28 مارس,2024

ضيافة الله

اطبع المقالة اطبع المقالة

روى الشيخ الصدوق(ره)بسند معتبر عن الإمام الرضا(ع)عن آبائه(ع)عن أمير المؤمنين(ع)قال:

إن رسول الله(ص)خطبنا ذات يوم،فقال:

أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة،شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات،هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله،أنفاسكم فيه تسبيح،ونومكم فيه عبادة،وعملكم فيه مقبول،ودعائكم فيه مستجاب،فسلوا الله بنيات صادقة،وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه،فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

مدخل:

إن لمن الصعب على الإنسان،أن يـبين حقيقة هذا الشهر الشريف،واستيعاب دائرة العطاء والبركات النازلة فيه،فإنه شهر الله تعالى،شهر القرآن،شهر الإسلام،ولذا يروى أن النبي(ص)لما حضر شهر رمضان،قال:سبحان الله،ماذا تستقبلون؟وماذا يستقبلكم؟قالها ثلاث مرات.

ويختص هذا الشهر الشريف،بعدة جوانب،جعلته يتميز على بقية الشهور،بعدة مميزات،وجعلت أيامه أفضل الأيام،ولياليه أفضل الليالي،وساعاته أفضل الساعات،فهو شهر نزول القرآن،وانتشار الهدى،وهذا يعني أن هذا الشهر يعتبر موسماً ثقافياً،يمكن الإستفادة منه في زيادة الدائرة المعرفية.

ولذلك نجد هذا الشهر يتميز على غيره من الشهور بانتشار النشاطات الدينية والثقافية،وانتعاش حركة التوعية والإرشاد بين الناس،مما يجعل من هذا الشهر موسماً ثقافياً تربوياً متكاملاً.

ضيافة الله:

هذا ومما يلفت الإنتباه،التعبير الوارد في الخطبة النبوية الشريفة،حيث عبر(ص)عن شهر رمضان،بأنه شهر ضيافة الله سبحانه وتعالى،وهذا تعبير عميق،يشير للبعد المعنوي لهذا الشهر الكريم،فهو تعبير يستوعب جميع حالات القرب من العبد لمولاه،وحالات اللطف من المولى على عبده.

فالخطبة الشريفة تعطي الصورة الواضحة لطبيعة أجواء الضيافة الإلهية،ولا شك أن طبيعة الضيافة تقتضي أن يكون الضيف متأدباً في محضر مضيفه،والمضيف دائم العناية والإلتفات إلى ضيفه.

وهذا ما ربما تشير له الخطبة،من خلال عرض المميزات لهذا الشهر الكريم،فلاحظ قوله(ص):هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله،وجعلتم فيه من أهل كرامة الله،أنفاسكم فيه تسبيح،ونومكم فيه عبادة،وعملكم فيه مستجاب…الخ…

فالشهر الشريف يعتبر فرصة لإستنـزال الرحمة الإلهية،وتحصيل العناية الخاصة من الله سبحانه وتعالى.

شهر التوبة والمغفرة:

وكنـتيجة طبيعية لتلك الضيافة التي تحدث عنها رسول الله(ص)في هذا الشهر الكريم،لا يمكن أن يرد المضيف ضيفه إذا طلب منه شيئاً مما هو في متناول يديه،وسهل عنده،ولذا ورد عنه(ص)قوله:إن الشقي حق الشقي، من خرج منه هذا الشهر ولم يغفر ذنبه.

ومن أبلغ ما ورد في البشارة لشهر رمضان دعاء النبي(ص)على من لم يغفر فيه حيث إنه(ص)قال:من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له.

فإن هذا الدعاء منه(ص)بلحاظ أنه بعث رحمة للعالمين،فيـبشر بسعة الرحمة وعموم الغفران في هذا الشهر.

وهذا يعني أن هذا الشهر المبارك،شهر التربية الروحية،وشهر توطيد العلاقة مع الله جل وعلا،فهو الشهر الذي يعود فيه العبد إلى خالقه،راجياً منه أن يغفر له،ويتوب عليه،ويصفح عنه ما صدر منه.

ومن هنا يتضح لنا ما لشهر رمضان من تأثير كبير في جذب الطليعة الشابة للتعاليم الإسلامية العالية،وربطهم بالحالة الإيمانية،فشهر رمضان مركز إسلامي كبير لرعاية الشباب وتربيتهم،وجذبهم إلى الحياة الدينية الكريمة،والإنطلاق بهم إلى مدارج الكمال والجمال الروحي.

ومن جهة أخرى على أبنائنا الشباب استثمار الفرص المعنوية والروحية في هذا الشهر المبارك،واتخاذه نقطة انطلاق لحياة أفضل.

الفهم السلبي لشهر رمضان:

ولكن وللأسف أن هناك العديد من أبنائنا الشباب،لا زال يتطلع لهذا الشهر المبارك الذي دعينا فيه إلى ضيافة الله تعالى،وشرفه الله سبحانه وتعالى من بين بقية شهور السنة بتخصيصه بالإضافة إليه دون بقيتها،بنظرة سطحية،ترفية،مما يستدعي إفراغ الشهر الشريف من محتواه الحقيقي،وتأثيره الواقعي،وذلك من خلال تصويره الشهر وكأنه:

1-موسم ترفيهي،ملؤه المسابقات الرياضية،والبرامج الترفيهية،والتجمعات المختلفة،وما شابه ذلك.

2-موسم للسهرات اللاهية،من خلال البرامج المخصوصة التي تعرض في آخر الليل،والحفلات الساهرة غير الهادفة،التي لا تعود على حاضريها بشيء من الفائدة والنفع.

3-موسم لتنوع الأكلات،وربما الإفراط فيها،حتى عاد هذا الشهر الشريف،موسماً للتخمة،والإيغال في اللذات والشهوات،على خلاف الأهداف المعلنة وغير المعلنة من أنه موسم لتصفية النفس وتطهيرها.

فهذا الفهم السطحي،يفرغ الشهر من محتواه الحقيقي،وتأثيره الواقعي،ليتحول شهر رمضان إلى شهر الشيطان بدلاً من شهر الله،وشهر الدنيا وشهواتها،لا شهر القرآن،والإسلام،وشهر السهرات اللاهية،لا شهر القيام والعبادة،والمناجات للمحبوب الحقيقي.

والضحية الأولى لهذا الفهم الخاطئ،هم الشباب،فإنهم يحرمون من الفرصة الإستثنائية للعودة والرجوع إلى الله،وترتيب حياتهم في خط الدين.

ولكن يـبقى للشاب الطليعي كلمته،فهو الذي يقرر الإلتحاق بركب الرمضانيـين الحقيقيـين،فيستفيد من العطاءات المعنوية والثقافية للشهر الكريم،أو يـبقى في الدائرة المفرغة للشهوات الدنيوية على طول الخط.

هذا وأملنا كبير في أبنائنا الشباب،أن يمثلوا الوعي والإرادة القوية أمام جميع مغريات الدنيا،وطرقها الملتوية،وينجذبوا لجمال الدين،وسبله المستوية،التي منها شهر رمضان.

الفهم الصحيح للصيام:

هذا ولكي نتعرف الفهم الصحيح لشعيرة الصيام وشهر رمضان،نحتاج أن نحيط بأقسام الصائمين،فإن لذلك مدخلية واضحة في التعرف على تلك الآثار المهمة لهذا الشهر،وتلك العطايا التي منحها الله سبحانه وتعالى لمؤدي حقه،فشهر ضيافة الله تعالى،والذي تكون الأنفاس فيه تسبيح،والنوم فيه عبادة،إلى غير ذلك،لا يتصور أن يكون المراد منه مجرد الإمتناع عن الأكل والشرب،وسائر المفطرات.

ولهذا ذكر أن الصائمين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

الأول:وهو صوم العوام،وهو عبارة عن الإقتصار على الصوم الفقهي الذي يتحقق بترك الطعام والشراب والنساء،وسائر المفطرات على ما قرره الفقهاء في رسائلهم العملية.

الثاني:صوم الخواص،وهو الذي يتحقق بترك المفطرات،مضافاً إلى حفظ الجوارح من مخالفات الله سبحانه وتعالى،من تجنب الغيبة والنميمة والكذب والبهتان.

وقد ورد أن رجلاً جاء للنبي(ص)يسأله طعاماً له ولأبنـتيه الصائمتين،فقال له:أما لك فنعم،وأما لهما فلا،فقد جلستا اليوم تأكلان في لحم المسلمين.

ومثل ذلك في رجلين من أصحابه(ص)حينما كانا ممتنعين عن الأكل والشرب وبقية المفطرات لكنهما لم يمتنعا عن أكل لحم أمين العطاء،فجاءا يطلبان من النبي ما يفطران عليه،فقال لهما:إني أرى على وجهيكما أثر اللحم،فحلفا أنهما لم يأكلا شيئاً،فقال لهما قد أكلتما لحم فلان حينما اغتبتماه.

الثالث:صوم خواص الخواص،وهو عبارة عن ترك كل ما هو شاغل عن الله جل وعلا،من حلال أو حرام.

ولكل واحد من القسمين الأخيرين،أصناف كثيرة،سيما الأول،فإن أصنافه كثيرة لا تحصى بعدد مراتب أصحاب اليمين من المؤمنين،بل كل نفس منهم له حد خاص لا يشبه حد صاحبه.

ومن الواضح أن الصوم الذي يكون محققه في ضيافة الله تعالى،ويكون نومه عبادة ونفسه تسبيح،ليس هو الصوم من القسم الأول،فإن لم يكن هو خصوص القسم الثالث،فلا أقل من كونه القسمين الثاني،والثالث.

وهذا لا يعني أننا نمنع من تحصيل الثواب الإضافي لأصحاب القسم الأول مضافاً إلى سقوط الواجب عنهم،فإن كرم الله تعالى لا حد له.

تقسيم آخر للصائمين:

وقد ينقسم الصائمون إلى تقسيم آخر،من جهة طعامهم وشرابهم إلى صنوف:

الأول:من يكون مأكله ومشربه من الحرام المعلوم،وهذا مثله في بعض الوجوه مثل حمال يحمل أثقال الناس إلى منازلهم فالأجر لمالك الطعام،وله وزر ظلمه وغصبه،أو مثله مثل من ركب دابة مغصوبة إلى بيت الله وطاف بالبيت عليها.

الثاني:من يكون مأكله من الشبهات،وهو على قسمين:

1-من يكون قد أخذ هذا المشتبه بالحرام الواقعي محللاً في الظاهر،وهو يلحق في حكمه بمن يكون مأكله ومشربه من الحلال،وإن كان أقل منه بدرجة.

2-من لا يكون محللاً ولو في الظاهر،وهذا يلحق بأكل الحرام الواقعي،وإن كان فوقه بدرجة.

الثالث:من يكون مأكله حلالاً معلوماً،ولكنه يترف في كيفيته بالألوان الكثيرة،وفي مقداره إلى حد الإمتلاء،وهذا مثله مثل خسيس الطبع الذي يشتغل في حضرت حبيبه بالألتذاذ بما يكرهه،وهو متوقع أن لا يلتذ بشيء غير ذكره وقربه،وهذا عبد خسيس لا يليق بمجالس الأحباء،بل حقه أن يترك وما يلتذ به،وهو لأن يعد عبد بطنه أولى من أن يعد عبد ربه.

الرابع:من يكون حده في الكيفية والمقدار فوق الإتراف،ويلحق بالإسراف والتبذير،وحكم هذا أيضاً ملحق بمن يأكل الحرام المعلوم،وهو أن يعد عاصياً أحق من أن يعد مطيعاً.

الخامس:من يكون مأكله ومتقلبه كلها محلله،ولا يسرف ولا يترف،بل يتواضع لله في مقدار طعامه وشرابه عن الحد المحلل،وغير المكروه،وهكذا بترك اللذيذ،ويقتصر في الإدام على لون واحد،أو يترك بعض اللذائذ وبعض الزيادات.

تقسيمهم من ناحية نية الإفطار والسحور:

ويقتسمون أيضاً من طريق ثالث،وذلك من جهة نيات الإفطار والسحور إلى أصناف:

الأول:من يأكل فطوره وسحوره بلا نية غير ما يقصده الآكلون بالطبع لدفع الجوع أو لذة المأكول.

الثاني:من يقصد ما يقصده الآكلون،مضافاً إلى أنه يقصد كونه مستحباً عند الله وأنه عون على قوة العبادة.

الثالث:من لا يكون قصده من الإفطار والتسحر إلا كونهما مطلوبين لسيدهم ومولاهم،وعوناً على عبادته،ويراعون مع ذلك آدابه المطلوبة من الذكر والعبر والكيفيات،فيقرأون ما يستحب لهم من قراءة القرآن والأدعية والحمد قبل الشروع،وفي الثناء وبعد الفراغ.

خاتمة:

هذا ويمكننا أن نصل في خاتمة المطاف أن الصوم الصحيح الذي ينطبق عليه عنوان ضيافة الله تعالى،والذي شرعه الله تعالى لحكمة تكميل نفس الصائم،هو الصوم الذي يترك أثره على الصائم،بترك عصيان الجوارح كلها،فإن زاد الصائم على ذلك ترك شغل القلب عن ذكر الله تعالى،وصام عن كل ما سوى الله فهو الأكمل،وإذا علم الإنسان حقيقة الصوم ودرجاته وحكمة تشريعه،فلابد له من الإجتناب عن كل معصية وحرام،لأجل قبول صومه لا محالة،وإلا فهو مأخوذ مسؤول عن صوم جوارحه،وليس معنى اسقاط القضاء أمراً ينفع الإنسان يوم القيامة عن المؤاخذة.