29 مارس,2024

ثنائية الدين(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة
ثنائية الدين(1)

 

يعتبر تحديد موقف الإسلام من الحرية الفكرية والعقدية من الموضوعات المهمة التي يكثر البحث والجدل حولها، وهل يسمح الإسلام لكل أحد باختيار عقيدته وما يريد التعبد به، أم أنه ملزم ومجبور على أمر معين، فلا يجوز له التعبد بما يشاء.

ويحتاج الحديث عن ذلك تأسيس مقدمات:

 

الأولى: مصادر التشريع:

لا ينحصر تحديد الرؤى الفكرية والعقدية ومعرفة الأحكام الشرعية للإسلام في خصوص القرآن الكريم، بل يعد الأعلام المصادر أربعة، وهذا يعني أنها مكملات لبعضها البعض، فيمكن أن يذكر أمر في واحد منها ولا يذكر في البقية، أو يشار له في أحدها إجمالاً ويفصل أكثر في البقية وهكذا، فجملة من العبادات مثلاً قد ذكرت بصورة مجملة في القرآن دون تعرض لتفصيل ما يرتبط بها، فالصلاة مثلاً لم يتحدث القرآن إلا عن أصل وجوبها وبيان أوقات أدائها، لكنه لم يتطرق للحديث عن كيفيتها، كما لم يتعرض للأحكام المرتبطة بها، وهكذا الصوم، والحج والزكاة،، بل نجد هذا أيضاً في العقائد وغير ذلك.

وهذا يعني أن من الخطأ الاقتصار في مقام البحث والاستدلال على واحد من هذه المصادر دون البقية، بأن يأتي شخص فيقول أنا أحكم عقلي، وهو يرفض هذا الأمر، أو نرجع للقرآن الكريم، فلا نجد لهذا الشيء أثراً، مثلاً حد المرتد الفطري وأنه يقتل، فإن القرآن لم يتعرض لشيء من ذلك أصلاً، وهكذا. وكذا الحجاب، فإن القرآن وإن تعرض لذلك لكنه لم يتعرض لتفاصيله والأمور المرتبطة به.

 

الثانية: العلاقة بين الآيات القرآنية والنسب بينها:

حتى يمكن فهم الآيات القرآنية يلزم معرفة العلاقة التي بينها، وملاحظة النسبة بين الآيات، فإننا نعلم باشتمال القرآن على الآيات المكية والمدنية، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، وآيات عامة ومطلقة، وآيات مخصصة ومقيدة، فلابد من تحديد العلاقة بين الآيات، وهذا يستدعي أن يكون المتصدي من أهل الفن والاختصاص في العلوم القرآنية، فما لم يكن كذلك فلن يكون قادراً على التعاطي مع الآيات الشريفة.

كما يلزم لتمامية البحث الوقوف على النسبة بين الآيات القرآنية، وأنها تباين أو عموم من وجه، أو عموم مطلق، وهذا يستدعي الإحاطة بالموضوع الذي تتحدث عنه كل آية من الآيات، فما لم تحصل الإحاطة بموضوع الآية لن يتمكن من ملاحظة نسبتها إلى بقية الآيات، كما لن يتسنى الاستفادة منها، فمثلاً عندما يتمسك بقوله تعالى:- (لا إكراه في الدين)[1] للدلالة على حرية الإنسان في انتخاب ما يشاء من عقيدة، وأنه ليس لأحد أن يجبره على عقيدة معينة، لابد من ملاحظة نسبتها لقوله تعالى:- (ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)[2]، ومن الطبيعي أن تحديد النسبة يتوقف على الإحاطة بموضوع كل واحدة من الآيتين والوقوف عليه، وهكذا قوله تعالى:- (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)[3]، وغيرها من الآيات المباركة.

 

الثالثة: التسليم بتعبدية بعض القوانين: 

لكل نظام من النظم العقلائية قوانين وتشريعات تعبدية تصدر من أصحاب القرار لمصلحة تقتضيها وقد لا يملك الأفراد عللها وأسبابها ويكون المطلوب منهم الموافقة عليها، والالتزام بها.

ولا يختلف الاسلام عن تلك الأنظمة البشرية والعقلائية لأن الشارع المقدس من العقلاء، بل هو سيد العقلاء ورئيسهم، مضافاً لكونه خيراً وأفضل منها، وهذا يعني أنه يتضمن جملة من القوانين والتشريعات التي لا يملك العقل البشري القدرة على الإحاطة بعللها وأسبابها، فوظيفته هي التعبد بها والعمل على وفقها، فعدد ركعات صلاة الصبح مثلاً، أو الظهرين، لا يملك الإنسان السر في ذلك، ولماذا جعلها الشارع هكذا. وما هو السبب في عد تعمد البقاء على الجنابة من المفطرات. ولماذا لا تصح معاملات الصبي؟ وما هو الداعي لجعل عدة الوفاة على المتوفى عنها زوجها قبل الدخول بها؟ ولماذا تجعل عدة الطلاق على المرأة التي ثبت أنها غير حبلى، وهكذا.

ومن ضمن هذه الأمور ما يرتبط بمسألة العقيدة والحرية الفكرية، فعندما يجعل الحد على المرتد مثلاً، يكون ذلك أمراً تعبدياً، وليس من الضروري أن يملك الإنسان القدرة على الإحاطة بأسبابه والوقوف على علله ومناشئه.

وهذه نقطة مهمة، يلزم على كل من يود النقاش أن يسلم بها، حذراً من أن يكون النقاش والبحث جدلياً وسفسطائياً، وهكذا.

 

الرابعة: مفهوم الحرية، وتحديد المقصود منه:

وقع الجدل كثيراً حول هذا المفهوم وبالتحديد في بيان المقصود منه، وتحديد حقيقته وذلك بسبب استعماله في مجالات متعددة ومختلفة من العلوم. نعم يمكن استخلاص معاني أربعة أساسية متميزة لها:

١-معنى خُلقي، وهو ما كان معروفاً في الجاهلية وحافظ عليه العرب.

٢-معنى قانوني، وهو المستعمل في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:- (فتحرير رقبة)[4].

٣-معنى اجتماعي: وهو يطلق على من يكون معفواً عن الضريبة فيقال له حر.

٤-معنى صوفي: وهو الخروج من رق الكائنات[5].

 

والمتحصل من هذه المعاني هو أنها تركز على عنصر الإنسانية كأساس فطري للحرية، ولهذا نجد أن الموسوعة الإسلامية الميسرة قد عرفتها بأنها: القدرة على الاختيار بين الممكنات بما يحقق الإنسانية[6]. وكيف ما كان، فإن الواجب على كل من بلغ مرحلة التكليف أن يتخذ دين الله سبحانه وتعالى عقيدة، ويعتنقه، نعم قد خلى نظام التشريعي الإسلامي من قانون يجبر الإنسان بموجبه على هذا الأمر، وهذا ما دعى البعض أن يتصور حرية الانسان المطلقة في أن يتعبد بما يشاء ويعتنق ما يريد، فجاءوا يقررون أنه يحق لكل فرد أن ينتخب ما يشاء ويتبنى ما يرغب أن يعتقد، ولم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا لذلك ببعض الآيات القرآنية، التي قرروا دلالتها على مدعاهم.

 

 

——————————-

[1] سورة البقرة الآية رقم 255.

[2] سورة آل عمران الآية رقم 85.

[3] سورة الكهف الآية رقم 29.

[4] سورة البقرة الآية رقم 92.

[5] مجلة الاجتهاد والتجديد العدد 8 ص 136.

[6] الموسوعة الإسلامية الميسرة ج 4 ص 869، نقلاً عن مجلة الاجتهاد والتجديد العدد 8 ص 155.