19 أبريل,2024

دولة الرسول (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور)[1].

مدخل:

عندما يذكر النبي محمد(ص) تتبادر إلى الأذهان جملة من التساؤلات مرتبطة بسيرته المباركة، وتختلف هذه التساؤلات من حيث المحتوى، والوجهة التي تتضمنها، فمرة يكون السؤال حول سيرته المباركة، وبالتحديد حول حياته الشخصية التي كان يعيشها داخل أسرته، ومع زوجاته، وأبنائه، وأخرى يكون السؤال حول حياته الاجتماعية وكيف كان يتعامل مع الصحابة، وثالثة يكون السؤال متوجها للحياة السياسية له(ص) كونه القائد السياسي للأمة الإسلامية.

هذا ومن ضمن الأسئلة التي تطرح عادة، سؤال حول البعد السياسي في شخصية النبي(ص) أيضاً، وهو: هل أن النبي محمد(ص) أسس دولة أم أنه لم يؤسس ذلك؟…

ومن الواضح، أن هذا السؤال يأتي في مرتبة متأخرة عن سؤال ينبغي طرحه، وهو: هل أن وجود الدولة في حياة الإنسان أمر قضت به الحياة المعاصرة، بحيث أن هناك أموراً استجدت في حياة الإنسان دعت إلى وجود الحكومة والدولة بعدما لم تكن موجودة أصلاً، أم أن وجود الحكومة والدولة يمثل حاجة طبيعية ضرورية للإنسان الاجتماعي عبر القرون؟…

ولا يخفى أنه وفقاً للشق الأول من هذا السؤال، سوف تكون الإجابة عن سؤالنا السابق بالنفي، ضرورة أنه يقرر أن الدولة حاجة مستحدثة دعت إليها الظروف المستجدة في الحياة البشرية، وهذا بخلافه ما لو كانت إجابتنا متوافقة مع الشق الثاني من السؤال.

تعريف الدولة:

هذا ونحتاج قبل الإجابة على السؤال المذكور إلى بيان مفهوم الدولة، فنقول:

عرفت الدولة بأنها: شعب أو أمة ينظم أمرهم حكم، ويخضعهم-الحكم-جميعاً إلى أحكام قانونية واحدة لا تمايز فيها.

وعند تحليل هذا التعريف نجد أن مكوناتها الأساسية الظاهرة ثلاثة، وهو يستبطن أمراً رابعاً:

1-العنصر البشري، الممثل في الشعب أو الأمة.

2-القانون والأحكام التي تجسد السلطة على الشعب.

3-عدم التمايز في تطبيق القوانين والأحكام على الأفراد، بل كلهم بالنسبة إليها سواء.

وأما العنصر الرابع المستبطن، فهو الأرض التي يعيش عليها الشعب أو الأمة، وتطبق قوانين الدولة فيها.

وقد أختزل بعضهم التعريف الذي ذكرناه، فقال في تعريفها: الدولة: أرض مستقلة مع حكومة، لها سكان وسيادة على تلك الأرض.

الدولة ضرورة وحاجة فطرية:

بعد وضوح مفهوم الدولة، نأتي الآن للإجابة، فنقول:

ربما يتصور البعض في مقام الجواب صحة الشق الأول، فيقول أنه لا موجب لوجود الدولة والحكومة سابقاً، ويعلل ذلك بأن الدواعي الموجبة لتحققها غير حاصلة ولا متوفرة.

وقد وجد هذا التصور مؤيدين يدافعون عنه، وهم على أنحاء:

الأول: ماركس ومؤيدوه، وقد برروا رفضهم للحاجة لقيام الدولة، أنه بعد وجود المجتمع الشيوعي فلا موجب لوجودها، لأن الحاجة في وجودها تنحصر في وجود الصراع الطبقي المنـتفي بوجود الأطروحة الشيوعية.

الثاني: الراغبون في الحياة الفوضوية التي لا تحكمها قوانين أو ضوابط، وهم أصحاب السوابق، فإنهم يرون في وجود الدولة تضارباً مع مصالحهم، لوقوعهم عندها تحت طائلة المسائلة، ومن ثمّ العقاب.

الثالث: الخائفون من قيام الدولة خوفاً من استمرار عنصر الاستبداد والعنف، لأنهم لم يعهدوا من الدولة إلا ذلك، فهم يرون أن الصلاح في عدم وجودها.

الرابع: الداعون إلى الحرية بقول مطلق.

لكن هذا التصور بأنحائه الأربعة غير صحيح، لأن الدولة –كما يقرر الفلاسفة القدامى والمعاصرون-حاجة طبيعية تقضي بها الفطرة الإنسانية، بحيث يحكم على الخارج عليها، أو على نظمها متوحشاً ساقطاً، أو موجوداً يفوق الوجود الإنساني.

وقد اكتشف العقلاء-مع تفاوت انتمائتهم الدينية-هذه الحقيقة منذ العصور القديمة، إذ توصلوا لضرورتها في كل اجتماع بشري، بدءاً من المجتمع الصغير وهو الأسرة، إلى المجتمعات الكبرى، وأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان في المجتمع، وكذا حياة المجتمع نفسه من دون نظام يحدد الواجبات والحقوق والمسؤوليات، ومن دون حكومة ذات سلطة. فلاحظ كلمات أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين القدامى والمعاصرين، فإنها طافحة بما ذكرناه من أن الدولة حاجة طبيعية ملحة.

الدولة في الإسلام:

ثم إنه بعد اتفاق العقلاء على ضرورة وجود دولة وحكومة ترعى شؤون الإنسان والمجتمع البشري، لكنهم انقسموا إلى قسمين:

الأول: من يرى أن الموجب لإقامة الدولة وإنشاء النظام، ينحصر في الضرورة الملحة الناشئة عن طبيعة الاجتماع البشري، وداعيه في ذلك هو ضمان تماسك المجتمع وبقائه وسلامته، وقدرته على تحقيق التقدم.

الثاني: أن يكون الموجب لإقامة الدولة وإنشاء النظام والحكومة أمرين:

أ-الضرورة التي تفرضها الطبيعة البشرية للاجتماع.

ب-كون الإنسان يحمل رسالة إنسانية مقدسة، لا يمكن إنجازها إلا من خلال تنظيم المجتمع في دولة وإقامة حكومة تقوده لتحفظ تماسكه وسلامته وتضمن بقائه، وتحقق له أهدافه من تقدم وازدهار.

نعم يفترق أصحاب القسم الثاني من حيث توفر العنصر الثاني، إذ يرى بعضهم أنه لا يشترط أن تكون الرسالة المقدسة موجودة قبل وجود الدولة وأنها الداعي إلى إيجادها، بل يكفي أن يتوفر هذا العنصر ولو متأخراً عن الضرورة، بمعنى تكون الضرورة متحققة، وبعد قيام الدولة تتبنى رسالة حينئذٍ.

ويلمس هذا المبدأ في الدول صاحبة النظم الليبرالية من خلال اتخاذها الولايات المتحدة ودول أوربا رسالة مقدسة، كما يلمس في الدول صاحبة النظم الاشتراكية في جعل رسالتها المقدسة تتمثل في الاتحاد السوفيتي سابقاً، والصين.

ولا ينحصر هذا المبدأ في العصر الحديث، بل إن له جذوراً تاريخية سابقة، حيث نجده في الدولة الرومانية، فإنها بعد قيامها تبنت الرسالة المسيحية، ثم تخلت عنها، ثم تبنـتها مرة ثانية، وهكذا نلمسه اليوم في الدول الغربية التي تتبنى العلمانية، بعدما كانت تتبنى المسيحية.

بينما يعتقد البعض الآخر-من القسم الثاني-أن الدولة إنما تتكون على أساس تعبيرها عن رسالة مقدسة وحاملة لها، بحيث يكون وجودها معلقاً على وجودها، وخير مصداق ونموذج لهذا القسم هو الدولة الإسلامية، فالإسلام لا يدعو إلى إقامة دولة وحكومة بأي نحو كان، ولمجرد الاستجابة لضرورة الاجتماع البشري فقط، وإنما يدعو إلى إقامة دولة تحقق رسالة الإسلام الحضارية الإنسانية في المسلمين والعالم.

الرسول أول من أسس الدولة الإسلامية:

هذا وبعد وضوح الجواب عن السؤال، والوصول إلى أن الدولة حاجة طبيعية تقضي بها الفطرة الإنسانية، يأتي السؤال الثاني، وهو الأصل في حديثنا: هل كان للرسول(ص) دولة، وهل كانت هناك دولة إسلامية يوماً، أم لم يكن وإنما ستؤسس في المستقبل، وربما على يد الإمام المنـتظر(روحي لتراب حافر جواده الفداء)؟…

عندما نود أن نجيب عن هذا السؤال، نحتاج الالتفات إلى أن قيادة النبي(ص) السياسة مرت بمرحلتين:

الأولى: مرحلة مكة المكرمة.

الثانية: مرحلة المدينة المنورة.

مرحلة مكة المكرمة:

أما في هذه المرحلة، فلا يوجد لا في التشريع الإسلامي، ولا في التاريخ ما يشير إلى أنه(ص) أسس أو كانت له دولة أثناء تواجده في مكة المكرمة، ذلك لأن المسلمين لم يكونوا في تلك المرحلة مجتمعاً سياسياً، وإنما كانوا جماعة عقيدية تحكمها علاقات ذات مستويات متفاوتة، ما بين الاستغراب والتوتر والجفاء والعداء مع مجتمعها المحكوم بنظام الملأ.

مرحلة المدينة المنورة:

لكن عندما نتأمل التشريع الإسلامي أثناء مرحلة تواجده(ص) في المدينة المنورة، وكذا عندما نقرأ السيرة النبوية من خلال كتب التاريخ، نجد أنه(ص) أول من أسس الدولة الإسلامية، حيث أنه وبمجرد قدومه(ص) للمدينة المنورة قام بممارسة دور الحاكم السياسي ومارس جميع شؤونه، وهذا يشير إلى تأسيسه للدولة.

ويزداد الأمر وضوحاً عندما يقرأ الإنسان سوراً ثلاث وردت في القرآن الكريم، وهي سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة محمد، فإنه سيرى كيف يرسم القرآن الكريم خطوطاً عريضة لسياسة الدولة الإسلامية، وبيان برامجها ووظائفها، وذلك من خلال الإشارة إلى مقرراتها المالية، وأسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها، وغير ذلك.

وعلى أي حال، يمكننا أن نتعرف تأسيس النبي(ص) دولة إسلامية في المدينة المنورة من خلال الأعمال التي قام بها، وهي كالتالي:

أولاً: شكل جيشاً منظماً، وجهزه وبعث البعوث العسكرية والسرايا إلى مناظق مختلفة في الجزيرة. كما قام بقتال المشركين والروم، وأجرى عدة مناورات عسكرية مع الخصوم من أجل إرهابهم.

ثانياً: أبرم عدة اتفاقيات بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأخرى المتواجدة في المدينة المنورة والجزيرة العربية، كاليهود وغيرهم، وتعدّ هذه الاتفاقيات الدستور الأول للدولة الإسلامية.

ثالثاً: بعدما استـتب له الأمر في المدينة وما حولها وطرد اليهود وأمن جانب مكة وما حولها، قام بتوسيع نطاق دعوته، فخرج بها من الجزيرة العربية وأوصلها إلى المناطق التي لم تصل إليها، وذلك من خلال مراسلته الملوك والأمراء داعياً إياهم إلى الإسلام، والدخول تحت راية الحق، فراسل قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، وكبار قادة الشام واليمن، وغيرهم.

ومن الواضح أن هذا العمل منه(ص) هو ما يسمى في المصطلح السياسي اليوم بإيفاد الشخصيات الدبلوماسية للقيام بالمحادثات، وهذا يؤكد قيام دولة لها كيان بحيث بعثت مندوبين عنها يمثلونها.

رابعاً: نصب القضاة ، وعين الولاة، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة، فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام، والقيام بنشر الأخلاق والآداب التي تضمنها الدين الإسلامي، كما أوصاهم بتعليم القرآن الكريم، والقيام بجبابة الضرائب، من زكاة، لتمثل مورداً للإنفاق على المعوزين من الدولة.

——————————————————————————–

[1] سورة الحج الآية رقم 41.