الجزاء في القرآن

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
482
0

عندما يقرأ الإنسان القرآن الكريم يلاحظ اشتماله على الكثير من المقررات والقوانين النظامية التي تكفل الحياة السعيدة للفرد في مجتمعه المدني، وهو في هذا الجانب وافق القوانين الوضعية، وواحدة من تلك القوانين القرآنية التي تضمنـتها الآيات الشريفة قانون الجزاء.

نعم يخـتلف القرآن الكريم في عرضه مبدأ الجزاء كقانون يعتمد عليه، عن القوانين الوضعية في أن دائرة الجزاء في القوانين الوضعية أضيق منها في الأطروحة القرآنية، حيث أن القوانين الوضعية تخص الجزاء بموارد العقوبات فقط، فلا يتصور وجود جزاء عندها في غير هذا المورد، مما يعني أنها تخص الجزاء بمورد الخروج على القانون، وعدم تنفيذه والالتـزام به، فلا تشمل تطبيق القانون والتـزام الأفراد بتحقيقه خارجاً، بخلاف الأطروحة القرآنية، حيث يلاحظ المتأمل في آياته الشريفة عرضه الجزاء بصورة أوسع، بحيث يشمل موارد الطاعة، كشموله موارد المعصية.

ولعل هذا الاختصاص في القانون الوضعي هو الذي أوجب تصور الكثيرين أن مبدأ الجزاء يساوق دائماً جانب نزول العقاب والسخط الرباني على العاصين والممتنعين من الطاعة للأوامر الإلهية.

كما يمكن أن يجعل مورداً آخر يخـتلف فيه القانون الوضعي، والأطروحة القرآنية فيه، وهو مورد تطبيق الجزاء، إذ أن القوانين الوضعية ووفقاً لكونها مقررات دنيوية، سوف ينحصر تطبيق مبدأ الجزاء فيها في خصوص العالم الدنيوي، بينما لا ينحصر الجزاء القرآني الإسلامي في خصوص عالم الدنيا، بل يشمل عالم الآخر كما سيأتي.

الجزاء في القرآن الكريم:

وبالعودة للقرآن الكريم، نلاحظ أنه سبحانه وتعالى يتحدث عن الجزاء بصورة واسعة، لا تنحصر في خصوص دائرة المخالفة للتعاليم الموجهة للمكلفين، بل تشمل المجازاة والمكأفاة للممتثلين للأوامر الإلهية، وعليه يمكن القول بأن القرآن عندما تحدث عن الجزاء، قسمه لقسمين بحسب الحالة التي يكون عليها المكلف، إذ لا يخفى على أحد أن المكلفين لا ينفكون عن أحد وصفين، مؤمن، أو كافر، مطيع أو فاسق، صالح، أو طالح، وعليه سوف يكون الجزاء بناءً على ما يوصف به الفرد، فإن كان مؤمناً، كان جزاءه خيراً، وكذا لو كان مطيعاً صالحاً، بعكس ما لو كان فاسقاً، أو كافراً، أو طالحاً.

فمن القسم الأول، وهو جزاء الصالحين، نجد أنه سبحانه وتعالى تحدث عن مجازاته جملة غير قليلة منهم، فذكر سبحانه وتعالى، جزاء الصابرين، جزاء المحسنين، جزاء الشاكرين، جزاء المتقين، جزاء الصادقين، جزاء المتصدقين، جزاء الأبرار، جزاء المزكين، جزاء المستغفرين.

وكما استعرض سبحانه وتعالى مجموعة من نماذج القسم الأول، تضمنت الآيات الشريفة أيضاً الحديث حول جملة من نماذج القسم الثاني، فقد ورد في الآيات المباركة جزاء المجرمين، جزاء الظالمين، جزاء المسرفين، جزاء المستكبرين، جزاء الفاسقين، جزاء المسيئين، جزاء القاتلين، جزاء الكافرين، جزاء الطاغين، جزاء الباغين.

هذا كما يلحظ المتأمل في الآيات الشريفة أنها تعرض إلى محل الجزاء، فتشير إلى أن الجزاء بقسميه، سواء في جانب الطاعة والامتـثال، أم في جانب التمرد والمعصية، قد يكون في عالم الدنيا، وقد يكون في عالم الآخرة، وسوف نعرض ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

كما استعرضت الآيات الشريفة أمراً مهماً، وهو الإشارة إلى جملة من الجزاءات تعتبر مقررات عقلائية، قبل أن تكون تشريعات سماوية، ولذا يمكن تصنيف الآيات المباركة من حيث تضمنها للجزاء، إلى آيات تشريع، وآيات غير تشريع. ونقصد من التشريع، ما يشمل تشريع الناس مطلقاً بما في ذلك المشركون، وما شرعه الله سبحانه، فمن تشريع الناس ما جاء في قصة نبي الله يوسف(ع):- (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين)[1]، ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى:- (واستبقا الباب وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سؤءًاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم)[2]، وكذا قوله تعالى:- (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين* قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين* قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين)[3]، ومثل ذلك أيضاً ما جاء على لسان المشركين، قال عز من قائل:- (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم)[4].

وأما التشريع الإلهي فمنه قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم)[5]، وقال سبحانه:- (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون)[6]، وقوله عز من قائل:- (فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)[7].

ومن خلال استعراض آيات التشريع تتضح الآيات القرآنية المرتبطة بالجزاء، والتي لا علاقة لها بموضوع التشريع، فلاحظ.

بعد هذا العرض والإيضاح للجزاء كمبدأ قرآني، ينبغي أن نعمد إلى بيان حقيقته، والمقصود منها، حتى يتضح الأمر حوله بصورة جلية.

حقيقة الجزاء:

عرف اللغويون الجزاء بأنه المكافأة، فيقال: جزيته بما صنع، أجزيه جزاء، وجازيته مجازاة وجزاء، أي كافأته، وجزيت عنك فلاناً: كافأته، وأجزيت عنه: كافأت عنه.

والمستفاد من كلماتهم أن حقيقة الجزاء تعني المكافأة، وهي بهذا المعنى تتوافق وما جاء في القرآن الكريم، وتختلف عما جاء في القانون الوضعي، لأن المكافأة إنما تكون مترتبة على ما يصدر من المكلف من عمل، فإن كان عمله صالحاً استحق عندها المكافأة، كما أنه لو تمرد وخرج على القوانين المقررة له، استحق أيضاً المجازة[8].

ولو أردنا أن نتعرف على حقيقة الجزاء في الاصطلاح، فإننا لن نبتعد كثيراً عما جاء في كلمات اللغويـين، إن لم يتفق معهم، ذلك لأن المقصود من الجزاء في الاصطلاح عبارة عن: ما يكون من الله سبحانه وتعالى من أمر على ما يصدر من العبد من عمل.

فإذا قبل الله سبحانه عمل الإنسان جازاه وأكرمه، أما لو لم يرتض ما صدر منه من عمل، فإنه يسخط عليه ويعاقبه.

موجب الجزاء:

هذا ووفقاً لما تقدم منا في بيان حقيقة الجزاء، يمكننا أن نقرر أن الموجب لحصول الجزاء للإنسان، سواء في جانب الثواب، أم في جانب العقاب، هو ما يصدر منه من عمل، فطبقاً للعمل الصادر منه يكون جزاءه، فمتى كان عمله الصادر عملاً صالحاً، أوجب ذلك أن يستحق المكافأة والمجازاة ثواباً ونعيماً، وعلى العكس تماماً، لو كان ما صدر منه عملاً غير صالح، فمن الطبيعي أن يكون الجزاء الواصل إليه نقمة وعذاباً.

والحاصل، إن الجزاء على وفق عمل الإنسان وسعيه، وما يبذله من جهد، لا أنه يكون من خلال الأماني والآمال، وقد أشار الباري سبحانه وتعالى لهذا القانون في قوله تعالى:- (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى* ثم يجزاه الجزاء الأوفى)[9]، ومقتضى الحصر المستفاد من الآية الشريفة يؤكد ما ذكرناه من أن المدار في الجزاء على خصوص السعي والعمل، وأنه السبب الوحيد له، ولا يوجد سبب سواه، ومثل دلالة الآية الشريفة على حصر الجزاء في خصوص العمل والسعي، قوله تعالى:- (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون)، وقوله تعالى:- (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون)، وكذا قوله عز من قائل:- (إنما تجزون ما كنتم تعملون).

ويمكن استفادة هذا المعنى أيضاً من الآيات الشريفة التي تضمنت نفي أية علاقة نسبية يوم القيامة بين الناس، بحيث أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه، وليس له من معين في تلك اللحظات الحرجة إلا عمله، فلاحظ قوله تعالى:- (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون)، وقوله سبحانه:- (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير).

ولعل الداعي لإصرار القرآن الكريم على بيان أن الموجب للجزاء هو السعي والعمل، وليس الأماني والأحلام، بيان الخطأ الذي كان عليه اليهود والنصارى، ذلك أنهم كانوا يظنون أن دخول الجنة يحصل من خلال الأمنيات والأحلام، قال تعالى:- (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).

الميزان في الجزاء:

وبعدما تعرفنا على الموجب لاستحقاق الإنسان الجزاء، ينبغي أن نحيط علماً ومعرفة بالميزان الذي تتم على وفقه المجازاة والمكافأة، بمعنى ما هي الضابطة التي يكون الجزاء الإلهي للإنسان وفقها.

لقد جعل الباري سبحانه وتعالى الميزان في أن من جاء بالحسنة، فإنه يستحق الإحسان، ومن أساء، فإن مصيره يكون بالعقوبة، وفقاً لميزان العدالة في الحساب، قال تعالى:- (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

إلا أن في البين أمراً ينبغي للقارئ أن يوليه أهمية ويطيل التأمل فيه، حيث يجد القارئ للآيات الشريفة تركيز القرآن الكريم على ذكر المجازاة وفقاً لقانون العدالة ومكافأة العمل واضحاً في جانب السيئة والمعصية، دون الحسنة، بمعنى أن الباري سبحانه وتعالى يركز على ذكر ضابط المجازاة طبقاً لعمل الإنسان بلحاظ ما يصدر منه من سيئات دون ما يصدر منه من حسنات، وكأن ذلك بناءً على أنه في الحسنات سوف تكون المجازاة أكثر من مقدار العمل، وهو ما يعبر عنه بالتفضل والإحسان، ولكي يتضح ما قلناه، نستعرض بداية الآيات الشريفة التي تتحدث عن مجازاة المعصية والسيئة، قال تعالى:- (من يعمل سوءاً يجز به)، وقال عز من قائل:- (من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها)، وقال أيضاً:- (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)، فنلاحظ مقدار المساواة بين العمل الصادر من الإنسان في المعاصي، وبين الجزاء المترتب على ذلك العمل.

بينما نجد أنه سبحانه وتعالى يعمد إلى منهج آخر في التعامل مع عباده في باب الحسنات، يمكن التعبير عنه بباب الإحسان، قال تعالى:- (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)، وقال سبحانه:- (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور)، وقال عز من قائل:- (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله)، وجاء أيضاً:- (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً).

بل إن مبدأ الإحسان قد يطبق في بعض موارد السيئات، بمعنى أن الله سبحانه يغفر للعاصين، قال تعالى:- (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير)،فمغفرته سبحانه إحسان، وتعذيـبه عدل.

ويتضح ما ذكرناه بشأن الكرم الإلهي بالنسبة لجزاء المحسنين، عندما نلحظ القرآن الكريم يذكر أنه سبحانه يجازيهم بغير حساب، قال تعالى:- (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون)، وقال سبحانه:- (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب)، وقال عز من قائل:- (إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب).

بل ذكرت الآيات الشريفة أنه سبحانه يجازيهم بأحسن ما عملوا، قال تعالى:- (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب)، وقال سبحانه:- (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيـينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، وقد اختلف المفسرون في معنى(أحسن ما عملوا)، فذكرت عدة أقوال:

منها: أن المقصود بذلك أن الله سبحانه وتعالى سوف يقسم أعمال الإنسان يوم القيامة إلى قسمين، أحدها أحسن الأعمال، والآخر غيرها، والجزاء الإلهي سوف يكون منحصراً على أحسن الأعمال دون البقية.

ولا يخفى أن هذا البيان ليس بياناً للمقصود من (أحسن الأعمال)، بل هو بيان إلى انقسام الأعمال الصادرة من الإنسان، والبحث عن الأول، لا الثاني، فلاحظ.

ومنها: إن المقصود من قوله تعالى(أحسن ما عملوا)الواجبات والمستحبات، ويقابلها المباحات، فالجزاء سوف يكون على هذين، ولا جزاء على المباحات.

ولا يخفى بعد هذا المعنى أيضاً، فتدبر.

ومنها: إن الأعمال الصادرة من الإنسان في نفسها متفاوتة، فالصلاة مثلاً قد يأتي بها الإنسان مرة مع حضور قلب، وخشوع، وخضوع، وتوجه، وأخرى يؤديها امتثالاً لفعل الواجب دونما خشوع وخضوع، فضلاً عن حضور قلب.

ومن الطبيعي أن الجزاء على الأداء الأول للصلاة يخـتلف عنه الجزاء بالنسبة للأداء الثاني، فليسا على حد سواء، فالآية الشريفة تقرر أن الباري سبحانه وتطبيقاً لمبدأ الإحسان بأحسن الجزاء، يجازي عباده يوم القيامة وفقاً لأحسن ما عملوا، فيكون جزاء الإنسان على أحسن صلاة قام بأدائها مشتملة على كل ما ينبغي اشتمال الصلاة عليه.

وبكلمة، إن الله تعالى ينـتخب أفضل عمل صدر من الإنسان امتثالاً للتكليف، فيعمد إلى جعله المعيار الذي تكون المجازاة عليه حينئذٍ.

العدالة في الجزاء:

هذا وقد يتوهم البعض أنه وبناءً على ما قدمنا ذكره من العدالة في الجزاء، أن المقصود منها المساواة بين العمل والجزاء، بمعنى أن يكون الجزاء الواقع على الإنسان مساوياً ومماثلاً للعمل الصادر منه في الكمية.

وفساده بين، إذ ليس المقصود من العدالة المساواة والمماثلة بينهما في الكمية، بل المقصود الوحدة بينهما في السنخية، ويمكن تقريب ذلك من خلال ملاحظة العلاقة الحاصلة بين الحرث والحصاد، وقد أشار القرآن الكريم لهذه العلاقة من خلال تعبيره عن العمل الصادر من الإنسان بالحرث، قال تعالى:- (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه….ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب).

وقد أوضح الباري سبحانه حرث الآخرة في آية أخرى من القرآن الكريم من خلال استعراضه مصداقاً من مصاديق ذلك الحرث الذي يوضح العلاقة بين العمل والجزاء، فقال تعالى:- (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).

محل الجزاء:

ثم لا يذهب عليك أن الجزاء الذي يوقعه الباري سبحانه على عباده، سواء المطيع منهم، أم العاصي، ليس له مكان واحد، بمعنى أنه يمكن أن يكون في عالم الدنيا، كما يمكن أن يكون في عالم الآخرة، وقد عرفت في مطلع الحديث أن هذا مورد يختلف فيه مبدأ الجزاء في القرآن الكريم، عنه في القوانين الوضعية.

وهذا يوجب تعدد المصاديق التي تحقق الجزاء في كلا العالمين، فلا ينحصر الجزاء في مصداق واحد، كما هو بين.

مصاديق الجزاء:

ثم إن مقتضى تعدد محل الجزاء، فكما يكون الجزاء في الآخرة يكون في الدنيا أيضاً، يلزم من ذلك تعدد مصاديقه، وأنه قد يكون مادياً، وقد يكون معوياً،

ويعتقد الكثيرون أن الجزاء في عالم الآخرة ينحصر في خصوص جعل الصالح من أهل الجنة، وجعل الطالح من أهل النار، ويفوت عليهم أن للجزاء مصاديق متعددة، يجازي الله سبحانه عباده الصالحين والطالحين من خلالها.

وعلى أي حال، فقد أشار القرآن الكريم إلى كلا المعنيـين، المعنوي والمادي، فمن الجزاء المعنوي في عالم الآخرة إلحاق الآباء والأزواج والأبناء بالشخص الصالح، قال تعالى:- (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين).

ومن الطبيعي أن الإلحاق، إنما يكون حال كون جزاء الأب أعلى من جزاء الأبناء، أو جزاء الولد أفضل من جزاء الوالد، أو جزاء الزوج أحسن من جزاء الزوجة.

ولا ينحصر الجزاء بالإحسان إلى الذرية في خصوص عالم الآخر كما أشرت له الآية الشريفة، بل قد ينال أبناء الإنسان إحساناً جزاء لأبيهم في عالم الدنيا، قال تعالى:- (أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك)، فكان صلاح الأب سبباً لحفظ كنـز اليتيمين، وهو نحو من الجزاء الإلهي للأب في عالم الدنيا[10].

وكما أنه سبحانه يجازي الآباء بجعل أبنائهم معهم، كذلك يجازي الأبناء برفع العذاب عن آبائهم، قال تعالى:- (ونكتب ما قدموا وآثارهم)، إذ أن المقصود من ما قدموا الأعمال التي كانوا يعملونها، وأما الآثار، فهي تشير إلى ما خلفوه من ذرية صالحة وصدقات جارية، وأعمال صالحة، فوجود الذرية الصالحة يوجب جزاء الله الأب بسببها.

وكما استعرضنا نماذج للجزاء الإلهي في جانب الطاعة، سواء في عالم الدنيا، أم في عالم الآخرة، لنشر لبعض نماذج الجزاء في جانب المعصية وسوف أقصر الأمر على خصوص عالم الدنيا، قال تعالى:- (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)[11]، وقال سبحانه:- (ظهر الفساد في البحر والبحر بما كسبت أيدي الناس)[12].

ومن مصاديق الجزاء في عالم الدنيا عدم قبول العمل، قال تعالى:- (قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين)[13].

ولنختم الحديث بأن من مصاديق المجازاة للإنسان الصالح، إلحاق جملة من ذويه به، فكذلك من مصاديق مجازاة الإنسان الطالح حمله أوزار غيره معه يوم القيامة، قال تعالى:- (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون)[14]، نسأل الله سبحانه أن يجازينا يوم القيامة جزاء المؤمنين الطائعين المحسنين العابدين الشاكرين[15].

——————————————————————————–

[1] سورة يوسف الآية رقم 75.

[2] سورة يوسف الآية رقم 25؟

[3] سورة يوسف الآيات رقم 71-73.

[4] سورة الأنعام الآية رقم 139.

[5] سورة المائدة الآية رقم 94.

[6] سورة الأنعام الآية رقم 146.

[7] سورة البقرة الآية رقم 191.

[8] لا يخفى أن التعبير عن المكافأة بالنسبة للعقاب، إنما هو بلحاظ إعطاء الإنسان ما يستحق على ما صدر منه من عمل.

[9] سورة النجم الآيات رقم

[10] ويستفاد من النصوص الشريفة أن فساد الأبناء يوجب جزاء مضاعفاً على الأب، فإنه قبل أن يدخل الولد النار يدخل والده، لأن أباه لم يعمد إلى تربيته وتأديبه، فلاحظ.

[11] سورة الشورى الآية رقم 30.

[12] سورة الروم الآية رقم 41.

[13] سورة التوبة الآية رقم 53.

[14] سورة العنكبوت الآية رقم 13.

[15] من مصادر البحث المعجم في فقه لغة القرآن، مجلة التقريب.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة