29 مارس,2024

الجهاد الابتدائي

اطبع المقالة اطبع المقالة
  • الجهاد الابتدائي

 

تمسك القائلون بأن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنه يمنع من ثبوت حرية المعتقد، بمسألة الجهاد الابتدائي، حيث اتخذوها عنصراً أساسياً في إثبات ذلك.

ومن المعلوم أن التسليم بصحة ما ذكروه، من عدمه، تستدعي الوقوف عند مجموعة من الأمور على رأسها حقيقة الجهاد الابتدائي، والمقصود منه، والأدلة التي يمكن الاستدلال بها على ثبوته، وما شابه ذلك.

 

حقيقة الجهاد الابتدائي:

وقد يعبر عنه أيضاً بجهاد الدعوة، كما يعبر عنه بجهاد التحرير، وجهاد الطلب، ولقد خلت الكثير من المصادر الفقهية من التعرض لبيان حقيقته، وتحديد المقصود منه، نعم يظهر من غير واحد أنه الجهاد الأصلي، ويلحق به الجهاد الدفاعي، بل لا يبعد القول بأن جميع من تعرض للحديث حول مسألة الجهاد كان كلامه منصباً على الجهاد الابتدائي، وليس الجهاد الدفاعي، وكيف ما كان، فإن المستفاد من كلماتهم في بيان حقيقته أنه:

 

ابتداء المسلمين الكافرين بالحرب بهدف واحد وهو الدعوة إلى الاسلام، وبذل الجهد لجعلهم مسلمين، أو خاضعين للمسلمين، فإن كانوا كفاراً مشركين، كان لهم خياران: القتل، أو الإسلام. أما لو كانوا أهل كتاب، كانت خياراتهم ثلاثة: الاسلام، أو يخضعوا ويصبحوا من أهل الذمة، فيدفعون الجزية، أو أن يقتلوا.

ومن خلال التعريف المتقدم، يتضح أن منشأ الجهاد الابتدائي ليس اعتداء الكفار على المسلمين، وإنما منشأه هو كفر الكفار، والهدف منه دعوتهم إلى الإسلام، وتطهير الأرض من الشرك، وبسط الاسلام على المعمورة، ولو بقي شيء من الكفر فلابد أن يكون تحت هيمنة الإسلام.

 

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في الشروط المعتبر توفرها فيه، فلم يعتبر بعضهم حضور المعصوم(ع)، بل قال بعضهم باشتراط وقوعه أعني الجهاد الابتدائي مرة واحدة في كل عام. وهذا يشير إلى حدود العلاقة مع الآخر، ويؤسس إلى أصالة الحرب في الإسلام، وأن العلاقة مع الآخر غير المسلم هي علاقة الحرب، لأن مقتضى ثبوته اعلان الإسلام الحرب عليهم، وإن لم يعلنوا الحرب عليه.

 

أدلة المشكلين:

وقد استند القائلون بمشروعية الجهاد الابتدائي إلى أمور عدوها دليلاً يثبت مدعاهم، وهي ثلاثة أمور نشير إليها تباعاً:

الأول: السيرة الإسلامية:

 

ونعني بها سيرة النبي الأكرم محمد(ص)، والمسلمين الأوائل، وكيف ما كان، فإن السيرة الإسلامية قائمة على ابتداء الكفار المشركين، وكذا أهل الكتاب بالقتال من أجل دعوتهم إلى الإسلام، ويشهد لذلك أمور:

منها: حروب النبي الأكرم(ص)، فإنها تؤكد ابتدائية القتال مثل:

 

1-غزوة بدر، فإن المسلمين هم من أشعل شرارة الحرب، وبدأها، عندما أغاروا على قوافل قريش في طريقها بين الشام ومكة.

2-غزوة خيبر، فقد هجم المسلمون على حصون اليهود البعيدة جداً عن معاقل المسلمين في شمال المدينة المنورة، ولم يشن اليهود فيها أي هجوم على ديار المسلمين وأراضيهم، ليدافع المسلمون عنها.

3-معركة مؤتة، فقد جهز المسلمون الجيش واتجهوا شمال الجزيرة العربية، وكذلك في جيش أسامة.

4-غزوة المريسيع، أو بني المصطلق، فقد أغار فيها النبي الأكرم محمد(ص) عليهم وهم غافلون.

 

وبالجملة، إن تمام حروب النبي محمد(ص) كانت حروباً ابتدائية، وليست حروباً دفاعية، ما عدا معركتي أحد والخندق اللتين كان النبي(ص) يدافع فيهما عن المدينة المنورة.

ولقد كانت سيرة المسلمين بعد رحلة رسول الله(ص) عن عالم الدنيا منعقدة أيضاً على الابتداء بشكل أوضح من سيرة النبي(ص)، ولم يصدر من المعصومين(ع)، ولا من عامة الصحابة اعتراض أو رفض لما عرف بالفتوحات الإسلامية.

ولا يخفى أن منشأ الشبهة المذكورة يعود إلى الفهم الخاطئ إلى مفهوم الجهاد الدفاعي، وعلى أي حال، فإن في البين وقفات أمام هذا الاستدلال نشير لاثنتين منها:

 

الأولى: توضيح وتحديد المقصود من مفهوم الجهاد الدفاعي، لأن هناك فهماً خاطئاً لهذا المفهوم، فإن المتصور في حقيقته أنه خصوص دفع المهاجم حالاً، فيتصور أن يكون العدو في حالة هجوم والمسلمين في حالة دفعه عن احتلال أراضيهم، أو إبادة شعبهم، أو افناء دينهم.

والصحيح، أن العرف لا يفهم هذا المعنى المحدود للدفاع، بل يراه أوسع من ذلك، ولنوضح ذلك بمثال: لو هاجم من تُحتل أرضه عدوه المحتل لها، فهل يسمى هجموه عليه هجوماً ابتدائياً؟ الصحيح أنه دفاع وليس ابتداء.

والحاصل، إن هذا الفهم الخاطئ لحقيقة الجهاد الدفاعي، وحصره في دائرة ضيقة هو الذي أوجب الوقوع في هذه الشبهة.

 

فمعركة بدر لم تكن حرباً هجومية من قبل النبي الأكرم محمد(ص)، بل كانت حرباً دفاعية، يدافع فيها المسلمون ضد ظلم قريش لصالح حقهم وأموالهم وعودتهم إلى أراضيهم.

وكذا الحال في معركة خيبر، فإن سببها هو ما قام به يهود بني النضير من خيانة ونقض للعهد، والانضمام إلى عدو المسلمين، ومناصرته في حرب الأحزاب، ولا مجال بعد ذلك أن يقال بأن قيام النبي(ص) بمحاربتهم وهم الذين كادوا أن يقضوا على دولته برمتها في معركة الأحزاب، أن حربه حرباً ابتدائية وليست دفاعية عن كيان الدولة وأمنها.

 

وكذلك يجري الحال أيضاً في معركة مؤتة، فإن سبب وقوعها يعود إما إلى الاعتداء الذي وقع على دعاة المسلمين في أطراف الشام، أو لقيامهم بقتل سفير رسول الله(ص)، ولا ريب أن هذا العمل مبرر للرد عليه.

ومثل ذلك غزوة بني المصطلق، فقد أحبط تخطيط الكافرين للهجوم، واستبقهم بذلك.

ولما كانت الشواهد الخارجية كما يستفاد ذلك من المصادر التاريخية، أن الكفار كانوا يستعدون لضرب المسلمين، جاء تجهيز جيش أسامة.

 

الثانية: إنه بعد التسليم بأن الحروب الصادرة من النبي(ص) كانت حروباً هجومية، ولم تكن حروباً دفاعية، فإن من المحتمل جداً أن يكون ذلك مختصاً بتلك الفترة الزمنية من حياة المسلمين، ويكون الحكم بجواز الهجوم حكماً سلطانياً ولائياً، فقد كانت الدولة في تلك الفترة فتية، ولكي لا تموت في مهدها، كانت بحاجة إلى الانتشار والتوسع، فتأمل.

 

ومنها[1]: ما صدر عن رسول الله(ص) من مكاتيب خاطب فيها الحكام وملوك الدول المجاورة وزعمائها، ككتابه إلى كسرى ملك الفرس، وقد جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً، أسلم تسلم، فإن أبيت فإن عليك إثم المجوس.

 

وكتب(ص) إلى المقوقس عظيم القبط: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

 

وجاء في كتاب النبي(ص) إلى قيصر ملك الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين.

وكتب(ص) أيضاً إلى النجاشي الأول، كما كتب أيضاً إلى النجاشي الثاني، وكتب إلى بكر بن وائل، وإلى ابن أبي شمر، وإلى الهرمزان عامل كسرى.

 

وقد صدرت هذه المكاتيب منه(ص) في النصف الثاني من العقد الهجري. ولم تقتصر على من كان في الجزيرة العربية، بل شملت أيضاً من كان خارجها، وقد احتوت على الربط بين الإسلام والسلامة، حيث جاء فيها: أسلم تسلم، ومعنى ذلك أن كل من لم يسلموا، فإنه سوف يقوم(ص) بمحاربته، والهجوم عليه، فيكون هذا تصريحاً منه(ص) بابتداء الحرب والقتال، وأن الحكم بينه وبينهم هو السيف.

 

وهذا الشاهد ممنوع، ذلك لأن الملاحظ فيها أمران:

 

الأول: خلوها من الإشارة من قريب أو بعيد للحديث عن الحرب أو الجزية، أو غير ذلك، بل إن أقصى ما يستفاد منها بيان الآثار المترتبة على الإسلام، بل لو قيل إنها تتضمن الدعوة للمحبة والتسامح والالتقاء لم يكن بعيداً بملاحظة ذكره(ص) للآية الشريفة:- (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

 

الثاني: إن عبارة: أسلم تسلم، لا تتضمن تهديداً بشن الحرب على تقدير عدم الإسلام، ويساعد على ذلك ملاحظة القدرة العسكرية للمسلمين في تلك الفترة، فإن ذلك يمنع أن يكون الصادر من النبي(ص) تهديداً لجميع هؤلاء في وقت واحد، وهو وقت إرسال تلك الكتب. فهل كان بمقدور رسول الله(ص) أن يشن الحرب على جميع هؤلاء دفعة واحدة. نعم لو بني على أن هذه الكتب أرسلت بعد صلح الحديبية أمكن تصور ذلك لأن الجزيرة العربية حينها قد دانت للنبي(ص) تقريباً، أما لو بني على أنها قد أرسلت في السنة السادسة، كما قيل، أو في السنة السابعة، فإن ذلك من الصعوبة بمكان.

 

ولا يعني إرسالها بعد صلح الحديبية القبول بشن حرب عسكرية منه(ص)، وإنما بلحاظ أن المسلمين في تلك الفترة أخذوا منهج الدعوة إلى الإسلام، والحث على الدخول فيه بالسلم، لا بالحرب.

والحاصل، إن أقصى ما يمكن استفادته من العبارة المذكورة، إخباره(ص) بأن من يقدم على الدخول في الإسلام فإنه يسلم من غضب الجبار، ومن دخول النار، وإن لم يفعل كان عليه وزر قومه، لعدم دعوته إياهم إلى الإسلام.

وقد يكون الذي أوجب الفهم المغلوط من العبارة توهم البعض أن الكتب المذكورة كتب فتوحات، وليست كتب دعوة سلام، مع أنه لا يوجد ما يساعد على حملها على ذلك المعنى.

 

نعم قد يتمسك ببعض الرسائل التي تضمنت الإشارة إلى التهديد بالحرب، مثل كتابه إلى كسرى بن هرمزد، فقد نقلته بعض المصادر هكذا: من محمد رسول الله إلى كسرى بن هرمزد، أما بعد فأسلم تسلم، وإلا فأذن بحرب من الله ورسوله، والسلام على من اتبع الهدى.

ومثل ذلك كتابه إلى المقوقس، كما نقل ذلك الواقدي: بسم الله الرحمن الرحيم، من عند رسول الله(ص) إلى صاحب مصر، أما بعد، فإن الله أرسلني رسولاً وأنزل علي كتاباً قرآناً مبيناً، وأمرني بالإنذار والإعذار، ومقاتلة الكفار، حتى يدينوا بديني، ويدخل الناس فيه، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، فإن أنت فعلت سعدت، وأن أنت أبيت شقيت، والسلام.

 

ويمنع من القبول بها أنه قد تفرد بنقلها بهذه الكيفية بعض المصادر التاريخية، فقد تفرد الخطيب البغدادي، وابن شهراشوب بنقل كتابه(ص) إلى كسرى بهذه الطريقة، مع أن أكثر المصادر التاريخية قد نقلته بالصورة الأولى التي نقلناه بها، وقد كان خالياً من الجزية والذمة كما سمعت. مع أن نقل البغدادي يعاني ضعفاً بالإرسال، وهذا يجعل المتعين هو الصورة الأولى التي نقلناه بها، خصوصاً بملاحظة ما ذكرناه من أن الظروف التي كانت محيطة بالنبي(ص) لا تساعد على القيام بحرب عسكرية لجميع هؤلاء دفعة واحدة.

 

وعلى فرض القبول بهذا النص التاريخي، فلابد أن يكون قد صدر من النبي(ص) في السنة السادسة والسابعة من الهجرة، لأن الثابت تاريخياً أن كسرى قد توفي قبل السنة التاسعة من الهجرة، وقد عرفت أنه لم يكن منهج النبي(ص) والمسلمين خلال تلك الفترة منهجاً دعوياً، وإنما بدأ ذلك بعد صلح الحديبية، وهذا يشكل مانعاً من القبول بالنص المذكور.

 

وبالجملة، إن هناك موانع تحول دون القبول بهذا النص، والاعتماد عليه في مقام الاستدلال. نعم ما لا ينكر أن هناك بعض الرسائل الصادرة عنه(ص) إلى أهل الجزيرة العربية وأطرافها من القبائل والتجمعات الصغيرة قد تضمنت أن من لم يسلم منهم فيلزم بدفع الجزية أو ليأذن بالحرب القادمة عليه، فلاحظ رسالته إلى أهل عمان، وملك اليمامة، والمنذر بن ساوى، ورفاعة بن زيد الجذامي، وغيره. ومن الواضح أن هؤلاء لم يكونوا يشكلوا قوة عظمى، بل هم كما سمعت تجمعات صغيرة، لذا خوطبوا بمثل هذه اللغة، ولكن لم يصدر عنه(ص) للقوى العظمى مثل هذا الخطاب، ومضافاً لما سمعته قبل قليل من ملاحظة الظروف الموضوعية، فإن هذه القبائل المحيطة بدولة النبي(ص) كانت تشكل خطراً عليها وفي بداية نشأتها، لذا استدعى ذلك حماية الدولة منها، بينما لم تكن الدول الأخرى تشكل ذلك. بل قد يقف الباحث على خلو بعض الرسائل التي أرسلت منه(ص) إلى بعض المتواجدين في الجزيرة العربية من المطالبة بالجزية أو الحرب، ولعل ذلك لأن المصلحة اقتضت ذلك.

 

ومن هنا يمكن أن يقرر أن ذلك كله يعود لحكم ثانوي وليس أولياً اقتضى أن يتخذ النبي(ص) مثل هذه التدابير في بعض الأوقات، ما يجعل مسألة الجهاد الابتدائي مربوطة بالحكم السلطاني الولائي.

 

ومنها: موقف الأئمة المعصومين(ع) من الفتوحات الإسلامية، فإنه لم يصدر من أحد منهم انتقاد لعمل الخلفاء في هذا الجانب، بل إن الملفت في الموضوع أنهم كانوا يشيرون وينصحون الخلفاء في بعض المناسبات بالإقدام على ذلك، وهذا يدل على ثبوت الدعوى على الإسلام، ففي رواية جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر(ع)، في حوار الإمام علي مع رأس اليهود، جاء: وأما الرابعة يا أخا اليهود، فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور، فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها، فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً، ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي. فإن المستفاد منها حصول المشاورة من قبل الرجل الثاني لأمير المؤمنين(ع)، وأن الفتوحات الإسلامية قد حصلت بمشورة منه(ع).

 

ويساعد على ذلك ما صدر عن أمير المؤمنين(ع) من كلام للرجل الثاني عندما عزم على غزو الروم، حيث قال له: قد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حي لا يموت، إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم بشخصك فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين.

 

وقال له(ع) عندما استشاره في الشخوص إلى قتال الفرس بنفسه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل في ما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.

 

وهذه النصوص على قلتها ضعيفة الأسناد لا تصلح لإثبات حكم شرعي يدل على شرعية الجهاد الابتدائي حتى يتمسك بها القائلون أن الإسلام دين انتشر بالسيف، ولا يملك صفحاً ولا حلماً ومسامحة. على أن بعضها ليس فيه دلالة واضحة على رضى المعصوم(ع) بذلك، فإن مشورة أمير المؤمنين(ع) بشأن حرب الفرس، لم تكن منصبة على قتالهم وحربهم، وإنما كان موضوعها خروج الرجل الثاني بنفسه، وما يترتب عليه من أمر، وشتان بين الموضوعين.

 

ثانياً: إن سكوت المعصوم(ع) قد يكون ناجماً من عدم قدرته على الردع، لأنه يعتبر في صدور الردع منه أن يكون قادراً على ذلك بالأمن من الخطر على نفسه، وعلى من حوله، وعلى الإسلام، فلو لم يتوفر ذلك لم يكن سكوته امضاء للعمل الصادر، ولم يحرز أن سكوت الأئمة الأطهار(ع) منذ عصر أمير المؤمنين(ع) كاشفاً عن الرضا منهم(ع)، لعدم توفر ما يحقق الأمن إليهم لو رفضوا ذلك وردعوا عنه.

 

نعم احتمل بعض المعاصرين رضاهم(ع) بذلك، وقد تمسك لذلك بسكوتهم(ع) الكاشف عن كونهم راضين بذلك، وقرب ذلك السكوت من خلال أنهم قد تتبعوا كل عثراتهم، وقد جمعت روايات كثيرة في المثالب، وهذا عمل يفتخر به غير الشيعة ولم نجد ما يشير انتقاد هذه التجربة، فيكون السكوت عنها كاشفاً عن الرضا منهم(ع)[2].

 

ولا يخفى ما فيه، فإن السكوت أعم من الرضا، سيما بملاحظة ما ذكرناه من أن السكوت قد يكون لبعض الظروف السياسية المحيطة بالشخص الساكت، على أساس أن الظرف الأمني مثلاً لا يخول له الحديث والكلام برفض ما يصدر من أمر، وهكذا.

 

الثاني: حكم العقل:

فإن العقل يحكم بحسن تطهير الأرض من الكفار والمشركين، ونشر التوحيد والعدل، وهذا يستدعي الابتداء بالقتال والجهاد.

وما ذكر من حسن تطهير الأرض من الكفار والمشركين، ونشر التوحيد والعدل، فإنه أمر مسلم، ولا ريب في حسنه، إلا أن الوسيلة المتبعة في تحقيق ذلك لو كانت عبارة عن الحرب والقتال، فإنها مرفوضة، فلا يقبل القتل، وإراقة الدم، والابتداء بالحروب، لأنه سوف يكون ضحيتها بعض المسلمين، وربما استمرت هذه الحروب لسنوات عديدة، لأن تخلف إلا الدمار والخراب.

 

ثم إن التقريب المذكور للعقل مبني على الالتـزام بقاعدة الملازمة، أعني كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، فإذا حكم العقل بحسن شيء فإن الشرع يحكم بكونه واجباً، وأما مع إنكارها، فإنه لن يتم  الدليل المذكور.

 

الثالث: الاستناد إلى مجموعة من النصوص الشرعية:

 

سواء بعض الآيات الشريفة[3]، أو الروايات، فمن الروايات: ما رواه عمر بن أبان، عن أبي عبد الله(ع)، قال: قال رسول الله(ص): الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار[4].

 

ومنها: خبر الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابه، قال: كتب أبو جعفر(ع) في رسالة إلى بعض خلفاء بني أمية: ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضله الله عز وجل على الأعمال، وفضل عامله على العمال، تفضيلاً في الدرجات والمغفرة والرحمة لأنه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة، بيعاً مفلحاً منجحاً، اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد، فمن دعى إلى الجزية فأبى قتل وسبي أهله، وليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله، ومن أقر بالجزية لم يتعد عليه، ولم تخفر ذمته، وكلف دون طاقته، وكان الفيء للمسلمين عامة غير خاصة، وإن كان قتال وسبي سير في ذلك بسيرته، وعمل فيه في ذلك بسنته من الدين، ثم كلف الأعمى والأعرج والذين لا يجدون ما ينفقون على الجهاد بعد عذر الله عز وجل إياهم، ويكلف الذين يطيقون ما لا يطيقون، وإنما كان أهل مصر يقاتلون من يليه، يدل بينهم في البعوث، فذهب ذلك كله حتى عاد الناس رجلين: أجير مؤتجر، بعد بيع الله، ومستأجر صاحبه غارم بعد عذر الله، وذهب الحج فضيع، وافتقر الناس فمن أعوج ممن عوج هذا، ومن أقوم ممن أقام هذا؟ فرد الجهاد على العباد وزاد الجهاد على العباد إن ذلك خطأ عظيم[5].

 

ومنها: خبر السكوني، عن جعفر عن أبيه، عن آبائه(ع) أن النبي(ص)، قال: فوق كل ذي بر بر حتى يقتل في سبيل، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر، وفوق كل ذي عقوق عقوق حتى يقتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق[6].

وقد أجاب عن الخبر الأول بعض الأساتذة(ره)، بأنه مطلق، وأن المستفاد منه هو استخدام القوة، وليس مختصاً بالجهاد، بل ليس مرتبطاً ببحث الجهاد والقتال أصلاً، ولا علاقة له بذلك.

 

وبعبارة أخرى، إن النص المذكور أجنبي تماماً عن موضوع البحث، لأن موضوعه الاستفادة من عنصر القوة، والتعبير بالسيف إنما هو تعبير كنائي عن ذلك، فتأمل.

وكذلك خبر السكوني، فإنه مضافاً إلى ضعف سنده، لا دلالة له على المطلوب، لأن المستفاد منه حديثه عن فضل القتال والقتل في سبيل الله من دن إشارة إلى نوعية الجهاد، وأنه جهاد ابتدائي، أو دفاعي.

 

وأما خبر الحسن بن محبوب، فمضافاً إلى ضعفه بالإرسال، فقد منع[7] من الاستناد إليه لكونه مشوش المتن مضطرب، فإنه لم يذكر المشار إليه في بداية الخبر، كما أن التعبير الوارد فيه يوحي بأنه أفضل من بقية الأعمال بما في ذلك الصلاة والتي هي أهم العبادات. كما أن الضمير في قوله(ع): سير في ذلك بسيرته، لا يعلم مرجعه.

 

ومن المعلوم أن أي نص من النصوص عانى من التشويش أو الاضطراب لم يصح الاستناد إليه والاستدلال به، لعدم الوثوق بكونه صادراً عن المعصوم(ع)[8].

 

 

 

 

[1] الشاهد الثاني من الأمور الدالة على ثبوت السيرة العقلائية على أن الحروب الإسلامية كانت حروباً هجومياً

[2] الجهاد الابتدائي الدعوي في الفقه الإسلامي.

[3] تم الحديث عن بعض الآيات التي يدعى دلالتها على الجهاد الابتدائي، والإجابة عنها، ولا ينحصر الأمر في خصوص ما ذكرناه، بل هناك بعض الآيات المدعى دلالته على ذلك أيضاً، لكن المقام لا يسمح باستعراضها جميعاً، ويمكن للقارئ العزيز متابعتها.

[4] وسائل الشيعة ج 15 ب 1 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح 1 ص 9.

[5] وسائل الشيعة ج 15 ب 1 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه ح 8 ص 12.

[6] المصدر السابق ح 21 ص 16.

[7] جهاد الأمة ص 144-145.

[8] من مصادر البحث مقال الجهاد الابتدائي الدعوي في الفقه الإسلامي(بتصرف).