تأملات في الخطبة الشعبانية(6)-الفضل الذاتي للشهر

لا تعليق
من القلب إلى القلب
202
0

شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات(1)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)بعد الفراغ عن بيان العطاءات الثلاثة التي تعرض لها النبي الأكرم محمد(ص) في خطبته المباركة أشار إلى فضل شهر رمضان وأيامه ولياليه على بقية الشهور وأيامها وليالها، وهذا الأمر يستوجب تساؤلاً وهو:

هل أن فضل شهر رمضان ذاتي له، أم أن فضله باعتبار ما فيه من أمور مثل وجود ليلة القدر فيه، ونزول القرآن، ومعجزة الإسراء والمعراج، وأمثال ذلك من الأمور.

وبعبارة ثانية: هل أن للوقت وهو شهر رمضان بنفسه فضلاً، أم أن فضله إنما هو بلحاظ ما جاء فيه؟…وحتى يتضح الأمر أكثر نشير إلى بعض الأمثلة:

1-يوم الجمعة:

لقد وردت نصوص عديدة تتحدث عن فضل يوم الجمعة، وعن ثواب العمل الذي يصدر من الإنسان فيه، وكيف أنه يقبل، وما شابه ذلك، فالكلام هل أن منشأ القبول للعمل مثلاً، وإجابة الدعاء، ومضاعفة الثواب الواقع فيه، هل هي لخصوص يوم الجمعة بذاته، أم أن ذلك بسبب أمر خارج مثلاً.

2-ليلة القدر:

وهي الليلة المعروفة التي يسعى جميع المسلمين لتحصيلها وإحيائها بالعبادة، والكلام في أن ما ورد في شأنها من فضل وثواب، هل هو لذاتها، أم أن ذلك يعود مثلاً لنـزول القرآن فيها، ولتنـزل الروح والملائكة، وما شابه.

3-شهر رجب:

وقد وردت نصوص عديدة في فضله، وثواب الصيام فيه، وفضل الصلاة، وقراءة الدعاء، وغير ذلك، والكلام هل أن فضل شهر رجب لذاته، أم أن فضله بسبب ما فيه من أمور كونه مثلاً أول الأشهر الحرم، وما شابه ذلك.

وبالجملة، هل أن للأيام والليالي والشهور فضلاً على بعضها البعض، فيكون شهر رجب أفضل من جملة من الشهور، وشهر شعبان أفضل من شهور، ويوم الجمعة أفضل من بقية أيام الأسبوع، وهكذا، شهر رمضان أفضل من بقية شهور السنة، وأيامه ولياليه أفضل من بقية أيام وليالي بقية الشهور، ويكون الفضل ذاتياً، أم أن الفضل إنما هو بلحاظ ما يقع في كل واحد من هذه الشهور من عبادة وعمل، فالشهر الأفضل هو الشهر الذي يكون العبد فيه صالحاً مطيعاً لله سبحانه، واليوم الصالح هو اليوم الذي يوفق فيه العبد لطاعة ربه.

وكما أن البحث يجري في تفاضل الأزمنة، يمكن تسريته أيضاً بالنسبة للنحوسة، بمعنى أن النصوص التي وردت في نحوسة الأيام-على فرض القبول بها-هل أن النحوسة فيها ذاتية، مثلاً ما ورد في نحوسة يوم الأربعاء، أو آخر أربعاء من كل شهر، فهل هي نحوسة ذاتية فيها، أم أن النحوسة فيها ليست ذاتية، وإنما النحوسة فيها بلحاظ ما وقع فيها من أمور كما يستفاد في تعداد أيام الكوامل، إذ ورد أنها أيام أصيب فيها أنبياء الله سبحانه وتعالى وأوليائه، فأخرج آدم من الجنة، وألقي إبراهيم الخليل في النار، وهكذا.

وينسحب البحث أيضاً بالنسبة للأماكن، فيقال: هل أن الأماكن المقدسة فضلها لذاتيتها، فمثلاً مكة وما ورد في فضل الصلاة فيها، هل هو لذات مكة، أم لكونها اشتملت على الكعبة المقدسة، وأنها كانت محط ولادة النبي(ص)، وانطلاقة دعوته المباركة، ولما يقع فيها من عبادة وطاعة.

وكذا المدينة المنورة، هل أن فضلها لذاتها، أم لتضمنها الجسد الطاهر لنبينا الكريم محمد(ص)، والسيدة الزهراء(روحي لها الفداء)، وأئمة البقيع، وهكذا.

في المسألة خلاف بين الأعلام فهم ينقسمون إلى فريقين، كل فريق يقول بقول:

الأول: البناء على أن جميع الأزمنة والأمكنة من حيث الفضل سواء، وأنه لا فضل لواحد منها على الآخر، عمدة ما كان فضل أي واحد منها إنما هو بلحاظ ما يكون فيه من عبادة وعمل صالح، أو علم أو ظهور حكمة، ففضل ليلة القدر على بقية الليال، إنما هو لنـزول القرآن الكريم فيها، وفضل شهر رمضان المبارك على سائر الشهور لكثرة العبادة فيه، وفضل يوم الجمعة على بقية أيام الأسبوع، باعتبار زيادة العبادة وصالح الأعمال فيه

وكذا بالنسبة للأماكن، فإن فضل بعضها على بعض إنما هو بلحاظ ما يكون فيها من عبادة، ففضل المسجد لكونه محلاً للعبادة، لأن شرف المكان بشرف المكين.

والحاصل، إن الفضل إنما هو بلحاظ العمل الواقع في الزمان والمكان، وليس بلحاظ الزمان أو المكان نفسه.

الثاني: البناء على أن للزمان والمكان مدخلية في زيادة الفضل والأجر، بمعنى أن لهما خصوصية تستلزم الزيادة في المثوبة والأجرة، فكما أن لكل عبادة أجراً تفضل فيه عن العبادة الأخرى، وكما أن كل عابد يخـتلف أجره عن العابد الآخر، فكذلك الزمان التي توقع فيه العبادة لا تكون متساوية مع العبادة نفسها التي توقع في زمان آخر، أو في مكان آخر، وهكذا.

فالصلاة مثلاً في نفسها لها فضل، لكنها لو صليت في المسجد، كانت أفضل، ولو كان أدائها في أول الوقت زاد ذلك فضلاً لفضلها، ولو كانت بالجماعة، فيكون الفضل أكثر وأكبر. وهكذا ليلة القدر هي في نفسها ذات فضل، وليس فضلها لما كان فيها، نعم يزيد فضلها بلحاظ ما يقع فيها من عمل وطاعة وعبادة، وهكذا.

ومثل ذلك شهر رمضان المبارك، فهو في نفسه له فضل ومزية على بقية الشهور، ويزيد فضله بلحاظ ما يقع فيه من عمل.

وبالجملة، إن للزمان وكذا المكان فضلاً ذاتياً يخـتلف فيه كل زمان ومكان عن الآخر.

والفرق بين هذا القول والقول الأول واضح جلي.

والإنصاف، أن كلا القولين متصور، ويمكن تقريـبه بما يجعله مقدماً على الآخر، لكن الظاهر أن القول الثاني أقوى، وتساعده جملة من الأمور:

منها: حكم العقل، فإن التفاضل بين الأعيان والأزمان والأماكن أمر ينادي به العقل، بل حتى التفاضل بين أفراد نوع واحد كالدرجات بين الأنبياء والمرسلين، قال تعالى:- (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)[1]، بل التفاضل بين أعضاء الجسم الواحد، وكذا التفاضل بين أبناء جنس الإنسان، وبين قطع الأرض، وبين الأوقات، كتفضيل فضيلة الفجر والعصر على سائر الأوقات.

ومنها: جملة من الآيات الشريفة، كقوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[2]، فإن الوصف لليلة بأنها مباركة من دون بيان منشأ الوصف بأن فيها نزول القرآن أو ما شابه يفيد أن الخصوصية لذات الليلة.

بل إن الظاهر من الآية الشريفة أن نزول القرآن الكريم في هذه الليلة منشأه أنها ليلة مباركة، لا أنها اكتسبت بركتها من نزولا لقرآن الكريم فيها.

وقوله تعالى:- (ليلة القدر خير من ألف شهر)، فإن منشأ خيريتها على هذه الشهور التي ليس فيها ليلة القدر لم تعلل بشيء فيستكشف من ذلك أن فضلها لذاتها.

ومنها: ما جاء في السنة المباركة، ففي دعاء شهر رمضان المبارك: وهذا شهر عظمته وكرمته وشرفته وفضلته على الشهور، فإن هذا يشير إلى نفس الشهر، لا لما حصل فيه من عمل وطاعة. ومثل ذلك أيضاً الخطبة النبوية التي نحن بصدد الحديث عنها، فإن قوله(ص): شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، يفيد نفس هذا المعنى.

هذا ويمكن أن يضاف لما ذكر كشاهد أو كمؤيد لإثبات أن الفضل ذاتي وليس بلحاظ ما يكون فيه من عمل، بأن للزمان والمكان مدخلية أيضاً في العقاب، بمعنى أن الذنب لو ارتكب مثلاً في شهر رمضان المبارك فإن ذلك يستوجب زيادة في العقاب، ومضاعفة في الذنب، وكذا لو ارتكب مثلاً في مكة المشرفة، وما هذا إلا لأن الفضل ذاتي للزمان والمكان، وليس الفضل بلحاظ ما يكون فيه من عمل.

فتحصل أن البناء على أن للزمان خصوصية وفضلاً ذاتياً، ومثل ذلك المكان، أمر وجيه، بل قوي جداً، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.

ثم إنه لو لم يقبل ما ذكرناه، وبني على أن الأفضلية في شهر رمضان ليست لذات الشهر، بل بلحاظ ما يكون فيه من أعمال، فإنه يمكن ذكر جملة من الأمور الموجبة لذلك:

الأول: إضافة هذا الشهر دون بقية شهور السنة لله سبحانه وتعالى، حيث ورد التعبير عنه بأنه: شهر الله، كما عرفت فيما تقدم.

ومن الواضح جداً أن هذه الإضافة تعطي نحو امتياز واختصاص مما يكشف عن أفضلية في المضاف على بقية الشهور الأخرى.

الثاني: إبراز احترامه وتعظيمه بسبب تحريم جملة من الأمور المباحة طيلة أوقات الشهور في بعض أوقاته، كالأكل والشرب والنساء، وأمثال ذلك، فإن هذه الأمور مباحة طيلة أوقات الشهور، لكنها في شهر رمضان تمنع مدة من الزمان، وما هذا إلا لوجود مزية وأفضلية له على بقية الشهور، ولهذا المعنى يشير الإمام زين العابدين(ع) في دعائه عند دخول شهر رمضان: فأبان فضيلته على سائر الشهور بما جعل فيه من الحرمات الموفورة، والفضائل المشهورة، فحرم فيه ما أحل في غيره، إعظاماً، وحجر فيه المطاعم والمشارب إكراماً[3].

الثالث: مضاعفة الثواب فيه، إذ لا معنى لأن يضاعف الثواب فيه لو لم يكن ممتازاً على بقية الشهور، فلا يضاعف الثواب فيها، ويضاعف فيه.

الرابع: اشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

الخامس: نزول القرآن الكريم فيه على قلب النبي محمد(ص).

السادس: اختصاصه بالصوم الذي هو لله سبحانه وتعالى من بين الطاعات وفقاً للحديث القدسي: الصوم لي وأنا أجزي به.

السابع: شهادة أمير المؤمنين وسيد الموحدين علي بن أبي طالب(ع) فيه، وهو القرآن الناطق.

——————————————————————————–

[1] سورة البقرة الآية رقم 253.

[2] سورة الدخان الآية رقم 3.

[3] الصحيفة السجادية الدعاء 44.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة