ص).
[5] المصدر السابق ح 60.
[6] المصدر السابق ح 61.
[7] المصدر السابق ح 62.
[8] المصدر السابق ح 63.
[9] المصدر السابق ح 65.
[10] المصدر السابق ح 71.
[11] المصدر السابق ص 305.
[12] تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي ص 641-644.
[13] تقدمت الإشارة إلى مصدره فيما تقدم، فلاحظ.