قال تعالى:- (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)[1].
اتفق المسلمون جميعاً على أن وجوب الخمس كالصلاة، من ضروريات الدين، ومن المسلمات الإسلامية، فلم يختلف في ذلك أحد من فقهاء الفريقين، نعم بينهم خلاف في المتعلق، أعني ما يجب فيه الخمس، وفي مصرفه، وسيتضح ذلك ضمن البحوث القادمة إن شاء الله.
ووفقاً لكون وجوب الخمس من ضروريات الدين، عدّ من أنكر وجوبه كافراً إذا كان إنكاره لوجوبه يرجع إلى إنكار النبوة والرسالة، على تفصيل ليس هذا محل الحديث عنه، فليطلب من البحوث الفقهية.
وقد استفاد فقهاء المسلمين وجوب الخمس من القرآن الكريم، ومن السنة المباركة، لكنهم اختلفوا في بعض المصاديق، وعلى رأسها الخمس في أرباح المكاسب، أو ما يسمى بالخمس في فاضل المؤونة، فقال أتباع مدرسة أهل البيت(ع) بوجوب الخمس فيها، بينما قال أبناء العامة بعدم وجوب الخمس في ذلك، ومنشأ الخلاف بين الفريقين يعود لكيفية التعامل مع الآية الشريفة، فبينما يصر أبناء العامة بعدم إمكانية التمسك بها لإثبات وجوب الخمس في أرباح المكاسب، يذكر أتباع مذهب أهل البيت(ع) تمامية دلالتها على إثبات وجوب الخمس في ذلك. ولكي يتضح أن ما عليه أتباع مدرسة أهل البيت(ع)، هو القول الفصل والحق، فلنشر لشيء من دلالة الآية الشريفة على ذلك.
دلالة الآية الشريفة:
يتفق أبناء العامة مع أتباع مدرسة أهل البيت(ع) في نقطة ترتبط بالآية الشريفة، ويختلفون في البقية، إذ يقررون أن لفظ الغنيمة الوارد في الآية الشريفة بحسب المعنى اللغوي والعرفي يفيد مطلق الفائدة، فيكون شاملاً لكل فائدة، ووفقاً لهذا يلتـزم بوجوب الخمس في أرباح المكاسب لو كنا وظاهر الآية الشريفة بحسب المعنى اللغوي والعرفي، إلا أنهم يقررون بأن هناك ما يمنع من حمل لفظ الغنيمة الواردة في الآية الشريفة على المعنى اللغوي والعرفي، وهو وحدة السياق، فإنه يمثل قرينة مانعة من انعقاد الظهور للفظ الغنيمة في هذا المعنى، ذلك أن الآية الشريفة واقعة في سياق الآيات الشريفة التي تتحدث عن غزوة بدر، ومقتضى وحدة السياق أن يكون الموضوع الوارد فيها متوافقاً مع الحديث عما يكون في الغزوة، ومن ضمن الأمور المتصورة في الغزوة حصول الغنائم الحربية، وبالتالي سوف تكون وحدة السياق قرينة خارجية على تخصيص الغنيمة الواردة في الآية الشريفة بخصوص غنيمة الحرب، فلا يـبنى على انعقاد ظهور لها بصورة مطلقة في مطلق الغنيمة كما هو مفاد المعنى اللغوي والعرفي، وإنما سوف تختص بخصوص الغنيمة الحربية، وعليه سوف ينحصر وجوب الخمس في خصوص غنائم الحرب.
وعند التأمل في ما ذكر، فإننا نقرر أن وحدة السياق من القرائن العقلائية التي يعتمد عليها في تحديد الظهور، سعة وضيقاً، فيصلح أن يكون قرينة عرفية للبناء على ظهور لفظ في معنى خاص، أو تقيـيده، أو إطلاقه، إلا أننا ومع غض الطرف عن إحراز تحقق وحدة السياق في المقام، والبناء فعلاً على أن الآية الشريفة قد نزلت في الحديث عن غزوة بدر، وأنها واردة في سياق الحديث عن نفس الموضوع المرتبط بها، فإننا نقرر حينئذٍ أن مقتضى وحدة السياق، هو تخصيص الغنيمة الحربية بخصوص غنيمة غزوة بدر، وعدم التعدي عن ذلك لبقية الغنائم الحربية الأخرى، لأن هذا هو مقتضى وحدة السياق، وبالتالي لن نتمكن من الاستفادة في الاستدلال بالآية الشريفة إلا في جعل وجوب إخراج الخمس من الغنيمة الحربية التي حصلت نتيجة غزوة بدر، ونحتاج في إثبات وجوبه في الغنائم الحربية الأخرى إلى دليل آخر، لأن وحدة السياق، تقرر ذلك، كما لا يخفى.
ولا ريب أن هذا التحديد باطل، لا يمكن أن يقبل به أحد، فيستفاد أن الدليل كذلك أيضاً غير تام، مما يثبت تمامية ما عليه الشيعة الإمامية، من أن الغنيمة الواردة في الآية الشريفة، مطلقة وفقاً لما هو المستفاد منها سواء بحسب المفهوم اللغوي، أم بحسب المفهوم العرفي.
ثم إنه بعد تمامية دلالة الآية الشريفة على وجوب الخمس في مطلق الفائدة، وأنها غير مختصة بخصوص الغنيمة الحربية، نجد أن هناك بعض الإشكالات المثارة حول هذا الموضوع، أعني وجوب الخمس في أرباح المكاسب، ومن الطبيعي لن يتسنى لنا في هذه العجالة استعراضها جميعاً، إلا أننا نذكر أهم الإشكالات، وهي ثلاثة:
الأول: في أصل التشريع.
الثاني: في ما يمنع من ثبوته اليوم.
الثالث: في المتصدي للتصرف فيه.
تشريع الخمس:
عند الرجوع للنصوص الشريفة التي تتحدث عن الخمس في أرباح المكاسب، نجد أنها صادرة عن الإمامين الباقرين، الإمام الباقر، والإمام الصادق(ع)، ومن جاء بعدهما من المعصومين(ع)، ولا نجد عيناً أو أثراً من هذه النصوص قد صدر عن رسول الله(ص)، أو عن أمير المؤمنين(ع)، وكذا عن الإمامين الحسنين(ع)، ولا عن زين العابدين(ع)، ومن الطبيعي أن هذا يوجب التشكيك في ثبوت الخمس في هذا الأمر، ووجوبه على المكلفين، ضرورة أنه لو كان واجباً لبينه النبي محمد(ص) كما بين غيره من الأحكام الإلهية، وعرضه أمير المؤمنين(ع)، والأئمة الأطهار(ع) كذلك.
وبالجملة، إن عدم وجود نصوص عن المعصومين الأوائل، يوجب التشكيك في الثبوت والوجوب.
ولا أقل من أننا نشك حينئذٍ في كونه وجوباً تعبدياً، إذ نحتمل أنه من الواجبات الولائية السلطانية التي تصدى لها المعصوم وطبقاً لوجود مصلحة اقتضت ذلك، وينتهي العمر الزمني لهذا الحكم بانقضاء المصلحة المقررة له، وهذا كما صنع أمير المؤمنين(ع) عند جعل الزكاة على الخيل العتاق، إذ كلنا يعلم أن الزكاة غير واجبة فيها، لتحديد النبي(ص) الزكاة في أمور تسعة، إلا أن أمير المؤمنين(ع) أصدر حكماً ولائياً سلطانياً من منطلق مكانته السياسية والقيادية على رأسا لدولة بوجوب الزكاة في الخيل، ويسمى هذا بالتصرف في منطقة الفراغ التشريعي، ولسنا بصدد الحديث عنه.
علاج هذا الإشكال:
وقد ذكرت عدة إجابات في كلمات علمائنا عن هذا الإشكال، وما يهمنا قبل التعرض لتلك الإجابات التأكيد على نقطة مهمة جداً، مفادها إن عدم القبول بشيء من الإجابات التي سوف نذكرها لعدم خلو بعضها، أو جميعها من المناقشة مثلاً، لا يمنع من ثبوت الخمس واقعاً، وذلك لأن الإشكال المذكور لا يصلح أن يكون نافياً لوجوبه كما لا يخفى.
وعلى أي حال، فلنعرض لبعض الإجابات التي ذكرت في كلمات أعلامنا علاجاً للإشكال المذكور:
منها: إننا نسلم بأن عدم وجود نصوص صادرة عن النبي محمد(ص)، والأئمة(ع) من بعده حول الخمس في أرباح المكاسب، وأن النصوص المتضمنة لذلك ابتدأ ظهورها في عصر الإمامين الصادقين(ع)، إلا أن هذا لا يمنع من ثبوت الخمس فيها، وذلك لأن صدور النصوص عن الإمام الباقر والصادق(ع)، كان بلحاظ أن لهما حق التشريع والجعل، كما أن ذلك ثابت بالاتفاق للنبي محمد(ص)، كما دلت عليه عدة نصوص ذكرها شيخنا الكليني(ره) في كتابه الكافي، وقد تضمنت تلك النصوص أيضاً أن ما كان ثابتاً لرسول الله(ص)، فهو ثابت لنا، فيتحصل أن النصوص الصادرة عنهما(ع) هي تشريع منهما لوجوب الخمس في أرباح المكاسب، وعليه لا يضر عدم وجود نصوص عن النبي والأئمة(ع) من بعده، بوجوب الخمس.
وحاصل هذا، الاستناد إلى ثبوت التشريع لكافة المعصومين(ع)، وبالتالي كل ما يصدر منهم فهو من التشريع، فيلتـزم بوجوبه، ويمكن أن نقرب ذلك بالمستحبات الواردة في الصلاة مثلاً، فإن النصوص الصادرة عن الرسول(ص)، وأمير المؤمنين والأئمة(ع) بعدهم خالية من التعرض لذكر المستحبات، بل حتى النصوص البيانية التي تضمنت تعليم صلاة رسول الله(ص)، ما كانت تتضمن استعراض المستحبات، وهذا يعني أن ذكرها على لسان الأئمة(ع) جعل وتشريع منهم لها، فيثبت المطلوب.
ومن الطبيعي بعد البناء على ثبوت حق التشريع للمعصوم(ع)، لا يبقى مجال للتشكيك، لأن المعصوم مصدر من مصادر التشريع، وهذا يقتضي أن ما يصدر عنه يمثل حكم الله سبحانه وتعالى، فيكون المكلفون ملزمين بامتثاله، وأدائه، والخمس من هذا القبيل، فإنه مما شرعه الإمامان الباقر والصادق(ع)، فيكون واجباً على المكلفين، ويلزمون بامتثاله وأدائه.
ومنها: إن عدم صدور نصوص عن النبي(ص) والأئمة من بعده، لا تعني عدم ثبوت الخمس في أرباح المكاسب، وإنما مرجع ذلك إلى أن الأحكام الشرعية كانت تبلغ بنحو من التدريج، وقد بني على جواز تأخير تبليغها عن وقت التشريع وفقاً لمصالح كانت تقتضي ذلك، ويشهد لهذا كما قيل تحريم الخمر، إذ أن القرآن الكريم لم يعمد إلى ذكر التحريم دفعة واحدة، وإنما أشار إلى ذلك بنحو التدريج حتى تتمكن العقول في ذلك الوقت من تقبل الأمر، وعلى هذا الأساس قام الرسول(ص) بتبليغ الأحكام الشرعية، فكان يتدرج في تبليغها، ولا تبلغ دفعة واحدة، وقد ادخرت جملة من الأحكام عند وصي رسول الله(ص) بعد رحلته من عالم الدنيا، وأدخر أمير المؤمنين(ع) ما لم يتسنى له تبليغه عند الأوصياء من بعده، حتى قيل بأن هناك أحكاماً بعدُ لم تبلغ لا زالت مدخرة عن المولى صاحب الزمان(أرواحنا له الفداء)، سوف يقوم بتبليغها عند ظهوره(عج).
وطبقاً لما تقدم يتضح أن صدور النصوص المتضمنة لوجوب الخمس في أرباح المكاسب، إنما هو تبليغ لما كان مدخراً عند الإمامين الصادقين(ع)، من الأحكام التي لم يتسنى لرسول الله(ص) إبلاغها.
ولا يخفى مدى الفرق بين هذا الوجه وسابقه، ضرورة أن الوجه السابق يجعل ما ورد عن الإمامين الصادقين(ع) من ثبوت الخمس في أرباح المكاسب جعلاً وتشريعاً منهما، بينما هذا الوجه يقرر أنه من الأحكام المدخرة عند المعصومين(ع) من رسول الله(ص)، ليبلغوها للناس، متى حصل الظروف الملائمة وترتبت المصلحة.
ومنها: إن عدم وجود ما يشير إلى أخذ النبي(ص)، وكذا الأئمة من بعده الخمس من الناس، مع ثبوت أخذه(ص) الزكاة من الناس، وتعيـينه العمال والجباة، يعود لوجود فرق بين الزكاة والخمس، ويتضح هذا الفرق من زاويتين:
الأولى: من خلال نفس الأدلة الدالة على تشريعهما، فإن دليل الزكاة، وهو قوله تعالى:- (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)[2]، يفيد أمر الله سبحانه رسول الله(ص) بلزوم أخذ الزكاة من الناس، ومن الطبيعي أن هذا يستوجب أن يهيئ النبي(ص) المقدمات التي يتوقف أخذ الزكاة عليها، من بعث العمال، والجباة، لأخذها، وهذا بخلافه في الخمس، فإن المستفاد من قوله تعالى:- (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه)، هو تعلق الوجوب بالناس، فهم المكلفون بدفعه، لا أنه(ص) مأمور بأخذه من الناس.
الثانية: ملاحظة جهة المصرف الذي لكل واحد منهما، فإن الزكاة حق للفقراء ومصالح المسلمين، لذا كان(ص) مأموراً بأخذها كما ذكرنا، بينما الخمس إنما هو حق له(ص)، ولأقربائه، فلم يؤمر بالأخذ.
ومنها: إن بعد العهد وكثرة الفصل بين مثل هذه الأزمنة وبين زمان النبي(ص) أوجب الجهل بما في كان في زمانه، خصوصاً مع وجود أمور اُخر مانعة عن ظهور الأحكام الإسلامية ورواجها، مثل تغير مسير الخلافة وانحرافها عن موردها الأصلي، ويشهد لهذا الأمر أن النبي(ص) مع توضئه كثيراً بمحضر من الناس إلى الصلاة اليومية وغيرها، صار وضوئه مخفياً على الناس إلى هذه الأزمنة أيضاً، وقد ورد في كثير من الروايات حكاية وضوء النبي (ص) وبيان كيفيته، وحينئذٍ فلا مانع من خفاء حكم الخمس، خصوصاً مع تعلقه بالرسول وأهل بيته وأقربائه، وبناء الحكومات على عدم شيوع أمرهم وعدم تحقق الاستيلاء لهم بوجه. ولهذا لم يتصدَّ خلفاء الجور لأخذ الخمس، حيث إن أخذه كان موجباً لرفع شأن ذي القربى وهم يعاندونهم ولا يعترفون بحقهم وفضلهم.
ويدل على ما ذكرناه معتبرة سليم بن قيس قال خطب أمير المؤمنين(ع)…فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله(ص) متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله(ص) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله(ص)، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم(ع)فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله(ص)ورددت فدك إلى ورثة فاطمة(ع) ورددت صاع رسول الله(ص) كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله(ص) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ورددت قضايا من الجور قضي بها، ونزعت نساءاً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام، وسبيت ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله(ص) يعطي بالسوية، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة، وسويت بين المناكح، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل، وفرضه ورددت مسجد رسول الله(ص) إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب…الخ..[3]. فإن المستفاد من هذا النص أن هناك أيدي قد عمدت إلى اللعب بالتشريع الإسلامي، وتغيـيره، ومما قامت بالتغيـير أو لا أقل تعطيله فريضة الخمس، كما أنزل الله سبحانه.
على أنه يمكن القول بأنه قد صدرت نصوص عن رسول الله(ص) تضمنت الأمر بدفع الخمس من أرباح المكاسب وما فضل عن المؤونة، وهي الرسائل والكتب التي أرسلها أو كتبها لبعض القبائل التي دخلت في الإسلام، والتي ما كانت تملك القدرة على الحرب والقتال، حتى أنها كانت لا تخرج إلا في الأشهر، فإن التعبير بالخمس الوارد فيها صريح –بمقتضى هذه القرينة-في أنه الخمس في أرباح المكاسب، فلاحظ.
هذا ونعود لنؤكد على ما ذكرناه في مطلع البحث، بأنه لو فرض عدم القبول بشيء من الوجوه المذكورة جواباً عن التساؤل المذكورة لتصور البعض أنها لا تخلو عن الإشكال، كلاً أو بعضاً، إلا أن أصل الإشكال والتساؤل المذكور لا ينفي ثبوت الخمس واقعاً.
روايات التحليل:
هذا وقد يذكر مانعاً آخر من البناء على ثبوت الخمس ووجوبه على المكلفين اليوم، وذلك استناداً لما يعرف في الفقه بروايات التحليل، على أساس أن المستفاد منها تحليل المعصومين(ع) الخمس للشيعة، ومن المعلوم أن التحليل يعني إباحته(ع) لشيعتهم، فلا يجب على أحد منهم أن يخرج الخمس من أمواله، ولنشر بداية لشيء من تلك الروايات:
منها: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع) قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا، ألا وإن شيعتنا من ذلك وآبائهم ـ أبناءهم ـ في حل[4].
ومنها: خبر يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت وأنّا عن ذلك مقصرون؟ فقال أبو عبد الله (ع) ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم[5].
هذا وأول ما يلاحظ في هذه النصوص أنها تنافي القرآن الكريم، لأن المستفاد من الآية الشريفة كما تقدم بيانها أن الخمس ثابت في أرباح المكاسب، وبالتالي من الصعب جداً، بل البعيد أن يعمد المعصوم(ع) إلى مخالفة الكتاب، فيقول بعدم ثبوت الخمس، ووجوبه على الشيعة. نعم لو قيل أن ما عمله المعصوم هو إباحة الخمس في زمان من الأزمنة أو وقت من الأوقات، لما عرفنا أن الخمس حق لرسول الله(ص)، وما كان لرسول الله(ص) فهو ثابت للإمام المعصوم(ع)، كان ذلك مقبولاً، لكنه سوف يكون فترة تحليل ذلك المعصوم الخمس في تلك الفترة، فلا يدل على التحليل والإباحة دائماً وأبداً.
مضافاً إلى أن الذي يظهر من هذه النصوص ليس المعنى الذي تصوره المستشكل، أو المتسائل، وإنما هي ناظرة إلى شيء آخر، إذ أنها تتحدث عن ما يقع في أيدي الشيعة من أيدي الناس مما يكون قد تعلق به الخمس، فهل يجب على الشيعة قبل أن يتصرفوا في تلك الأموال أن يخرجوا خمسها أم لا؟ وبعبارة أخرى، لو وصل لأحد الشيعة مال مثلاً ممن لا يعتقد الخمس، أو من لا يخرج الخمس من أمواله، فهل يجب على الشيعي أن يخرج الخمس منه أولاً، ثم يتصرف فيه، وكذا لو دعاه من لا يعتقد الخمس، أو لا يخرج الخمس من أمواله، فهل عليه قبل إجابة الدعوة وتناول الطعام عنده أن يخرج خمس كل شيء يقع في يده، أم لا؟
إن نصوص التحليل ناظرة لهذا المعنى، فهي تدل على أن المعصومين(ع) قد أباحوا لشيعتهم ما يقع في أيديهم من أيدي الناس مما تعلق به الخمس، فلا يجب عليهم إخراج الخمس منه قبل أن يتصرفوا فيه، بل لهم التصرف فيه مطلقاً، وما زاد عندهم يجري عليه ما يجري على أموالهم الأخرى، ويشهد لهذا المعنى، بل يدل عليه، صحيحة الفضلاء التي ذكرناها في البداية، إذ دلت على أنه(ع) حلل شيعته مما يوجب دخولهم النار، لأنه قد أباح لهم ما يقع في أيديهم من أموال ممن لا يخرج الحق، وهذا يعني أن التحليل ليس بمعنى عدم وجوب الخمس، وأوضح من الصحيح المذكور دلالة ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد الله(ع): قال رجل وأنا حاضر: حلل لي الفروج، ففزع أبو عبد الله(ع)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنما يسألك خادماً يشتريها، أو امرأة يتزوجها، أو ميراثاً يصيبه، أو تجارة أو شيئاً أعطيه. فقال: هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب والميت منهم والحي وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال[6].
وتتضح دلالتها على المدعى من خلال ملاحظة التالي: أن المراجع للتاريخ يجد أن بيع السراري ونكاحهن واستيلادهن كان من الأمور الرائجة في تلك الأزمنة بين المسلمين، ومن الطبيعي أن الشيعة كانوا مبتلين بذلك بيعاً ونكاحاً واستيلاداً، فأباح أئمتنا(ع) حقهم فيهن لتطيب ولادة شيعتهم، وهذا لا ربط له بتحليل سائر ما يتعلق به الخمس، كما أنها تدل على تحليل الأموال المنتقلة للشيعة من غير الشيعة مما تعلق به الخمس.
لماذا ندفع الخمس للفقيه:
وآخر ما نعرض له هو ما يثار بين فينة وأخرى، وهو: لماذا نقوم بدفع الخمس إلى الفقيه، أو أحد وكلائه، إننا نسلم بوجوب الخمس علينا، إلا أننا لن نسلمه لأحد، بل سوف نقوم نحن بصرفه في الموارد المقررة له، وفقاً لما يفتي الفقهاء بذلك.
ومن الطبيعي أن هذا الرفض لدفع المال للفقيه أو وكلائه، ينشأ من أحد احتمالين:
الأول: أن يعتقد المكلف أن هناك مصارف في نظره أولى أن يصرف الحق الشرعي فيها من المصارف التي يقوم الفقيه بالصرف فيها، مع عدم تشكيكه في أمانة ونزاهة الفقيه، ولا وكلائه.
الثاني: أن يكون الموجب لهذا الكلام اعتقاد المكلف أن الحق الشرعي لا يصرف بصورة صحيحة.
وعلى أي حال، ما يهمنا الإجابة عن أصل التساؤل والإشكال بعيداً عن المنشأ والموجب لوجوده في الأذهان، ويمكننا أن نجيب عن ذلك فنقول:
ينبغي للمكلف أن يتوجه إلى أن الآية الشريفة المتضمنة لوجوب الخمس قد قسمت الخمس إلى أقسام، فجعلت سهماً لله سبحانه، وسهماً لرسول الله(ص)، وسهماً لذي القربى، يعني الإمام المعصوم(ع)، فسهم الله سبحانه وتعالى، للرسول محمد(ص)، وما كان لرسول الله(ص) بعد رحلته عن عالم الدنيا فهو للإمام المعصوم(ع)، إلا أن البحث أن الخمس الذي كان لرسول الله(ص)، ومن بعده أصبح للمعصوم(ع)، هل هو ملك شخصي لهما، أم أن ثبوته لهما بمقتضى المنصب، وبالتالي يكون ملكاً لمنصب الإمامة اليوم؟ ومعنى كونه ملكاً شخصياً أن ينتقل الخمس الموجود بيد الإمام(ع) بعد وفاته إلى ورثته ليتصرفوا فيه كما يتصرفون في بقية الأموال الأخرى الثابتة للمتوفى، بخلاف ما لو قلنا بأنه ملك للمنصب، فلا ريب أنه لن يحق لأحد من ورثته التصرف فيه، بل سوف ينتقل إلى الإمام الذي يليه، بحكم ما له من منصب حينئذٍ.
وبعبارة ثانية: هل أن الخمس المجعول في الآية الشريفة، ملك للمنصب، أعني منصب الإمامة، أم أنه ملك لشخص المعصوم(ع). لنتحدث على كلا الاحتمالين، وبصورة موجزة.
أما لو قلنا-كما هو الصحيح-أن الخمس ملك للمنصب، وليس ملكاً لشخص الإمام(ع)، فلا ريب أن الفقيه امتداد لمنصب الإمامة، بمقتضى التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة، قال(عج): وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله. فإن الإرجاع للفقهاء في زمان الغيبة المظلمة أعطي لهم جميع ما كان ثابتاً له(ع) بمقتضى المنصب إلا ما خرج بالدليل، ولم يخرج الخمس بدليل فيكون أمره في زمان الغيبة إليهم. ويدل على أن الخمس ملك للمنصب، وليس ملكاً شخصياً للمعصوم(ع)، معتبرة أبي علي بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن الثالث: إنا نؤتى بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر(ع) عندنا، فكيف نصنع؟ فقال: ما كان لأبي جعفر(ع) بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنة نبيه[7].
وبالجملة، لما كان الخمس ملكاً لمنصب الإمامة، وهو أمر لا يقبل التعطيل مثله مثل بقية الأحكام الأخرى، فالمتصدي له سوف يكون الفقيه، لأنه نائب عن الإمام(ع) في شؤون الإمامة، ونائباً عنه أيضاً في الخمس.
وأما لو قلنا بأن الخمس ملك لشخص المعصوم(ع) ملك شخصي، فأيضاً لا يسوغ للمكلف أن يتصرف فيه قبل مراجعة الفقيه، وذلك لأنه إما أن يكون المكلف متمكناً من الوصول إلى المولى(بأبي وأمي) وتسليمه المال بيده، أو لا يمكن الوصول إليه، ومن المعلوم أنه في ظل غيبتنا عن الإمام(روحي له الفداء) لن يتسنى لأحد منا الوصول إليه، فعندها سوف نتعامل مع هذا المال معاملة المال مجهول المالك، ومن الطبيعي أنه لا يجوز التصرف في المال مجهول المالك إلا بإذن من الفقيه، فيلزم لمن يريد التصرف في سهم الإمام(ع) أن يراجع الفقيه أيضاً.
[1] سورة الأنفال الآية رقم 41.
[2]سورة التوبة الآية رقم 103.
[3] روضة الكافي ص 51 ح 21.
[4] المصدر السابق ح1.
[5]المصدر السابق ح6.
[6] وسائل الشيعة ي 4 من أبواب الأنفال ح 4.
[7]وسائل الشيعة ب 2 من أبواب الأنفال ح 6.