قراءة في دعاء كميل

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
518
0

لا ينكر أحد ما للدعاء من قيمة وأهمية في حياة الفرد والمجتمع في الناحية البنائية للمنهج السلوكي وهذا هو ما حدى بمدرسة أهل البيت إلى السعي بمحاولة جعل الدعاء مدرسة تربط الإنسان بالحياة وتربط الحياة بالله سبحانه وتعالى وتؤكد المفهوم الإسلامي الذي لا يجعل من حياة الإنسان معنى مادياً بعيداً عن الروح بل يريد أن يوجد مزجاً حياً بين الروح والمادة في وحدة رائعة تنسجم مع اتصال الجانب الروحي بالجانب المادي في كيان الإنسان.

ومن جملة الأدعية التي تجسد حاجات الإنسانية بما تحويه من مشاكل وآلآم يبرز دعاء كميل كمثال بارز على هذا الصعيد.

ولما كان هذا الدعاء من الأهمية بمكان في نفوس المؤمنين كانت لنا هذه الوقفة معه من خلال محاور ثلاثة:

المحور الأول: سند الدعاء:

من المعلوم عندنا أن الكذب على المعصوم u من المحرمات بل قيل أنه من الكبائر ولهذا لا ينبغي لأحد أن ينسب مقالة للمعصوم ما لم يكن واثقاً من صدورها. ولإحراز صدور شئ عن المعصوم كدعاء أو حديث مثلاً لا بد من ملاحظة أمرين يعضّد كل منهما الآخر على نحو مانعة الخلو :

الأول: ملاحظة السلسلة السندية للدعاء أو الحديث ودراسة رواتها التي اشتملت عليها.

الثاني: ملاحظة المتن والمضمون وقوة المحتوى.

وحينما نريد أن نطبق ذلك على مورد حديثنا فلا إشكال في عدم توفر الأمر الأول وذلك لكون السلسلة السندية للدعاء مقطوعة بالإرسال فلا يمكن تصحيح صدور الدعاء من هذه الناحية.

إلا أن هذا لا يستدعي إسقاط الدعاء عن الحجية والإعتبار ورفع اليد عنه بل لا زال عندنا الطريق الثاني باقياً يمكننا من خلاله إحراز الوثوق والإطمئنان بصدوره بل لا يكاد يرتاب أحد في صدوره هذا ولتوضيح ذلك نقول:

يتميز الكتاب العزيز زاده الله عزة وشرفاً بلغة وأسلوب عن سائر الأدب النثـري العربي بحيث أنه نزل على أهل البلاغة والفصحاء إلا أنهم عجزوا عن مجاراة أسلوبه.

ولأئمتنا أسلوب خاص في الثناء على الله والحمد والضراعة له والمسألة منه يتضح ذلك جلياً لكل من مارس أحاديثهم وأنس بكلامهم وخاض في بحار أدعيتهم .

ولكل إمام من الأئمة لهجة خاصة وأسلوباً خاصاً وإن كانت أساليبهم متقاربة متشابهة فمثلاً للإمام علي u نَفَسَاً أدبياً خاصاً وأسلوباً متميزاً بحيث أن الخبير يمكنه معرفة الحديث الوارد بأنه نَفَسَه أو أنه نَفَسُ أحد المعصومين الآخرين وذلك من خلال عرضه على أحاديثهما كما ذكرنا قبل قليل.

ومن خلال هذا المنهج يحصل لنا الوثوق والإطمينان بصدور هذا الدعاء حيث أننا نلاحظ التوافق في النفس الأدبي مع نفس نهج البلاغة وكذلك حصل لنا الوثوق بصدور الزيارة الجامعة الكبيرة عن الإمام الهادي u لتوافق لغتها مع لغة أهل البيت .

ومن هنا فقد قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء “ره” ونعم ما قال” إننا كثيراً ما نصحح الأسانيد بالمتون فلا يضر بهذا الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوة متنه فقد دل على ذاته بذاته[1].

وبالجملة لا يخفى على أحد ما لهذا الدعاء من رصانة وعلو معاني من جهة كما أنه يتمتع بنحو بساطة مضافاً إلى ما تحمله عباراته من دقة وعذوبة يحببانه إلى النفس.

المحور الثاني: العلاقة مع دعاء كميل:

إن الأدعية الواردة عن طريق المعصومين مرتبة في أوقات خاصة بها فمثلاً دعاء الإفتتاح يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك ودعاء أبي حمزة الثمالي يقرأ في أسحار ذلك الشهر الكريم.

وهذان دعائي الإمامين الحسين وولده زين العابدين u يقرآن مرة واحدة في السنة في خصوص يوم عرفة وهكذا الأدعية الواردة في الأعياد والمناسبات أو الأدعية التي تقرأ إذا ألمت بالإنسان حادثة وأصابه أمراً.

نعم أدعية التعقيبات الواردة بعد كل فرض من الفرائض الخمس تقرأ يومياً لكن هذه الأدعية لما كانت قصيرة لا يتسنى للمؤمن الإبحار من خلالها كثيراً في رحاب الإرتباط بالله سبحانه وتعالى.

ومن هنا يبرز دعاء كميل فإنه يستحب قراءته في ليلة النصف من شعبان وفي كل ليلة جمعة فنرى المؤمنين يواظبون على قراءته كل ليلة جمعة ويقرأونه بصورة جماعية أو فردية، ولذا قد ألفنا هذا الدعاء وأرتبطنا به منذ نعومة أظفارنا مما جعلنا نعيش مع هذا الدعاء وفقراته ومقاطعه وارتبطنا به إرتباطاً وثيقاً مضافاً لما يتضمنه من الإبحار في الإرتباط مع البارئ سبحانه وتعالى.

المحور الثالث: قراءة في دعاء كميل:

لست ها هنا في صدد شرح هذا الدعاء العظيم فإن هذا المجال يحتاج زاداً وبضاعة وما أظن نفسي من فرسان هذا المجال إلا أن ما أذكره هنا هو إطلالة إجمالية على المحتوى التربوي لهذا الدعاء المقدس وذلك لأن الإلتفات لبعض النكات التي تضمنها تساعدنا على القراءة الإرتباطية بالله سبحانه وزيادة التعلق والإحساس بلذة المناجاة فلا تكون القراءة مجرد ترديد لعبارات لا تعدو كونها إلقاءاً عادياً فنقول:

إن لكل واحد من الأدعية المعروفة الصادرة عن أهل البيت هيكلاً وتصميماً خاصاً به وكما ذكرت تظهر أهمية دراسة هذه المناهج في معرفة أساليب الدعاء والمناجاة مع الله فلكل واحد من الأدعية فكرة اساسية رئيسة ومجموعة من الأفكار تحتضن هذه الفكرة ومطلباً أساسياً ومجموعة مطالب تحتضن هذا المطلب الأساس كما يكون لكل واحد منها منهجاً خاصاً في عملية السؤال واسلوباً في الدخول والخروج.

وعندما نحاول أن نتعرف على فكرة تصميم دعاء كميل نرى أنه مصمم على مراحل ثلاث:

الأولى: ما يمكن أن نجعله بمثابة المدخل إلى الدعاء يحاول من خلاله تهيئة الداعي للوقوف بين يدي سيده وإعداده للسؤال والتضرع فإن الذنوب كما هو معلوم تحجب الإنسان عن الله وتحبس دعائه ولأجل أن يقف الإنسان بين يدي ربه موقف الدعاء والمناجاة عليه أن يجتاز أولاً هذه العقبة. وقد قسم الإمامu هذا المدخل إلى فقرات:

يبدأ أمير المؤمنين u هذا المدخل الإعدادي بطلبين من الله سبحانه:

الأول: طلب المغفرة من المولى سبحانه وتعالى فيقول: اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل النقم…

الثاني: طلب الذكر والشكر والقرب فيقول u: وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك وأن توزعني شكرك وأن تلهمني ذكرك.

ولابد للإنسان حينما يتقدم للوقوف في موقف المسألة والدعاء بين يدي الله من الإتيان بهذين الأمرين معاً فلابد أولاً أن يزيل الله عز وجل عن قلبه الحجب والغشاوات ثم بعد ذلك يأذن له بالدنو منه ويوزعه شكره ويلهمه ذكره.

الثانية: يتعرض فيها الداعي لعرض الفاقة والحاجة والرغبة إلى الله: اللهم واسألك سؤال من اشتدت فاقته وانزل بك عند الشدائد حاجته وعظم فيما عندك رغبته.

ثم إن الداعي يبرر هذا العرض ويذكر أن هناك أمرا هو الذي دعاه إلى ذلك فيقول: اللهم عظم سلطانك وعلا مكانك وخفي مكرك وظهر أمرك وغلب قهرك وجرت قدرتك ولا يمكن الفرار من حكومتك.

فكأنه يقرر أنه ليس من الله سبحانه مفرّ. ويشير إلى حقيقة أخرى ألا وهي أنه ليس إلى غيره ملجأ فقال: اللهم لا أجد لذنوبي غافراً ولا لقبائحي ساتراً ولا لشئ من عملي القبيح بالحسن مبدلاً غيرك لا إله إلا أنت.

الثالثة: ما تضمنت استعراض بؤس الإنسان وشقاءه الطويل: اللهم عظم بلائي وافرط بي سوء حالي وقصرت بي أعمالي وقعدت بي أغلالي وحبسني عن نفعي بعد املي وخدعتني الدنيا بغرورها ونفسي بجنايتها ومطالي يا سيدي.

ولما كان الإنسان على معرفة أن هذا البؤس والشقاء قد نجما عن أسباب من عمله وسعيه هو لذا نره يلجأ لله سائلاً إياه أن يهب له هذه الذنوب حتّى لا تشكل حاجباً لدعائه:-

فأسألك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري ولا تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي من سوء فعلي وإساءتي ودوام تفريطي وجهالتي وكثرة شهواتي وغفلتي.

الرابعة: تأكيد حقيقة مهمة جداً يستحضرها الداعي ويجعلها نصب عينه على أنها السبب الرئيس الذي دعاه لذلك: الهي من لي غيرك اسأله كشف ضري والنظر في أمري.

فهو يؤكد على أنه لا ملجأ للعبد في ضره وبؤسه إلا الله سبحانه وتعالى ولذا يلجأ إليه

الخامسة: يشير فيه الداعي إلى أنه لا توجد للعبد حجة على الله في كل ما صدر منه من مخالفة لحدوده وأحكامه وفي ركوب العبد لهواه وإتباعه لشهواته.

السادسة: وهي آخر فقرات المدخل: تتضمن اعترافاً من العبد بذنوبه ومعاصيه وببؤسه وشقائه ثم يعلن أنه لا مفر له ولا ملجأ من الله إلا إليه ومن ثم نراه يطلب منه تعالى أن لا يؤاخذه بسوء أفعاله وجرائمه وجرائره.

ثم بعد ما قدم الداعي بين يدي المولى صحائف الإذعان والإقرار والإعتراف نراه يعلن أنه قد رجع إلى مولاه لكنه بأية حال؟… جاءه معترفاً بذنوبه نادماً منها منكسراً مستقيلاً عالماً ومدركاً أنه لا مفر له من الله إلا بالرجوع إليه ولا مفزع في ضره وبؤسه إلا هو سبحانه قال:

وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري واسرافي على نفسي معتذراً نادماً منكسراً مستقيلاً منيباً مقراً مذعناً معترفاً لا أجد مفرّاً مما كان مني ولا مفزعاً اتوجه إليه في أمري غير قبولك عذري وإدخالك إياي في سعة رحمتك.

ويقول الداعي: وقد اتيتك يا إلهي.. الخ.. ينتهي المدخل وهو المرحلة الأولى وقد تحرك العبد للمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى وأصبح مهيأ للدعاء والتضرع.

المرحلة الثانية: يتعرض فيها الإمام u لذكر الوسائل التي يتوسل بها إلى الله سبحانه وتعالى. وقبل ذكر هذه الوسائل لا بأس بذكر مقدمة قصيرة في المقام:

المعروف أن الدعاء قرآن صاعد في مقابل القرآن النازل من الله تعالى وفي القرآن النازل دعوة إلى العبودية واللجوء والإقبال على الله والإنقطاع إليه وفي القرآن الصاعد تلبية لهذه الدعوة ومن المعلوم أن هناك وسائل يبتغيها العبد في الدعاء إلى الله حيث جعل الله سبحانه بيد الإنسان وفي حياته مجموعة وسائل يبتغيها إليه تعينه في الصعود إليه رحمة منه تعالى بعباده إذ لولا هذه الوسائل لم يتمكن العبد من أن يرفع دعاءه وتضرعه إلى الله. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوسائل:

منها: استغفار النبي لأمته قال تعالى)ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ([2].

فاستغفاره إحدى الوسائل التي رغّب الله تعالى عباده أن يبتغوها وسيلة إليه في الدعاء والإستغفار ولا فرق في ذلك بين حياته وبعد وفاته لأنه حي يرزق عند الله بعد وفاته.

ومنها: التوسل بأهل البيت الرسول وعترته الطاهرة حيث ورد التأكيد على ذلك كثيراً في النصوص فعن داود الرقي قال: إني كنت أسمع أبا عبد الله u أكثر ما يلحّ في الدعاء على الله بحق الخمسة يعني رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين [3].

وكما توجد وسائل إلى الله توجد طائفة من العوائق تحبس الدعاء عن الصعود إلى الله ومن أهم هذه العوائق الذنوب والمعاصي فقد جاء في الدعاء: اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء.

وجاء فيه أيضاً: فاسألك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي.

ولبيان دور الذنوب في حجب الإنسان عن الله نشير لذلك مختصراً فنقول:

إن للذنوب في حياة الإنسان دورين:

أولهما: أنها تحجب الإنسان عن الله سبحانه وتعالى وتقطعه عنه بحيث لا يتمكن من الإقبال على الله والتوجه إليه فلا يتمكن من دعائه لأن الدعاء فرد من أفراد الإقبال على الله تعالى.

وإذا حجبت الذنوب صاحبها عن الله فقد حجبته عن الدعاء أيضاً.

ثانيهما: أنها تحجب الدعاء عن الصعود إلى الله ومن ثم فلا تحصل الإجابة إذ أنها منوطة بالصعود فمتى ما صعد الدعاء إلى الله تمت الإجابة لأنه ليس في ساحة الله عز وجل بخل أو شح وإنما العجز في دعاء العبد عن الصعود إلى الله سبحانه وتعالى

فإذن كما أن الذنوب قد تحبس الإنسان عن الدعاء تحبس دعاءه أيضاً عن الصعود إلى الله.

ولنكتفي بهذا المقدار ونرجع لما كنا فيه وهي المرحلة الثانية من مراحل دعاء كميل حيث ذكرنا أنها تتضمن الوسائل التي يتوسل بها الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، والظاهر أنها أربع وسائل:

الأولى: سابق فضله ورحمته بعباده وحبه لهم: يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبري هبني لابتداء كرمك وسالف برك بي.

فالقصور في عمل العبد وجهده وعجزه يحجبانه عن الله إلا أن سابق فضله سبحانه وتعالى ورحمته بعبدٍ يشفع للعبد إلى الله فإن سابق فضله ورحمته بهذا العبد المقصر دليل على حبه له.

وهذا الحب الإلهي هو الوسيلة التي يقدمها العبد بين يدي حاجاته إلى الله فإنه إذا كان غير مستحق لرحمة الله إلا أن حب الله له يؤهله لرحمته ويضعه موضع الإجابة.

فالله سبحانه بدأنا بالبر والذكر والخلق والتربية قبل أن نسأله ودون أن نستحق منه ذلك فأولى به تعالى أن يبرنا ونحن نسأله ونطلب منه أن يكرمنا وإذا كانت سيآتنا ومعاصينا تحجبنا عن بره ورحمته فإن هناك ما يشفع لنا عنده ويضعنا في مواضع بره ورحمته ألا وهو حبه لنا.

الثانية: حب العبد لله وتوحيده إياه: اتراك معذبي بنارك بعد توحيدك وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك ولهج به لساني من ذكرك واعتقده ضميري من حبك وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعاً لربوبيتك.

هذه ثاني الوسائل فبعد ما توسل u في الوسيلة الأولى بحبه لنا توسل في الوسيلة الثانية بحبنا له وهي وسيلة ناجحة ومؤثرة عند الله كالوسيلة السابقة وهي حبه لنا، فإن للحب قيمة كبيرة لا تضاهيها قيمة عند الحبيب ومهما شككنا في شئ إلا أننا لا نشك في حبنا لله تعالى وأوليائه والحب بضاعة لا يردها المولى سبحانه.

ويأتي في سياق هذه الوسيلة توحيدنا له تعالى وخشوعنا بين يديه واعترافنا له بالربوبية وعلى أنفسنا بالعبودية وصلاتنا وسجودنا وذكرنا.

وهذا كله يرجع إلى شيئين: حبنا له تعالى وتوحيدنا إياه. وهذان بضاعتان لا يردهما سبحانه وتعالى.

فمن غير الممكن أن يحرق الله بالنار وجه عبد طال سجوده بين يديه أو يحرق قلب عبد انطوى على حبه أو يحرق لسان عبد لهج بذكره وشهد بتوحيده ونفى الشرك عنه. ولذا جاء في الدعاء:

وليت شعري يا سيدي وإلهي ومولاي أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت بإستغفارك مذعنة … ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم.

الثالثة: ضعف العبد عن تحمل العذاب لرقة جلده ودقة عظمه: وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه يسير بقاؤه قصير مدته فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها … إلهي وربي وسيدي لأي الأمور إليك أشكو ولما منها أضج وأبكي لأليم العذاب وشدته أم لطول البلاء ومدته.

ويعتبر الضعف وسيلة ناجحة إلى القوي المتين لأن في كل ضعف ما يجذب القوي ويستعطفه فيكسب عطفه ورحمته. وإن في الضعف سراً يطلب القوي دائماً وفي القوة سراً يطلبها الضعيف دائماً فكل منهما يطلب الآخر.

هذا ولا يوجد سلاح أمضى من البكاء والرجاء لدى القوي فهو وسيلة الضعيف وسلاحه يقول أمير المؤمنين u في هذا الدعاء: ….. ارحم من رأس ماله الرجاء وسلاحه البكاء.

وجاء عنه u في مناجاة أخرى: أنت القوي وأنا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلا القوي.

الرابعة: لجوء العبد الآبق إلى مولاه الذي أبق منه وعصاه واستعانته به واستنجاده منه عندما تنقطع الطرق عليه فلا يجد لنفسه ملجأ إلا إلى مولاه.

وقد صور الإمام u هذه الوسيلة أروع تصوير فقال: فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين يا غاية آمال العارفين يا غياث المستغيثين يا حبيب قلوب الصادقين ويا آله العالمين.

فالعبد يجد نفسه هنا مضطراً إلى الله بمعنى أنه لا يجد موضعاً لقضاء حاجته إلا عنده ولا مهرباً إلا إليه ولا ملجأ إلا له ولما لم يكن للعبد من ملجأ ولا مهرب ومكان يحتمي فيه إلا الله سبحانه وتعالى يكون هذا الموقف من أدعى المواقف إلى استنـزال الرحمة منه تعالى ومن هنا كان الإضطرار وسيلة ناجحة إلى من يضطر إليه الإنسان فلا يجد نجاح حاجته إلا عنده.

فلما عرف الداعي أن الملجأ إنما هو إلى الله عز وجل في كل شئ فكل ما ألمت به ملمة أو نابته نائبة أو داهمته مصيبة فزع إليه طلباً لقضاء حاجته ودفعاً لما ألم به وها هو العبد قد تعرض لغضب الله الذي يرجو رحمته فلا يرى ملجأ له غير الله ولا مهرباً يهرب إليه سواه فنراه يخضع له تعالى عندما يسوقه ملائكة العذاب إلى النار طالباً الأمان من الله يعوذ برحمته من غضبه ويستغيثه ويستصرخه ويطلب لنفسه الرحمة منه فيقول:

فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين يا غاية آمال العارفين يا غياث المستغيثين يا حبيب قلوب الصادقين ويا إله العالمين.

وهنا نجد الجواب فبعد أن تم اضطرار العبد إلى مولاه ولجوئه له طلباً لأمنه ورحمته وهو ما يمكننا أن نعبر عنه بعلاقة العبد بالله.

نجد علاقة الله عز وجل بعبده عندما لجأ إليه واحتمى بحماه وأمنه واستغاث برحمته وهرب منه إليه مستصرخاً رحمته وفضله وهو يتعرض لعقوبته وانتقامه. فهل يمكن أن يسمع الله وهو أرحم الراحمين استغاثة عبد ساقه جهله وطيشه إلى نار جهنم يستغيثه ويستصرخه ويناديه بلسان أهل توحيده ويسأله النجاة من النار ويضج إليه فيتركه في عذابها يحرقه لهيبها قال u في الدعاء: أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته وحبس بين اطباقها بجرمه وجريرته وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك ويناديك بلسان أهل توحيدك ويتوسل إليك بربوبيتك يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ….. إلخ….

وبهذا تنتهي هذه المرحلة التي اشتملت على هذه الوسائل الأربع التي توسل بها العبد إلى الله لأجل الدعاء والسؤال ولطلب الوقوف بين يديه.

وهذه المرحلة هي التي تضمنت الفكرة الأساسية الرئيسية والمرحلتان الأولى والثالثة هما الأفكار التي تحتضنها.

المرحلة الثالثة: وهي تتضمن عرض حاجات السائل بين يدي مولاه ويبدأ في تعداد مطالبه أمامه واحدة واحدة.

وتبدأ هذه الحاجات من نقطة الحضيض حيث يكون العبد وعمله وتنتهي إلى نقطة القمة في الموضع الذي يكون طمع العبد وطموحه في سعة رحمة مولاه.

وأحب أن أشير هنا إلى نكتة وهي أن كثيراً من الأدعية يشتمل على قاع وقمة فأما القاع فهو يجسد موضع العبد وما ارتكب من السيئات والذنوب، وأما القمة فهي تمثل طموحه وأمله في الله سبحانه وتعالى وهو الذي لا حدّ لكرمه وجوده وخزائن رحمته وقد بدأ هذا الدعاء الداعي من القاع عندما قال: اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم اللهم اغفر لي الذنوب التي تنـزل النقم اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء. ….. فأسألك بعزتك أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي.

فالقاع ليس إلا حضيض العبودية وما يكتنفها من سيئات وأما نقطة القمة قمة الطموح التي تجسد أمل العبد ورجاءه العظيم في الرحمة الإلهية الواسعة فهي في قوله:

وهب لي الجدّ في خشيتك والدوام في الإتصال بخدمتك حتّى اسرح إليك في ميادين السابقين وأسرع إليك في البارزين وأشتاق إلى قربك في المشتاقين وأدنو منك دنوا المخلصين …. واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك وأقربهم منـزلة منك وأخصهم زلفة لديك فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك.

وعلى أي حال فقد ذكرنا أن الداعي في هذه المرحلة يعرض حاجاته ومطالبه على الله الواحدة بعد الأخرى ويمكننا أن نقسم الحاجات التي أطلقها الداعي إلى طوائف أربع من خلال هذه الفقرات:

الطائفة الأولى: أن يهبه الله ذنوبه ولا يؤاخذه بسيئاته ويتجاوز عما فعله من سوء واقترفه من جرم وارتكبه من قبح فقال: أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة كل جرم أجرمته وكل قبيح أسررته وكل جهل عملته كتمته أو اعلنته اخفيته أو اظهرته وكل سيئة امرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني وجعلتهم شهوداً عليَّ مع جوارحي.

الثانية: نجد أن السائل يترقى فيستنـزل الرحمة الإلهية في كل شأن وفي كل رزق طالباً من الله أن يوفر حظه من كل خير ينـزله: وأن توفر حظي من كل خير أنزلته أو بر نشرته أو رزق بسطته.

الثالثة: وهي تعتبر أطول فقرات الدعاء وتأخذ أكثر اهتمام الداعي وذلك لكونها تمثل علاقته بالله فنراه يطلب من الله جلّ شأنه أن يجعل أوقاته بذكره عامرة وبخدمته موصولة وأن يرزقه الجدّ في خشيته ويدنيه منه ويقربه إليه ويرزقه جواره: وأسألك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة …. قوّ على خدمتك جوارحي واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك والدوام في الإتصال بخدمتك حتّى أسرح إليك في المبادرين واشتاق إلى قربك في المشتاقين وادنو منك دنوا المخلصين وأخافك مخافة الموقنين واجتمع في جوارك مع المؤمنين.

ثم إن الفرق بين الطائفتين الأولى والثالثة مع أن كليهما تخص علاقة العبد بالله سبحانه هو أن الطائفة الأولى سلبية حيث يهتم فيها السائل بطلب المغفرة من ذنوبه والتجاوز عنها، بينما الطائفة الثالثة إيجابية يهتم فيها بإقامة علاقة مع الله على أساس متين من الإخلاص والخوف والخشية والحب والشوق.

الرابعة: يطلب الداعي من الله أن يجنبه كيد الظالمين ومكرهم وشرهم ويجعل كيدهم في نحورهم ويحفظه من ظلمهم وأذاهم: اللهم ومن أرادني بسوء فأرده ومن كادني فكده….. واكفني شرّ الجن والإنس من أعدائي…..

والحمد لله رب العالمين

—————————————————

[1] الفردوس الأعلى ص 51.

[2] سورة النساء الآية 64.

[3] الوسائل ج 4 ح 8844.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة