الجفاف الروحي (4)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
187
0

المرحلة الثانية: ممارسة الشحن الروحي المستمر:

فإذا لم يتعبأ الإنسان روحياً فسوف يـبقى يعيش حالة الظمأ والجوع الروحي، ولا يخفى أن هذا الظمأ والجوع الروحي أخطر بكثير من ظمأ وجوع المعدة، إذ ربما يصبر الإنسان على جوع المعدة وظمأها، ويتحمله وإن كان على مضض، إلا أن الصبر على جوع الروح وظمأها، ربما يؤدي إلى مسخ خطير في هوية الإنسان، وفي عقله، وفي كل مساراته الفكرية والنفسانية والعملية، فقد يتحول الإنسان نتيجة ذلك إلى شيطان يعبث بقيم الحياة، وهكذا فقد يؤدي به ظمأ الروح وجوعها إلى التيه والغواية والضلال، كما قد يؤدي به إلى الخسران في الدنيا والآخرة، قال تعالى:- ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتـتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)[o1] .

ولابد من ملاحظة أن ممارسة عملية الشحن الروحي مجردة دون المرحلتين الأخريـين لا تفي للتخلص من حالة الجفاف الروحي، حيث أنه لن يتسنى للفرد أن يتحصل على تعبئة روحية نقية نظيفة، فضلاً عن أن ينطلق في الآفاق الربانية الطاهرة معتداً فقط على عملية الشحن الروحي، من دون ملاحظة المرحلتين الأخريـين.

بل لو تسنى له الحصول على ذلك، لكنه لم يحصل عملية التخلص من أسباب الجفاف الروحي، فإنه سيـبقى يعيش حالة من الفراغ الروحي، ويعيش حالة الجفاف والضمور والخواء.

وكذا لو مارس الفرد المرحلتين الأخريـين، لكنه لم يعمد إلى عملية التعبئة الروحية، ولم يسيّج نفسه بسياجات تحافظ على ديمومتها وبقائها، فسرعان ما ستنفذ الطاقة الروحية، نتيجة الضغوطات والمؤثرات، وسيرجع من جديد إلى حالة الجفاف الروحي، والفتور العبادي.

كيف نتـعبأ روحياً:

ما هي الروافد التي يمكن للإنسان من خلالها أن يتعبأ روحياً؟…

وما هي السبل التي يمكن اعتمادها في عملية التعبئة الروحية؟…

ومن أين يـتزود الإنسان بالطاقة الروحية؟…

وما هي وسائل التعبئة الروحية؟…

محطات التعبئة الروحية:

عندما نود الإجابة على مثل هذه التساؤلات وأمثالها، فإننا نشير إلى أن هناك مجموعة من محطات التعبئة الروحية، التي يمكن للإنسان أن يتزود منها ذلك.

ويمكننا أن نصنف هذه المحطات كالتالي:

1-محطات التعبئة اليومية، وهي تشمل الفرائض، النوافل، الدعاء، تلاوة القرآن الكريم.

2-محطات تعبئة أسبوعية، وهي صلاة الجمعة، صيام يومين في الأسبوع.

3-محطات شهرية، وهي صلاة أول كل شهر، صيام ثلاثة أيام من كل شهر.

4-محطات تعبئة سنوية، وهي صيام شهر رمضان، الحج، العمرة.

محطات التعبئة الروحية اليومية:

وقد عرفت أنها تـتمثل في:

1-الفرائض اليومية.

2-النوافل اليومية.

3-الأدعية اليومية، من الأدعية النهارية، والليلية، وتعقيـبات الصلوات، والأذكار.

4-تلاوة القرآن الكريم.

كما أن هناك مجموعة من الصلوات المستحبة التي تؤدى يومياً، كصلاة الغفيلة بين المغرب والعشاء، وصلاة الوصية بين المغرب والعشاء، ولكل من هاتين الصلاتين طريقة خاصة مذكورة في كتب الأدعية.

ومن المعلوم أن هذه المحطات التعبوية الروحية، محطات يومية تتولى عملية تزويدنا بالطاقة الروحية، فما أحوجنا أن نقف عند هذه المحطات الربانية لنـتعبأ روحياً، خاصة وأن الواقع بكل ضغوطاته المادية يصادر الكثير من مخزوناتنا الروحية، والكثير من مذخور الطاقة في داخلنا.

إن الإنسان يستيقظ الفجر ليـزود روحياً من خلال أدائه لصلاة الفجر، ثم يـبدأ حركته في الحياة، فتأخذ الطاقة الروحية في التسرب والنفاذ نتيجة الغفلة، والانشغال باهتمامات الدنيا، فيحتاج إلى أن يعود إلى المحطة العبادية للتزود الروحي، والتعبئة من جديد، فيقف عند صلاة الظهر، ويـبدأ بالتعبئة روحياً من جديد، وهكذا تستمر التعبئة الروحية من خلال صلاة العصر، ومن ثم صلاة المغرب، وصلاة العشاء، يضاف إلى ذلك النوافل اليومية، والأدعية والأذكار، وتلاوة القرآن.

ولا يخفى مدى القدرة المخزونة في هذه المحطات الروحية، فكم هي غنية هذه المحطات، متى أحسن الإنسان طريقة التعاطي معها، والاستفادة من عطاءاتها.

المحطات الأسبوعية:

وهي تـتمثل في:

1-أعمال ليلة الجمعة.

2-أعمال يوم الجمعة.

3-صلاة يوم الجمعة.

4-الصيام يومي الاثنين والخميس، أو صيام يومي الخميس والجمعة.

5-صلاة جعفر الطيار، حيث أنها مستحبة في كل وقت، لكنه يتأكد استحبابها في يوم الجمعة لفضل يوم الجمعة.

هذه محطات عبادية أسبوعية، تساهم بدرجة كبيرة في تعبئة الإنسان بالزاد الروحي، والطاقة الإيمانية، وتلتقي هذه المحطات الروحية مع محطات الشحن اليومي، لتمارس دورها الفاعل في صياغة الإنسان إيمانياً وروحياً.

هذا ولا يذهب عليك أن محطات الشحن الروحي الأسبوعية تمثل وقفات لمحاسبة عملية التعاطي مع المحطات اليومية، فربما كان التعاطي يحمل بعض الخلل مما يؤدي إلى تقليل فاعلية التأثير، فالمحاسبة الأسبوعية تساهم في تصحيح عملية التعاطي وتنشيط دورها، ولعل كون يوم الجمعة، وهو يوم العطلة الإسلامية يوم عبادة يتفرغ فيه الفرد المؤمن للمحاسبة والمراجعة وإعادة الحسابات مع نفسه، بحيث يتوفر له في هذا اليوم ما لا يتوفر له في أثناء الأسبوع نتيجة زحمة الانشغالات وكثرتها.

المحطات الشهرية:

وهي عديدة، نشير إلى بعض منها:

1-صلاة أول الشهر، وكيفيتها مذكورة في كتب الأدعية، يمكن مراجعتها.

2-الصدقة بعد صلاة أول الشهر.

2-صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهي الخميس الأولى من الشهر، والأربعاء الأولى من العشرة الثانية، والخميس الأخيرة من الشهر.

وقد ورد أن من صام هذه الأيام الثلاثة، كتب له صيام الشهر بأكمله، وأن من التـزم ذلك في كل شهر فقد صام الدهر بأكمله.

3-صلاة جعفر الطيار، لمن لم يتمكن من الإتيان بها في كل أسبوع، وقد ورد التأكيد الحثيث على الإتيان بهذه الصلاة، فقد ورد في بعض النصوص أن من صلاها كتب الله له من الأجر مثل ما قال رسول الله(ص) لجعفر.

ولا يخفى أن هذه المحطات الشهرية تمارس دورها بالتكامل مع المحطات اليومية، والمحطات الأسبوعية في صياغة الإنسان المؤمن، وتعبئته بالطاقات الروحية.

وهي في نفس الوقت تعتبر مجال محاسبة للإنسان بالنسبة للمحطات اليومية، والأسبوعية، وكيفية الاستفادة منها، ومدى مصداقية تلك الاستفادة في مقام التعبئة الروحية.

المحطات السنوية:

ومن أبرز هذه المحطات التي تعطي الشحن الروحي سنوياً:

1-صوم شهر رمضان المبارك، حيث فيه يتصاعد الوهج الروحي، وتـتوهج الحالات الإيمانية فيه، سيما في ليالي القدر، لما تحويه وتحمله هذه الليالي من فيوضات ربانية كبيرة جداً.

2-موسم الحج، وهو موسم عبادي مملؤء بالعطاءات الروحية والفيوضات الربانية.

3-موسم العمرة، وبالأخص العمرة الرجبية، وموسم الزيارة.

مستويات التعبئة الروحية:

بعد أن تعرفنا على محطات التعبئة الروحية، نحتاج أن نصنف الناس من حيث التعاطي مع هذه المحاطات، وكيفية الاستفادة منها.

ويمكننا أن نصنف الناس من حيث هذه الحالة إلى أصناف:

الأول: من يغيب عندهم التعاطي مع هذه المحطات الروحية:

إذ نجد بعض الناس، لا يقف أساساً عند محطات الشحن الروحي، وهم الذين قال عنهم سبحانه وتعالى:- ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)[o2] . وقال عز من قائل:- ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)[o3] .

الثاني: من تكون عندهم تعبئة روحية، لكنها تعبئة مشوشة:

وهؤلاء الذين يتعاطون مع محطات الشحن بطريقة مشوشة ومغشوشة، لا تعطي الإنسان القدرة على الحركة الروحية.

إن كثيراً من الناس يقومون بممارسة الشعارات العبادية، ويعمدون إلى محطات التعبئة الروحية، من صلاة ودعاء، وممارسة ذكر، وممارسة لتلاوة القرآن، لكنهم لا يعبئون من هذه المحطات بشيء من الطاقة الروحية، وما ذلك إلا لوجود خلل في طريقة التعاطي، وفي طريقة التـزود، فلا تكون هذه العبادات والشعائر الدينية قادرة على أن تمنح الإنسان وقوداً روحياً.

وبعبارة واضحة، لابد من كون طريقة التعبئة الروحية، طريقة صحيحة، وناجعة مجدية، تؤدي إلى ترك أثر إيجابي على المكلف.

الثالث: التعبئة الجزئية المحدودة:

وهؤلاء كثيرون، حيث يقصرون تعبئـتهم الروحية على تعبئة جزئية ضئيلة، ومحدودة، فلا تكاد تفي هذه التعبئة بمنح الإنسان حيوية روحية فاعلة، ولا تملأه نشاطاً روحياً جاداً.

الرابع: التعبئة الأصيلة:

وهي التي توجد عند من يتعامل مع المحطات الروحية معاملة واعية جادة، صادقة، توفر للإنسان زاداً كبيراً من الطاقة الروحية، مما يعطيه القدرة الفائقة على الحركة والنشاط والصحوة القيمة الحقيقية للعبادة.

فالمكلف يؤدي الصلاة الحقيقية، ويمارس الدعاء الكامل، ويأتي بالذكر القلبي، فضلاً عن اللساني، ويقرأ القرآن الكريم متدبراً، وتصوم جوارحه قبل أن يصوم بطنه، فعندها تكون هذه المحطات الروحية تعبئ تعبئة أصيلة، وقويمة.

ولذا متى وجد الإنسان أن ممارسة هذه الشعائر العبادية، وحطات التعبئة الروحية، لا تصنع في نفسه شيئاً، ولا تـترك انطباعاً إيجابياً على روحه وعقله، وسلوكه، فعندها يعلم بوجود خلل في كيفية تعاطيه مع هذه المحطات، واستفادته منها، وهذا يدعوه إلى لزوم مراجعة نفسه، وإعادة حساباته.

روافد تعبوية روحية أخرى:

هذا وتوجد روافد تعبوية روحية أخرى، يمكن للمؤمن الساعي إلى الله سبحانه وتعالى أن يعمد إليها، ويستفيد منها، نشير لبعض منها:

الذكر:

وقد ورد التأكيد الحث الشديد عليه، سواء في الآيات القرآنية، أم في النصوص المعصومية، قال تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً)[o4] .

وجاء عن النبي(ص) أنه قال: ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: ذكر الله عز وجل.

ونقرأ في دعاء كميل بن زياد: ….أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة.

أنواع الذكر:

هذا وقد ذكر أهل الاختصاص أن للذكر أنواعاً ثلاثة:

1-الذكر القلبي: وهو أن يكون الله سبحانه وتعالى حاضراً في قلوبنا.

2-الذكر اللساني: وهو أن يكون الله تعالى حاضراً في ألسنـتنا.

3- الذكر العملي: وهو أن يكون الله تعالى حاضراً في أعمالنا.

وهذا القسم الأخير هو الذي يعبر عن التجسيد الحقيقي للذكر، فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: من أطاع الله عز وجل فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسى الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته[o5] .

الذكر القلبي:

وقد عرفنا أنه يعني أن يكون الله سبحانه وتعالى حاضراً في قلوبنا، ونعني بالاستحضار القلبي:

1-أن نستشعر عظمة الله سبحانه وقدرته.

2-أن نستشعر نعم الله تعالى وفيوضاته.

3-أن نستشعر حضور الله تعالى ورقابته من خلال استشعار حب الله تعالى، والحياء منه، والخوف من عقابه وعذابه، والرجاء في ثوابه.

الرقابة الإلهية:

وهذا يعني أن نعيش الإحساس الدائم بالرقابة الإلهية، في حركاتنا وخواطرنا، في كل عواطفنا، وأفعالنا، وفي كل أقوالنا، ذلك لأن استحضار الرقابة الإلهية يحمي الإنسان من الوقوع في منـزلقات المعاصي والذنوب.

جاء أحد العصاة إلى الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، طالباً منه أن يقوم بعظته، فقال له أبو عبد الله(ع): اعمل خمساً واعص الله ما شئت.

قال الرجل: ما هي؟

قال(ع): أخرج من ملك الله واعص الله ما شئت.

قال الرجل: ليس إلى ذلك من سبيل، هات الثانية.

قال(ع): لا تأكل من رزق الله واعص الله ما شئت.

قال الرجل: ليس إلى ذلك من سبيل، هات الثالثة.

قال(ع): ابحث عن مكان لا يراك الله فيه واعص الله ما شئت.

قال الرجل: ليس إلى ذلك من سبيل، هات الرابعة.

قال(ع): إذا جاءك ملك الموت لقبض روحك فادفعه عن نفسك، واعص الله ما شئت.

قال الرجل: ليس إلى ذلك من سبيل، هات الخامسة.

قال(ع): إذا جاءك الملكان الموكلان ليأخذاك إلى النار، فلا تطعهما.

قال الرجل: ليس إلى ذلك من سبيل.

فقال له الإمام(ع): إذا كنت لا تقدر على ذلك كله فكيف تعصي الله؟ فاتعظ الرجل وتاب[o6] .

——————————————————————————–

[o1]سورة طه الآية رقم 124-126.

[o2]سورة طه الآية رقم 124.

[o3]سورة الإسراء الآية رقم 72.

[o4]سورة الأحزاب الآية رقم 41.

[o5]بحار الأنوار ج 77 ص 86 ح 3.

[o6]بحار الأنوار ج 78 ص 126، ح 7.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة