29 مارس,2024

الدخول بالصغيرة (5)

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]الفرع الثامن: إذا مات مفضي الصغيرة قبل موتها:

فهل تبقى الدية ثابتة في ذمته، فتكون مثلها مثل بقية الديون الملزم بأدائها، أم أنه يقال بسقوطها، فلا يخرج شيء من تركته؟…وجهان:[/font]

يشهد للوجه الأول، ما عرفته من أن ثبوت الدية عليه يدور مدار حصول الإفضاء منه، فمتى تحقق ذلك، فقد لزمه أدائها، وليس الموت سبباً مانعاً من اشتغال ذمته بالأداء، خصوصاً على ما قويناه من مقالة المشهور من البناء على ثبوت الدية عليه بقول مطلق، أمسكها أم سرحها.

بل حتى على وفق مختار ابن الجنيد(قده) ومن وافقه، لا مجال للقول بعدم ثبوت الدية عليه، ذلك لأن المقتضي لثبوت الدية عليه موجود، وهو تحقق عنوان الإفضاء، والمانع من ثبوتها وهو تسريحها مفقود، ومع وجود المقتضي وفقدان المانع لا موجب لرفع اليد عن ثبوت الدية عليه حتى بعد الموت.

إلا أن بعض الأعلام(دام ظله) منع من ثبوت الدية عليه في هذا الفرض، ذلك لأن المقتضي لا يمكن تشخيصه في باب الشرعيات، لأن الأدلة لم ترد لبيانه، بل واردة في مقام بيان الحكم، وعلى هذا ينبغي ملاحظة المخصص ومدى دلالته، وما تحتمل من معنى، وقد عرفت أنه يفيد أن سقوط الدية يدور مدار إمساكها، وعدم تسريحها، أو إبقائها تحته حتى تموت، لتسقط الدية عنه، وهذان العنوان الواردان في المخصص موجودان في المقام، فيثبت سقوط الدية عنه على الأظهر[1].

أقول: بنى(دام علاه) المسألة على ما أختاره تبعاً لابن الجنيد من التفصيل في ثبوت الدية بين ما إذا أمسكها، ولو يسرحها، فلا دية عليه، وبين ما إذا سرحها فعليه الدية، وقد عرفت فيما تقدم عدم نهوض ما ذكر لذلك.

ثم إن ما ذكره(دام ظله) يـبتني على أن العلقة الزوجية بين الزوجين تنقطع بمجرد موت أحدهما، وبالتالي يقال بعدم زوجية أحدهما للآخر، فلا فرق في انتفائها بين كون السبب في انقطاعها موت الزوج أم الزوجة، وعليه متى تحقق الانقطاع، فقد تحقق موضوع عدم الدية، لأن موضوع عدم الدية انتهاء العلاقة الزوجية ما بينهما.

لكن الإنصاف عدم وضوح هذا المعنى من النص، بل المستفاد من النص أن الدية يدور ثبوتها وعدمه مدار بقائها حية وموتها، مما يعني أن المعتبر هو موتها هي لا موته، فمع أنه قد انقطعت العلاقة الزوجية بينهما، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود عليه، وفي ذمته، والله العالم.

الفرع التاسع: يجب عليه نفقتها طيلة حياتها ولو طلقها:

المشهور بين الأصحاب(رض) أنه يجب عليه أن ينفق عليها ما دامت حية حتى لو طلقها، بل حتى لو حصل وتزوجت بعدما طلقها، فإنه لا تسقط الدية عنه. وخالف في ذلك ابن الجنيد(قده)، فحكم بسقوط الدية عنه متى تحقق الطلاق بينهما، وهناك تفصيل بين القولين بنى عليه ابن فهد الحلي والصيمري وابن قطان وفخر المحققين، والشهيد الثاني، بأنه لو طلقها وجبت عليه نفقتها ما دامت بعدُ لم تعرف زوجاً غيره، لكنها لو تزوجت فلا يجب عليه الإنفاق عليها.

استدل المشهور على مدعاهم بإجماع الفرقة على ذلك كما ادعاه الشيخ(ره) في كتابه الخلاف.

لكن قد عرفت منا غير مرة حال مثل الإجماع، إما لعدم الجزم بكونه من الإجماع التعبدي الموجب للكشف عن رأي المعصوم(ع) الذي هو تمام المناط في تحقق الحجية للإجماع بناء على الإجماع الدخولي. نعم لو قيل بحجية الإجماع من خلال حساب الاحتمال، فلا ريب في أنه يمكن البناء على تحققه في المقام، إذ أن مجرد خلاف ابن الجنيد وهو وإن كان من الطبقة الأولى من الفقهاء، إلا أن النسبة الاحتمالية لخلافه تكون ضئيلة جداً فلا تكون قادحة في تحققه خارجاً، نعم يمنع من القبول به على كلا المبنيـين احتمال المدركية من خلال احتمال استناد المجمعين لصحيح الحلبي، فلاحظ.

على أن كون ناقل الإجماع هو شيخ الطائفة(قده) يعدّ بنفسه مانعاً من القبول بمثل هذا الإجماع، خصوصاً وأنه قد نقله في كتابه الخلاف، وهو الكتاب المعدّ للفقه المقارن الذي يحتمل فيه قوياً أن نقله الإجماع نحو من الإلزام للخصم ليس إلا، فتكون دعواه على وفق القاعدة كما هو مفصل في محله، فلاحظ.

وبصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فأفضاها، قال(ع): عليه الإجراء عليها ما دامت حية[2].

هذا وقد حملها الشيخ(ره) في كتابه الاستبصار على الكبيرة، من خلال الجمع بينها وبين خبري حمران وبريد المتقدمين، ذلك لأن الخبرين المذكوران قد تضمنا أنه لو أمسكها فلا شيء عليها، ومن الواضح أن العموم المنفي في الخبرين المذكورين يشمل النفقة أيضاً، فيكون مؤداهما أنه لا نفقة لها عليه أيضاً إذا أمسكها ولم يسرحها. قال(قده) بعدما نقل رواية البجلي: فأما ما رواه ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فأفضاها، قال(ع): عليه الإجراء عليها ما دامت حية.

فلا ينافي الخبر الأول، لأنّا نحمل هذا الخبر على من وطئها بعد التسع سنين فإنه لا يكون عليه الدية، وإنما يلزمه الإجراء عليها ما دامت حية، لأنها لا تصلح لرجل، ولا ينافي هذا التأويل قوله في الخبر الأول: إن شاء طلق وإن شاء أمسك، إذا كان الدخول بعد تسع سنين، لأنه قد ثبت له الخيار بين إمساكها وطلاقها ولا يجب عليه واحد منهما، وإن كان يلزمه النفقة عليها على كل حال لما قدمناه[3].

ويلاحظ عليه: بأنه لا حاجة لأن ينص(ع) على وجوب النفقة على الكبيرة إذا بقيت في حبائله، لأن ما دل على لزوم النفقة على الزوجة شامل لها، وبالتالي وإن كانت الرواية من هذه الناحية نافية لوجوب النفقة عليها، لكنه بمعونة النصوص الأخرى يستفاد لزوم النفقة منه عليها، خصوصاً وأن مورد النص ما إذا أمسكها، وبالتالي يكون لزوم النفقة عليه واضحاً.

على أنه يمكن القول بوجود قرينة في المقام مانعة من انعقاد الإطلاق في النص بحيث تكون على خلاف مدعاه، وهي وجود كلمة الدية في مطلع الحديث، إذ أنه(ع) في مقام بيان متى تجب الدية ومتى لا تجب، فذكر أنه إن كان قد أمسكها ولم يسرحها، فإنه لا دية عليه، أما لو سرحها ولم يمسكها فعليه الدية.

وبالجملة، تكون كلمة(شيء) الواردة في الجواب الثاني ناظرة إلى كلمة الدية المتقدمة في مطلع الحديث، وعليه لا ينعقد للنص عموم، فلا يتم ما أفاده(قده).

والكلام ذاته يجري أيضاً في خبر حمران فلاحظ.

وقد أورد عليه بعض الأعاظم(قده):

أولاً: إن ما ذكره(قده) من الالتـزام بوجوب النفقة عليها بعد بلوغها تسع سنين، أي كانت كبيرة، خلاف المتفق عليه بين الأصحاب، إذ أن اتفاقهم منعقد على عدم وجوب النفقة عليها، بل قد صرح هو(ره) في كتابه الخلاف بذلك، وادعى انعقاد الإجماع من الأصحاب عليه.

ثانياً: إن المعارضة التي تحتاج إلى توفيق وعلاج، هي التي يكون بين النصين نحو تخالف وتنافي، وهذا مفقود في المقام، لأن كلا النصين مثبتان، فلا وجه للتوفيق بينهما.

إن قلت: إن صحيحة الحلبي مطلقة من حيث زمان الدخول، مما يعني شموله لما إذا كان ذلك قبل بلوغها التسع، أم بعد بلوغها ذلك.

قلت: بأنه لا مانع من ثبوت الإطلاق في المقام، إلا أننا نرفع اليد عنه ونقيدها بكون الدخول قبل التسع لأحد أمرين:

أولهما: الإجماع المنعقد على عدم وجوب الإنفاق على إفضاء الكبيرة، إذ لا قائل بوجوب الإنفاق عليها إلا هو(ره) في الاستبصار.

ثانيهما: كونه معارضاً لما ورد في صحيح حمران، حيث جاء فيه: إن كان دخل بها ولها تسع سنين فلا شيء عليه، فإن وقوع النكرة في سياق النفي يفيد العموم، فيترتب على ذلك عدم وجوب شيء عليه بنحو مطلق من دية أو نفقة في إفضاء الكبيرة، مما يجعلها معارضة لصحيحة الحلبي التي تـثبت النفقة للكبيرة أيضاً.

وعندها إما أن يرجح دليل النفي، أو يحكم بتساقطهما معاً، فإن قلنا بالأول، لكونه أظهر، فهو المطلوب، وإلا كان المرجع بعد تساقطهما هو الأصل، القاضي بالبراءة والتأمين عن الوجوب[4].

واستدل للقول الثاني، بأنه قد زالت علقة الزوجية الموجبة للنفقة منه عليها، لأن النفقة تدور مدار ثبوت الزوجية، فما لم ينطبق عليها عنوان الزوجة، لا يجب عليه الإنفاق عليها.

والإنصاف أن ما أفاده(قده) على مقتضى القاعدة، لكننا نرفع اليد عنه لوجود النص الخاص الدال على أنه في مثل هذا المورد يحكم بثبوت النفقة عليه وإن طلقها، ونعني بالنص الخاص صحيح الحلبي المتقدم كما عرفت. إذ أن المستفاد منه في المقام أن لزوم النفقة عليها لا يدور مدار عنوان الزوجية، وإنما يدور مدار عنوان الإفضاء، وكأنه يكون بمثابة المقيد لما دل على مناشئ لزوم النفقة، فيفيد منشأً جديداً مؤداه أن الإفضاء موجب لنفقة على المفضاة من قبل المفضي.

اللهم إلا أن يدعى أن الإطلاق المستفاد من الصحيح قابل للتقيـيد بما دل على أن وجوب النفقة يدور مدار حصول التمكين الذي هو فرع الزوجية، وعليه يصح ما أفاده ابن الجنيد(ره)، وهو غير بعيد، فتأمل.

واستدل الشيخ الأعظم(قده) للقول الثالث بالتالي: إن مقتضى إطلاق رواية الحلبي، وإن كان هو لزوم النفقة عليه عليها حتى لو طلقها وتزوجت من رجل آخر، لأنه ورد التعبير فيها بقوله: ما دامت حية، وهو مطلق شامل لما إذا طلقها، لأنها تكون حية لم تمت، كما أنه يشمل ما إذا تزوجت، لكونها حية أيضاً، وبالتالي يحكم الإطلاق، إلا أننا نرفع اليد عنه، بالانصراف، فيقال: إن الصحيح منصرف إلى صورة عدم تزوجها، حيث أن الغالب هو عدم رغبة الأزواج فيها بعد الإفضاء، كما تدل عليه الرواية القائلة: بأنه قد أفسدها وعطلها على الأزواج.

مضافاً إلى ما دل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها، الشامل لهذه الزوجة، وليس إطلاق تلك الأدلة أدون من إطلاق هذه الرواية، فيتعارضان حيث يدل كل منهما على وجوب الإنفاق عيناً، ويترجح تلك الأدلة باعتبار موافقتها للقواعد الشرعية من كون النفقة في مقابل التمكين، وغير ذلك مما لا يخفى[5].

وحاصل ما أفاده(قده) في الاستدلال لهذا التفصيل هو:

أولاً: نتمسك بالانصراف المانع من العمل على وفق إطلاق صحيح الحلبي، ويشهد لهذا الانصراف التعليل الوارد في بعض النصوص، من أن الإفضاء يعدّ عيـباً يجعلها في معرض عن رغبة الأزواج فيها، مما يدعوها للحاجة، فتكون النفقة عليها بمثابة ما يرفعا حاجاتها.

ثانياً: لو لم يقبل ما ذكرناه من عدم حجية الإطلاق المتصور في صحيح الحلبي، أمكن القول بأنه مع التسليم به، فهو معارض بالنصوص الدالة على وجوب النفقة على الزوجة، والفرض أنها لا ينطبق عليها عنوان الزوجة بالنسبة له، لكونها قد عرفت زوجاً آخر فيجب على ذاك الزوجة نفقتها، ولا يجب عليه هو، لعدم وجود النفقة الدائر مدار تحقق الزوجية، وهو منـتفٍ في البين.

وعندها تقع المعارضة بين إطلاق صحيح الحلبي، وإطلاق ما دل على لزوم النفقة على الزوجة، وعندها سوف يقدم ما دل على أن النفقة تدور مدار الزوجية، لأنها موافقة للقواعد الشرعية من أن موجب النفقة هو التمكين، وأمثال ذلك من الدواعي لها، وهي غير متوفرة في المفضاة التي تزوجت.

وقد أورد عليه، أولاً: بأن الانصراف المذكور ممنوع، والتعليل المستشهد به لحصوله لا يصلح للمدعى، ضرورة أن التعليل المذكور جيئ به من أجل وجوب الدية، لا وجوب النفقة، أما بالنسبة للنفقة فإن الدليل الذي دلّ عليها خالٍ تماماً عما يشير إلى مثل هذا التعليل.

ثانياً: إن شرط التعارض وحدة الموضوع الوارد، كي يقع التعارض بين الحكمين، وهو غير متوفر في المقام، ذلك لأن الموضوع لوجوب النفقة في صحيح الحلبي وهو الإفضاء، يغاير الموضوع لوجوب النفقة في نصوص نفقة الزوجة وهو عنوان الزوجية، وبالتالي لا مجال للقول بحصول المعارضة بينهما.

نعم يمكن القول بوقوع المعارضة بينهما، لأن وجوب النفقة على الزوجة، بمعنى إشباعها، فإنه يمكن القول بحصول المعارضة بينهما.

إن قلت: إن مقتضى الدليلين المذكورين وجوب النفقة على كلا زوجيها؟…

قلت: نعم، هذا هو المتصور، وفي مثل هكذا فرض، أي إذا دل دليلان على وجوب شيء واحد، كان ذلك موجباً للجمع بينهما بكون الوجوب كفائياً.

ثم إنه لو سلمنا بكون المورد من صغريات التعارض، لكان ذلك يستوجب تقديم دليل وجوب النفقة عليها بسبب الإفضاء ترجيحاً له من باب الشهرة[6].

أقول: في ما أفاده(دامت أيام بركاته)مواقع للنظر:

أما ما ذكره(دام له) من منع الانصراف، فغير واضح، بل لا يـبعد صحة دعوى الشيخ الأعظم(قده)، حتى مع عدم الإشارة للتعليل المذكور، لأن العرف يفهم أن هناك ملازمة ولو في الجملة بين عنوان النفقة وعنوان الزوجية، اللهم إلا أن يكون نظره لما أشرنا له قبل قليل من أن جعل النفقة على الزوجة المفضاة، أضاف عنواناً جديداً لموارد وجوب النفقة، فتأمل.

وأما الجواب عن استشهاد الشيخ الأعظم بالنص بما أفاده(دام علاه) فغريب جداً، إذ أنه إذا كان منشأ وجوب الدية هو تعطليها على الأزواج، فمن باب أولى يكون الداعي لإجراء النفقة عليها ما دامت حية هو ذلك، وكما أن الدية لا يدور أمر وجوبها مدار بقاء عنوان تعطليها على الأزواج، بمعنى أنه يلزمه دفعها حتى لو لم يثبت التعطيل لها، فكذلك مراد الشيخ(قده)، فلاحظ.

وأما جوابه عن المعارضة، ونفيها، ففيه: أن النسبة بين الخبرين هي العموم من وجه كما لا يخفى، حيث يجتمعان فيما لو كانت مفضاة مطلقة من المفضي، وفي نفس الوقت متـزوجة من رجل آخر، فهنا يجب على كليهما النفقة عليها.

ودعوى الشيخ الأعظم(ره) أن الإطلاق الوارد في صحيح الحلبي موضوعه هو عنوان الزوجة، كما يستفاد ذلك من خلال الانصراف الوارد في مطلع كلامه(ره)، وعليه لا مجال للقول بأن موضوع النفقة في صحيح الحلبي هو عنوان الإفضاء فلا معارضة بينهما.

وأما ما أفاده في مسألة الترجيح، فهو مبني على مختاره من أن الوارد في المقبولة هو الترجيح بالشهرة الفتوائية، مع أن المحقق في محله من الأصول أن الشهرة يراد منها الشهرة الروائية، وعلى فرض كون ما أفاده صحيحاً، فإنه لم يحرز أشهرية فتوى لزوم النفقة بالإفضاء حتى بعد التزوج على فتوى كون النفقة تدور مدار وجود الزوجة في حبائل الزوج، بل لعل الثاني أوضح شهرة من الأول، فلاحظ.

الفرع العاشر: إذا مات الزوج قبل المفضاة الصغيرة:

قد عرفت فيما تقدم أن المشهور على أنه يلزم المفضي إجراء النفقة على الزوجة الصغيرة المفضاة ما دامت حية، حتى لو طلقها، فلو مات المفضي قبل موتها، فهل يسقط وجوب النفقة عنه، أم لا تسقط، وتكون كبقية الديون المترتبة عليه تدفع من تركته؟…

ذكر السيد اليزدي(قده) في العروة الوجهين، وأن المشهور منهما هو القول بالسقوط.

وهو ما أختاره الفقيه الماهر صاحب الجواهر(قده) إذ ذكر أن الظاهر سقوط النفقة عنه بموته[7].

قد يقال: إن مقتضى إطلاق صحيح الحلبي المتقدم، هو الالتـزام بالقول الثاني، حيث أنه تضمن لزوم الإجراء عليها ما دامت حية، وهو مطلق من جهة بقاء الزوج حياً وعدمه.

لكن بعض الأعاظم(قده) أشار إلى ما يمنع من انعقاد مثل هكذا إطلاق، حيث أفاد: بأن الحكم في مثل هذه المسألة يـبتني بشكل واضح على بيان المقدار المستفاد ظهوراً من لفظ الإجراء، لأن الظاهر أن ما يجب على الزوج إجرائه عليها، هو ما كان واجباً عليه قبل القيام بعملية إفضائها.

ومن المعلوم أن ما كان واجباً عليه قبل القيام بعملية إفضائها هو النفقة تدريجاً، أي يوماً بيوم، ويشهد لذلك أيضاً أنه ليس لها حق المطالبة بنفقة عمرها كله دفعة واحدة.

ولا يخفى أن النفقة التي كانت ثابتة قبل الإفضاء تسقط بمجرد موت الزوج، فلا يثبت لها بعد موته شيئاً في تركته، فلابد أن تكون النفقة الثابتة لها بعد الإفضاء كالنفقة الثابتة لها قبله، فتسقط أيضاً بموت الزوج.

وبالجملة، ليس لكلمة الإجراء أي ظهور في أكثر من ثبوت استمرارية الحكم الذي كان ثابتاً قبل الإفضاء[8].

أقول: لقائل أن يقول: بأن المستفاد من صحيح الحلبي، أن لزوم النفقة عليه لا يدور مدار عنوان الزوجية، بل يدور مدار عنوان الإفضاء، وهو ما كان يصر عليه بعض الأعاظم(قده) وبعض أعلام تلامذته(دام ظله)[9]، ومن الواضح أن هذا يقضي بكون النفقة المطلوبة نتيجة ذلك تتعلق بتركته وتكون مثلها مثل سائر الديون المترتبة عليه، لأن ما أفاده بعض الأعاظم(ره) يتنافى مع ما صدر منه سابقاً، بل يتنافى وظاهر النص، لأن الصحيح ناظر لكون النفقة بمثابة الأمر المترتب على الإفضاء وكأنه نحو تعويض لتعطليها على الأزواج.

وبالتالي قياس المقام على الزوجة الطبيعية العادية، كما هو في كلام بعض الأعاظم(قده) وبعض أعلام تلامذته، كما ترى.

وأوهن من ذلك ما جاء في كلام بعض أعلام تلامذته من أنه لو قيل بأن منشأ ثبوت النفقة هو عنوان الإفضاء، فإنه لم يقل أحد بثبوت نفقتين عليه[10]. إذ لعله من باب تداخل الأسباب الداعية للنفقة، على أن مقتضى ما تقدم منهما هو الالتـزام بوجوب نفقتين عليهما.

نعم بناءاً على ما احتملناه، وهو ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) ولو في الجملة، من كون عنوان النفقة حتى في مثل صحيح الحلبي دائر مدار بقاء عنوان الزوجية، أو عدم معرفة زوج آخر، يكون القول بسقوط النفقة عنه واضحاً كما لا يخفى.

الفرع الحادي عشر: إذا نشزت الصغيرة المفضاة:

إذا حصل ونشزت الصغيرة المفضاة، فهل يوجب ذلك سقوط نفقتها، أم أن نشوزها لا يوجب ذلك؟…

ذكر السيد اليزدي صاحب العروة(قده) أن في سقوط النفقة عنها في مثل هذه الصورة إشكال.

أقول: تارة يقال: أن ثبوت النفقة يدور مدار ثبوت التمكين، وهذا يعني أن حصول النشوز منها، مانع من ثبوت النفقة إليها، ضرورة أن ثبوتها يدور مدار توفر المقتضي وفقدان المانع، وهو مفقود في البين، إذ أن المقتضي لثبوتها عبارة عن التمكين، وهو مفقود، مما يعني ثبوت المانع، أعني النشوز، وبالتالي لا يثبت لها حينئذٍ شيء، لوجود المانع وفقدان المقتضي.

والإنصاف، أن هذا على مقتضى القاعدة، حيث أن المستفاد من أدلة ثبوت النفقة، أنها تدور مدار التمكين، وبانتفائه تنـتفي.

إلا أنه ترفع اليد عن ذلك، مع وجود دليل خاص، يشير إلى ثبوتها في بعض الموارد الخاصة، فيكون الدليل المذكور بمثابة المخصص. ونعني بالدليل صحيح الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فأفضاها، قال(ع): عليه الإجراء عليها ما دامت حية[11].

ولا يأتي هنا إشكال الشيخ(ره) في الاستبصار، من حمله النص المذكور على الكبيرة جمعاً بينه وبين خبري حمران وبريد، وقد تقدم نقل كلامه(قده) والإجابة عنه في الفرع التاسع، فلاحظ.

نعم قد يرد في البين ما يمنع من التمسك بالإطلاق المذكور في صحيح الحلبي، بأن يدعى أن ما دل من النصوص على أن النفقة تدور مدار التمكين، بمثابة المقيد لإطلاق صحيح الحلبي، وعندها لن ينعقد للنص المذكور إطلاق، وهو يقضي بالبناء على عدم ثبوت نفقة لها متى ما تحقق منها النشوز.

نعم أفاد السيد اليزدي(ره)، أن وجوب النفقة عليها لا من باب كونها زوجة، بل بسبب ما وقع عليها من التعطيل، ويشهد لذلك أنه تجب النفقة عليها حتى بعد الطلاق، ومن الواضح أن النفقة عليها بعد الطلاق ليس من باب كونها زوجة، بل من باب الحكم التعبدي.

وعلق على ما أفاده بعض الأعاظم(قده) مؤيداً له، بأن المقام ليس من موارد ثبوت النفقة بالزوجية حتى يتصور سقوطه بسقوط نفقة الزوجية نتيجة النشوز، بل المورد من باب نفقة الإفضاء، وعليه لا فرق بين كونها ناشزاً، وبين كونها غير ناشز، إذ مقتضى الدليل هو البناء على ثبوت نفقة لها بمجرد تحقق الإفضاء لها، وهو مطلق، فلا معنى لسقوطها بالنشوز[12].

أقول: ينبغي ملاحظة أن المستفاد من صحيح الحلبي في لزوم الإنفاق عليها ما دامت حية، هل هو حكم تعبدي، أو هو حكم مستفاد من مناسبات الحكم والموضوع بما يفهمه العرف، نتيجة التعليل الوارد في جملة من النصوص، من حيث كونه قد عطلها عن الأزواج.

إنما يصح ما أفيد في كلام صاحب العروة، وكلام بعض الأعاظم(قده) لو التـزمنا بالمعنى الأول، وقلنا بأن المورد من صغريات الحكم التعبدي المحض، ومقتضى ذلك هو البناء على ثبوت الحكم المذكور، حتى لو قلنا بكونها ناشزاً، لأن مقتضى الصحيح هو إجراء النفقة عليها مطلقاً حتى لو كانت ناشزاً، وهو بهذا المعنى يكون بمثابة العقوبة الصادرة من الشارع المقدس بحقه.

على أن ما ذكره بعض الأعاظم(قده) من جعل النفقة في المدار تدور مدار عنوان الإفضاء، يتنافى وما ذكره في مسألة سقوط نفقتها بموت الزوج، لأن ما يجب عليه من النفقة هو ما كان لها لو كان حياً، وهو ظاهر في أن الإجراء بسبب الزوجية، لا بسبب الإفضاء، فلاحظ.

أما لو قلنا بأن ثبوت النفقة عليها إنما هو بحسب الفهم العرفي بلحاظ مناسبات الحكم والموضوع، نتيجة تعطيلها عن الأزواج، وما شابه، فلا ريب أنه في مثل هذه الحال قد يتوقف في ثبوت النفقة لها، فلا ريب في أنه لن يثبت لها نفقة متى نشزت، على أساس أنها تعامل معاملة الزوجة، ولو تنـزيلاً.

وقد عرفت في الفرع التاسع عن الشيخ الأعظم(قده) دعوى الانصراف إلى أن الموضوع في الصحيحة، إنما موضوع النفقة في الصحية هو الزوجة، وليس الإفضاء، فبناء عليه يشكل البناء على ثبوت النفقة حتى مع تحقق النشوز.

والأنصاف، أن البناء على ثبوت إطلاق للنص، ومن ثمّ الجزم بثبوت النفقة لها حتى مع نشوزها، في غاية الإشكال، فلا يترك الاحتياط، والله العالم بحقائق الأمور.

الثاني عشر: ما إذ حصل الإفضاء بطريق غير شرعي أو بغير الدخول المتعارف:

لو زنا بصغيرة فأفضاها، فهل تـترتب الأحكام السابقة التي ذكرناها من دية وثبوت نفقة، وما شابه، أم أن الأحكام السابقة تختص بما إذا كان الإفضاء قد وقع نتيجة وجود عقد شرعي؟…

وكذا لو حصل الإفضاء لكن لا بالإيلاج، وإنما بواسطة الإصبع، أو بواسطة آلة مستخدمة من قبل الزوج، فهل تـترتب الأحكام السابقة، أم لا؟…

وكذا لو حصل وطئ، لكنه لم يكن شرعياً، ولا سفاح، بل كان وطئ شبهة، فهل تكون الأحكام السابقة ثابتة أيضاً، أم لا؟…

لا يخفى أنه إنما يتعدى من الحكم الثابت إلى غيره، فيما إذا كان للدليل المذكور إطلاق، بحيث يمكن أن يتمسك بمقتضى الإطلاق، فعندها يثبت الحكم للجميع نتيجة وجود سعة فيه مثبتة لذلك.

أو يكون الحكم المذكور على وفق القاعدة، فعندها لما كان على طبق القاعدة، يمكن إثباتها لكل ما يكون من مصاديقها.

أما لو كان الحكم على خلاف القاعدة، كما هو الموجود في مقامنا، ولم يكن للدليل الدال على ثبوت الحكم إطلاق، فلا ريب في أنه يقتصر على المقدار الذي دل عليه الدليل، ولا يتعدى منه إلى غيره، إذ أن التعدي منه إلى غيره بحاجة إلى دليل، وهو مفقود في البين كما لا يخفى.

نعم بالنسبة إلى الدية، فإنها ثابتة في الموارد الأخرى غير الإيلاج، ضرورة أن ما دل على ثبوتها يستلزم ذلك، فلاحظ.

الثالث عشر: في تقدم نفقتها على نفقة الأقارب:

إذا دخل بالصغيرة فأفضاها، وسرحها، وبنينا على ثبوت نفقتها عليه حتى لو عرفت زوجاً آخر، ودار الأمر بين الإنفاق عليها والحال هذه، وبين القيام بالنفقة على الأقارب، فمن هو المقدم، هل تقدم نفقتها على نفقة الأقارب، أم تقدم نفقة الأقارب عليها؟….

ذكر السيد اليزدي(قده) أن نفقتها مقدمة على نفقة بقية الأقارب. وعقبه بعض الأعاظم(قده) بأن المتسالم عليه بين الأصحاب هو تقدم نفقة الزوجة على الأقارب، وهو مع أنه لم يدل عليه نص خاص، إلا أنهم قد تسالموا عليه، مما يدعو إلى الالتـزام به، لأنه من صغريات الدوران بين التخيـير والتعيـين، حيث لا قائل بتقديم نفقة الأقارب عليها، فإما أن يكون مخيراً بينهما، وإما أن يتعين تقديم نفقتها على نفقتهم.

ومن المعلوم أن مقتضى القاعدة في تلك الموارد من التـزاحم، هو البناء على التعيـين، بسبب احتمال أهميته.

لكن لا يخفى أن ما ذكر مبني على أساس لحاظ الزوجية، وثبوت النفقة بناء على ثبوت علقة الزوجية، أما محط الكلام في ثبوت النفقة بالإفضاء، وليس بالزوجية، ولما كان الحكم على خلاف القاعدة، وليس في البين تسالم من الأصحاب في تقدم نفقتها على الأقارب، وكان المقام من صغريات الدوران بين التخيـير والتعيـين، ولا موجب لتقديم التعيـين على التخيـير حيث لم تحرز أهميته في المقام كما هو في حال الزوجية، فعندها يتعين التخيـير[13].

ثم أشار بعد ذلك إلى أنه ربما قيل بوجود ما يوجب تقديم نفقة المفضاة على نفقة الأقارب، بحيث يدعى الأهمية فيه على نفقتهم، فيترجح، وعندها يقدم، وموجب الأهمية والترجيح، أن نفقة المفضاة دين ثابت في الذمة، لأنه ثابت بالوضع، أما نفقة الأقارب فإنها حكم تكليفي محض.

وأجاب عنه(قده) بأن مجرد كون أحدهما تكليفياً محضاً، والآخر وضعياً، لا يوجب أهمية الوضعي على التقديم ليستدعي الأمر تقديمه عليه، ويشهد لذلك ما ذكروه في أنه لو كانت ذمة شخص مشغولة بدين، وكان يجب عليه الإنفاق على بعض أرحامه، ولم يكن يملك من المال إلا ما يفي بأحدهما، فإما أداء الدين، وإما النفقة على الأقارب، فإنه يتخير بينهما، مع أن ثبوت الدين بالوضع، ونفقة الأقارب حكم تكليفي محض، إلا أنهم لم يلتـزموا بالتقديم.

وكذلك يشهد لما ذكرناه أنه لو كانت ذمته مشغولة بنفقة فائتة للزوجة، وكان ملزماً بنفقة حاضرة للأقارب، فإنه يتخير بين تقديم أيهما شاء، مع أن ثبوت النفقة الفائتة للزوجة ثابتة بالوضع، ونفقة الأقارب حكم تكليفي محض، ومع ذلك لم يلتـزموا بالتقديم[14].

الرابع عشر: حقيقة الإفضاء:

وقع الخلاف بين الأصحاب في تحديد موضوع الإفضاء، على أقوال:

الأول: أنه عبارة عن جعل مسلكي البول والحيض واحداً، وهو قول المشهور، بل الظاهر من الشيخ الطوسي(قده) في كتابه الخلاف دعوى الإجماع عليه. قال(قده): مسألة 41: من وطأ امرأة فأفضاها-ومعنى ذلك: أنه صيّر مجرى البول ومدخل الذكر واحداً-فإن كان قبل تسع سنين لزمه نفقتها ما دامت حية، وعليه مهرها وديتها كاملة، وإن كان بعد تسع سنين لم يكن عليه شيء غير المهر-إلى أن قال- دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يخـتلفون في ذلك، وطريقة الاحتياط لبراءة الذمة تقتضيه[15].

وفي الرياض أنه المشهور، وقد تقدم نقل كلامه عند استعراض الكلمات في مطلع البحث، فلاحظ.

الثاني: أنه رفع الحاجز ما بين مدخل الذكر والغائط، وهو مختار ابن سعيد(ره)، وقد حكي عن بعض أنه أشهر القولين.

الثالث: أنه عبارة عن جعل مسلك البول والغائط واحداً، وقد حكي هذا التفسير عن صاحب كشف الرموز، وعن صاحب مجمع البحرين.

الرابع: أنه عبارة عن جعل مسلكي الحيض والغائط واحداً.

هذا والظاهر من السيد اليزدي(قده) في العروة أنه أعم مما ذكر، مما يعني اختياره قولاً خامساً يشمل جميع ما ذكر، قال: والإفضاء أعم من أن يكون باتحاد مسلكي البول والحيض، أو مسلكي الحيض والغائط، أو اتحاد الجميع. وهو ما أختاره بعض الأعاظم(قده)، وبعض الأعلام المعاصرين(حفظه الله).

هذا وقد قرب بعض الأعاظم(ره) المدعى من خلال أن لفظ الإفضاء مما لم يرد له تفسير في النصوص، وهذا ينفي ثبوت حقيقة شرعية له، فلابد من الرجوع للمعنى اللغوي، وهو في اللغة عبارة عن إيجاد الفضوة، وجعل الشيء متسعاً، كما ذكر ذلك الزمخشري.

وهو بهذا المعنى يصدق على مطلق اتحاد المسلكين، من دون تحديد لهما بمسلكي البول والحيض، أو مسلكي الحيض والغائط، أو مسلكي البول والغائط.

على أن تصور اتحاد مسلكي البول والغائط من دون اتحاد مسلك الحيض معهما مما لا يتصور خارجاً، ضرورة أنه يتوسطهما.

ويدل على ما ذكرناه التعبير بالعيب في لسان عدة نصوص، وحكمها بالضمان فيه.

ومن الواضح أن العيب شامل بإطلاقه جميع الأقسام المذكورة، كما يشهد له عدم التعرض والسؤال عن معنى الإفضاء، وعدم تعرض الإمام(ع) لتفسيره، مع وقوعه، فإنه يشير إلى كون المتفاهم منه هو معناه اللغوي العرفي[16].

وقريب من هذا التقريب والاستدلال جاء في كلام بعض المعاصرين(حفظه الله)، مع الإشارة إلى مقالة الفقيه الماهر صاحب الجواهر(ره)[17]، وسنأتي عليها.

أقول: أفاد صاحب الجواهر(قده) أن كلام الفقهاء وأهل اللغة متفق على أن إفضاء المرأة شيء خاص، وليس المراد منه مطلق الوصل، أو التوسعة أو الشق أو الخلط، حتى يقال بأن أحكامه تـترتب على تحقق أي واحد من هذه الأمور.

قال(قده): المراد بالإفضاء على ما صرح به جماعة جعل مسلكي البول والحيض واحداً، بل هو المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل قد يظهر من محكي الخلاف الإجماع عليه، خلافاً لابن سعيد، فجعله رفع الحاجز ما بين مدخل الذكر والغائط- إلى أن قال- وكيف كان، فكلام الفقهاء وأهل اللغة متفق على أن إفضاء المرأة شيء خاص، لا أن المراد به مطلق الوصل أو التوسعة أو الشق أو الخلط كي تـترتب أحكامه على كل فرد من أفراد ذلك[18].

وأجاب عنه بعض الأعلام المعاصرين(دام ظله) بأن الإفضاء ليس له حقيقة شرعية، ومعناه اللغوي شيء واحد، وما ورد في كلمات اللغويـين إنما هو من مصاديق ذلك المفهوم العام، كما هو ديدنهم[19].

ولا يخفى ما فيه، إذ أن دعوى صاحب الجواهر(ره) أن الإفضاء المراد في البين ليس مطلق المعنى اللغوي، وهو ما أشير إليه في كلام بعض الأعاظم(قده)، بل المراد منه مصداق خاص من مصاديق ذلك المعنى اللغوي، وهذا يعني عدم القبول بالمعنى المذكور في كلمات اللغويـين المحكي في كلام العلمين المذكورين(بعض الأعاظم، وبعض الأعلام)، ويشهد لهذا المعنى أنه لو أوجد في المرأة فتحة ما، لا يقال له إفضاء، مع أنه قد أوجد فسحة، أو فضوة.

ومنه يتضح النظر في كلام بعض الأعاظم(قده)، من تمسكه بما جاء عن الزمخشري في إثبات معنى الإفضاء. إذ أن المستفاد من كلام بعض اللغويـين عدم وضوح المعنى الذي ذكره الزمخشري، فقد جاء في لسان العرب: وأفضى المرأة فهي مفضاة إذا جامعها فجعل مسلكيها مسلكا واحدا كأفاضها ، وهي المفضاة من النساء[20].

فإن قوله: جعل مسلكيها مسلكاً واحداً، مجملاً، حيث يحتمل أنه مسلكي البول والحيض، كما يحتمل أنه مسلك البول والغائط، كما يحتمل أنه مسلك الحيض والغائط.

وأضعف منه تمسكه(ره) لإثبات عمومية المعنى بعدم السؤال، إذ لعل منشأه يعود لكونه من المفاهيم العرفية الواضحة في ذلك العصر، لكنه ليس كذلك اليوم بالنسبة إلينا، مما يعني وجود إجمال فيه. على أن عدم التعرض له لا يثبت الأعمية، بل هو أعم من المدعى، فلاحظ.

وكذلك التمسك في الإثبات بالتعبير بالعيب، إذ من الواضح أن عنوان العيب يصدق حتى لو قلنا بكون الإفضاء أحد العنوانين لا جميعها، خصوصاً بملاحظة كونها معطلة عن الأزواج كما جاء في بعض الكلمات.

على أن الظاهر أن التعبير في النصوص بالعيب، ملحوظ فيه الإشارة إلى الضمان، لا لبيان تحقق الإفضاء من خلال العيب، فلاحظ.

هذا وقد التـزم بعض الأساطين(قده) بمقالة المشهور التي سبقت الإشارة إليها عند الأقوال في بيان حقيقة الإفضاء، وقد جعل داعيه إلى الالتـزام بذلك هو حصول الوثوق بصحته، فيترجح على باقي الأقوال، لما حقق في مبحث الأخذ بقول اللغوي[21].

وكأنه(قده) بنى على أن مختار المشهور في تفسير الإفضاء وبيان حقيقته، هو الوارد في كلمات أهل اللغة، وبناءاً على أنه قد حقق في الأصول القبول بقول اللغوي، فيثبت المطلوب.

ولا يخفى عدم تمامية ذلك، ضرورة أن التفسير الوارد في كلام المشهور غير مستفاد من كلمات اللغويـين، إذ قد عرفت أن اللغويـين إما على جعل الإفضاء بمعنى التوسعة، والفضوة، كما هو المحكي عن الزمخشري في كلام بعض الأعاظم(قده)، أو هو مجمل كما أشرنا لذلك في كلام ابن منظور، بل حتى المحكي عن صاحب مجمع البحرين في بيان حقيقته هو جعل مسلك البول والغائط واحداً كما عرفت الإشارة إليه في تعداد الأقوال، وهو يخالف المعنى المشهور.

هذا و الحق أن يقال: إن هنا احتمالين في البداية:

الأول: أن يكون للإفضاء قدراً متيقناً، وهو إما اتحاد مسلك البول والحيض، أو اتحاد مسلك الحيض والغائط، ويشك في المقدار الزائد عن هذا المقدار، فلا ريب في مثل هذه الحالة يلتـزم بالقدر المتيقن، وتجري البراءة عن الزائد، كما هو واضح.

الثاني: أن يكون المورد لا ينطوي على قدر متيقن، وإنما هو من دوران الأمر بين المتباينين، فهو إما اتحاد مسلك البول والحيض، أو اتحاد مسلك الحيض والغائط، ولا ريب أنه في مثل هذه الحالة يلتـزم بالاحتياط.

نعم في البين ما ربما يوجب ترجيح قول المشهور، أو يعد مؤيداً له، وهو ما ورد في كلام بعض الأعلام(دام علاه) وذكره أهل الاختصاص من الأطباء، قال: إن بين مسلك الحيض ومسلك الغائط حاجز قوي وعريض لا يرفع بالوطء[22].

وبناءاً على هذا سوف يسقط احتمال كون الإفضاء اتحاد مسلك البول والغائط، لأنه قد عرفت في كلام بعض الأعاظم(قده) أن مسلك الحيض يقع بينهما، فلا مجال لأن يتحدا من دون اتحاده معهما، واتحاده مع مسلك الغائط بعيد، إن لم يكن متعذراً، لما عرفت من وجود حاجز قوي وعريض، يصعب إزالته بالجماع.

كما سيسقط احتمال كون المراد منه اتحاد مسلك الحيض والغائط لما عرفت قبل قليل، بل يسقط أيضاً ما أفاده صاحب العروة(ره) من القبول بالتعميم، فعندها يتعين القول المشهور في حقيقته، وأنه عبارة عن وحدة مسلكي البول والحيض، والله العالم.

الخامس عشر: افضاء الصغير والمجنون:

ذكر السيد اليزدي(قده) أنه لو كان المفضي صغيراً، أو مجنوناً، فمن الذي يتحمل الدية، هل هما اللذان يتحملانها، أم وليهما؟…فيه وجهان، وإن كان الوجه الثاني لا يخلو عن قوة.

هذا ولا يخفى أن منشأ الإشكال يعود لكون المستفاد من الأدلة المتعرضة لثبوت الدية ناظرة إلى نفس المفضي، إذ أن مقتضى إطلاقها في أن عليه الدية يشير إلى نفس المفضي. ومن أن هناك نصوصاً حاكمة على العمومات الدالة على ثبوت الدية على كل جان من دون فرق بين كونه صغيراً أو كبيراً، وبين كونه عاقلاً أو مجنوناً، مثل ما ورد من أن عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة[23].

ومن الواضح أن مثل هذه النصوص سوف تكون حاكمة على النصوص الدالة على ثبوت الدية على المفضي، فيخرج من تحتها الصغير والمجنون.

لكن في البين إشكالاً أشار له بعض الأساطين(قده) في أنه ربما كان منشأ توقف المصنف(ره)، فذكر أن من المحتمل عدم شمول مثل عمد الصبي خطأ تحمله العاقلة لمثل المقام، بل هو يختص بما إذا كان المورد مما يتضمن العمد والخطأ ودل الدليل على أن هناك حالين عمد وخطأ.

أما لو كان الدليل دالاً على الأعم أي الجامع، فلا يكون مجال للتمسك به، ومقامنا من قبيل المورد الثاني لا الأول، وبالتالي يشكل التمسك به، وعندها يـبقى إطلاق الدليل الدال على ثبوت الدية على المفضي على حاله.

وقد أجاب(ره) عن أن ما ذكر يصح في مثل النص المذكور، أما في مثل صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع): كان أمير المؤمنين(ع) يجعل جناية المعتوه على عاقلته، خطأ كان أو عمداً[24].

إذ أنه صريح في حمل العاقلة للدية عن المجنون، سواء كان ذلك فيما يكون للأعم والجامع، أم كان فيما يتصور فيه العمد والخطأ[25].

أقول: الإنصاف عدم وضوح المعنى الذي أراده من الصحيح المذكور، ضرورة أنه يحتمل كون المراد من العمد والخطأ ما يكون متصوراً فيه ذلك، مما يعني بقاء الإشكال المتصور على حاله، وعدم وضوح الجواب عنه، فلاحظ.

نعم ما يهون الخطب أن ثبوت الدية على العاقلة إنما هو وجوب تكليفي لا يمنع من اشتغال ذمة الجاني، إنما يجب تكليفاً على العاقلة تفريغ ذمته بعدما كانت مشغولة، فلا تفرغ ذمته بعصيانهم جميعاً عن الأداء والدفع، والله العالم.

——————————————————————————–

[1] المصدر السابق ص 309.

[2] وسائل الشيعة ب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 4.

[3] الاستبصار ج 4 ص 366 باب من وطئ جارية فأفضاها من كتاب الديات.

[4] مباني العروة الوثقى ج 1 ص 161.

[5] كتاب النكاح ص 428 ج 20 من موسوعة تراث الشيخ الأعظم.

[6] فقه الصادق ج 21 ص 310.

[7] جواهر الكلام ج 10 ص 603.

[8] مباني العروة الوثقى ج 1 ص 172.

[9] فقه الصادق ج 21 ص 309.

[10] المصدر السابق ص 311.

[11] الوسائل ب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 4.

[12] مباني العروة ج 1 ص 171.

[13] مباني العروة ج 1 ص 171.

[14] المصدر السابق ص 171-172.

[15] الخلاف ج 4 ص 395, كتاب الصداق.

[16] مباني العروة ج 1 ص 163.

[17] فقه الصادق ج 21 ص 313.

[18] جواهر الكلام ج 10 ص 597- 598.

[19] فقه الصادق ج 21 ص 313.

[20] لسان العرب ج 15 ص 157.

[21] مستمسك العروة ج 14 ص 86.

[22] فقه الصادق ج 21 ص 313.

[23] مستدرك الوسائل ب 8 من أبواب العاقلة ح 5.

[24] وسائل الشيعة ب 11 من أبواب العاقلة ح 1.

[25] مستمسك العروة ج 14 ص 89.